الاتحاد: شريك اجتماعي في تونس أم فاعل سياسي بغطاء نقابي؟
تاريخ النشر: 9th, August 2025 GMT
رغم أنه لا أحد يستطيع إنكار دور الهياكل النقابية الدنيا والوسطى في الثورة، فإن المركزية النقابية قد حاولت بما أوتيت من قوة أن تنقذ نظام المخلوع وتمنع سقوطه، فما سقط من شهداء ومعهم كل أولئك الجرحى الذين كانوا ضحايا الآلة الأمنية والتحريض الإعلامي الممنهج لم يكونوا قادرين على رفع سقف الاحتجاج النقابي إلى مستوى الإضراب العام.
كانت استراتيجية المركزية النقابية -ومن ورائها النواة الصلبة للمنظومة القديمة- أن يرث الاتحادُ الحزب الحاكم وسرديته "التحديثية" وكان ذلك يستوجب التلاعب بالتاريخ القريب قبل البعيد، أي يستوجب إعادة كتابة مزيفة للتاريخ تُغيّب فيها "الشعب المهنية" والرشاوى السياسية للقيادات النقابية -امتيازات مادية ومناصب سياسية في الدولة، خاصة في مجلس المستشارين- وينسى فيها التونسيون والتونسيات خطابات "المساندة" و"رفع التحديات" والاصطفاف اللا مشروط وراء المخلوع في سعيه إلى الحكم مدى الحياة دون التنصيص الدستوري على ذلك، كما فعل من قبله "الزعيم بورقيبة".
منذ المرحلة التأسيسية وانطلاق أعمال ما سُمّي بـ"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، كان واضحا أن المركزية النقابية قد اختارت الاصطفاف مع الأجسام الوسيطة الموروثة من عهد المخلوع، وتلك التي تشترك معها في الموقف من الإسلام السياسي ومن أي مشروع لإعادة التفاوض الجذري حول المشترك الوطني باعتماد التمثيلية الشعبية وصناديق الاقتراع. لقد كان حل "التجمع الدستوري الديمقراطي" بقرار قضائي حلاّ لأحد جناحي النظام القديم وفرصة للجناح الثاني -أي اتحاد الشغل وباقي مكونات "المجتمع المدني"- ليتحوّل إلى فاعل سياسي أساسي، تحت غطاء الدور الوطني المنوط بالنقابيين وبالمجتمع المدني لحماية "النمط المجتمعي التونسي" المهدد من لدن "الظلامية" و"الرجعية الدينية" الممثلة في حركة النهضة وفي المجاميع السلفية وفي حزب التحرير.
رغم الاختلاف المرجعي بين النهضة والسلفية -بل رغم العداء المستحكم لدى السلفية الجهادية والعلمية للإخوان جميعا- فإن الاتحاد وباقي "القوى الديمقراطية" قد حرصوا على القفز على تلك الاختلافات، والتعامل مع الجميع باعتبارهم هوية متجانسة تُمثّل العدو الوجودي للثورة وللمجتمع ولكل القيم التي يدافع عنها "الحداثيون" بمختلف مرجعياتهم الإيديولوجية. فـ"الإسلاميون" لا يمكن أن يحضروا في السرديات "الحداثية" إلا في مفردات "الإرهاب" و"الخيانة" و"العمالة" و"الفساد"، كما لا يمكن إدارة الصراع معهم بمنطق ديمقراطي أساسه الاحتكام للإرادة الشعبية، بل تجب مواجهتهم -بلا استثناء- في إطار مقاربة أمنية-قضائية؛ هي في جوهرها مجرد إعادة تفعيل للمقاربة التي اعتمدها النظام القديم في عهد المخلوع دفاعا عن "الأساطير التأسيسية" للدولة-الأمة، أي للكيان الوظيفي ذي البنية الجهوية-الريعية-الزبونية واقعيا وذي الخطاب "الوطني" خطابيا.
لقد كان الاتحاد وباقي مكونات المجتمع المدني أول من رفع شعار مقاومة "أخونة الدولة" أو "أسلمتها"، وهو شعار تفرع عنه شعار "منع الاختراق" لأجهزة الدولة، بل للمنظمات المدنية وللإعلام وغير ذلك. ولم تكن تلك الشعارات في حقيقتها إلا محاولة للمحافظة على جزء من ميراث المخلوع كما هو، فإذا كان المد الثوري قد فرض على الدولة الاعتراف بالنهضة حزبا قانونيا، وإذا كانت الإرادة الشعبية قد دفعت بها -عبر صناديق الاقتراع- إلى مركز النظام البرلماني المعدّل، فإن للمجتمع المدني -بقيادة الاتحاد- القدرة على إفراغ هذا الوضع من أي معنى، بل كانت له القدرة على الانقلاب عليه كما حصل عند سقوط الترويكا في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، وفرض حكومة "كفاءات" هي في حقيقتها حكومة المنظومة القديمة ورعاتها الأجانب، ولعل الأخطر من ذلك -في المستوى الرمزي- هي أنها أول حكومة تُفرض على التونسيين بمنطق الاستقواء بالشارع وبالإضرابات العامة، دون أن تكون لها أية شرعية انتخابية.
مثل الأغلب الأعم من "القوى الديمقراطية"، كان الاتحاد حليفا موضوعيا لورثة المنظومة القديمة، بل كان الفاعل الأساسي الذي أُوكلت إليه مهمة إفشال الانتقال الديمقراطي وإعادة انتشار المنظومة القديمة بعد الاختلال الجزئي/المؤقت الذي عاشته بعد الثورة، ولذلك عملت "ماكينة" الاتحاد بسرعتين مختلفتين تبعا لهوية الماسك بزمام السلطة أو الراغب في الوصول إليها. ولذلك وجدنا المركزية النقابية تسارع إلى تنفيذ الإضرابات العامة والقطاعية لإضعاف حركة النهضة وحلفائها ولمساندة الأحزاب "الديمقراطية" في استراتيجيتَي الاستئصال الصلب والناعم، ولكنها كانت أكثر "وطنية" عند التعامل مع حكومة نداء تونس وشقوقها، ثم أصبح مفهوم الإضراب العام جزءا من اللا مفكر فيه بعد "تصحيح المسار" الذي ساهم الاتحاد ومنظمات المجتمع المدني في إنضاج شروطه الفكرية والموضوعية.
مهما كانت الخدمات التي قدمتها المركزية النقابية للمنظومة الحاكمة قبل الثورة ولورثتها وحلفائها في اليسار الوظيفي بعد هروب المخلوع، فإن الاتحاد لم يكن يوما جزءا من النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة، فهو مجرد فاعل جماعي مهم ولكنه فاعل بـ"الوكالة" أو بـ"المناولة" الأيديولوجية لحساب الغير أساسا (المركّب الجهوي-الأمني-المالي)، ثم لخدمة قضاياه الصغرى بالتبعية (بعض الامتيازات المادية والقيمة الاعتبارية). ولذلك كانت المركزية النقابية دائما ظهيرا موثوقا للنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي منذ الأيام الأولى "للثورة"، وكانت حليفا لكل واجهاتها السياسية منذ نداء تونس إلى "تصحيح المسار".
ورغم أن النهضة حاولت أن "تؤسلم" دور اليسار الوظيفي وارتضت أن تلعب دور "الوطد" بخيار "التوافق" منذ أعمال هيئة ابن عاشور، فإنها لم تكن شريكا استراتيجيا للنواة الصلبة للحكم، بل شريكا مؤقتا وغير موثوق لدى رعاتها الإقليميين والدوليين، وهو ما جعلها في مرمى "الوكلاء التقليديين" لتلك النواة، بدءا من الأحزاب، مرورا بالإعلام، وانتهاء بالمجتمع المدني بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل.
لقد حرص الاتحاد -وباقي "القوى الديمقراطية"- على إنهاء "الفاصلة الديمقراطية"، أو على الأقل حرصوا على "تلغيمها" منذ الأيام الأولى للثورة، ولم يكن إسقاط الترويكا وتوظيف الاغتيال السياسي والإرهاب المُعولم واستضعاف الدولة بالإضرابات؛ إلا آلية من آليات إعادة هندسة الحقل السياسي وغيره بعيدا عن الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع، بل بعيدا عن أي اهتمام بـ"الحقيقة" وبـ"المهمشين" الذين يدعي الاتحاد الدفاع عنهم. فالمركزية النقابية -مثلُها في ذلك كمثل أغلب مكونات المجتمع المدني- هي مجرد ملحقات وظيفية بالنواة الصلبة للحكم، وهي "أقليات إيديولوجية" لا مصلحة لها في أي ديمقراطية حقيقية تعبّر عن تلك الفئات والأيديولوجيات المقصيّة من أجهزة الدولة ومن امتداداتها "المدنية" منذ عهد المخلوع. ولذلك كان من المنطقي أن يساند "النقابيون" و"الناشطون المدنيون" و"النسويات" نداء تونس، وأن يضغطوا عليه لابتزاز حركة النهضة في ملفات الاغتيال السياسي والإرهاب والتسفير و"الجهاز السري"، وكان من المنطقي أيضا أن يساندوا "تصحيح المسار" الذي رأوا فيه إمكانية جديدة لإخراج حركة النهضة من الحقل السياسي القانوني وتحويلها إلى ملف أمني-قضائي، كما كان الشأن زمن "صانع التغيير" و"رفع التحديات" بمشاركة المركزية النقابية وشُعبها المهنية.
رغم أن الاتحاد قد انقلب على سرديته القائلة بدوره الوطني -أي السياسي- بعد "تصحيح المسار"، فإنه قد وجد نفسه دون مرتبة الشريك الاجتماعي التي تمتع بها زمن المخلوع وفيما يُسمّيه بـ"العشرية السوداء". فالمركزية النقابية قد تعاملت مع "تصحيح المسار" باعتباره فرصة لإقصاء النهضة وإعادة الشراكة مع المنظومة القديمة تحت سقف النظام الرئاسي، وهي قراءة أثبتت الوقائع مجانبتها للصواب. فـ"تصحيح المسار" باعتباره السردية السياسية الجديدة للمنظومة القديمة لا يقوم على منطق الشراكة، بل على منطق البديل الكلي والشامل للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة. ولذلك وجد الاتحاد نفسه -ومعه سائر مكونات المجتمع المدني و"الموالاة النقدية" المتمثلة في العديد من أحزاب اليسار الوظيفي- خارج السلطة، بل خارج أي حوار معها على أساس الشراكة. وهو وضع حرج لم تجد المركزية أي رد عليه ولا يبدو أنها قادرة على ذلك، فالشيطنة المُمنهجة للأحزاب ولسائر الأجسام الوسيطة التي لا تشبه "العائلة الديمقراطية" هي عملية لم يكن الاتحاد نفسه لينجوَ منها.
إننا أمام ما يمكن تسميته بـ"الآثار غير المقصودة"، أي تلك الآثار التي لم تكن مرادة في استراتيجيات أصحابها ولكنها تحصل ضد إرادتهم. وهو ما ما نرجّح أن يستمر على الأقل في المدى المنظور بحكم "الوضع البرزخي" الذي تعاني منه القوى الديمقراطية باتحادها وإعلامها وأحزابها ومجتمعها المدني: استحالة التموضع في ما بعد 25 تموز/ يوليو 2021 ولو بمرتبة شريك "صغير"، واستحالة العودة إلى 24 تموز/ يوليو 2021 دون أن يستفيد "العدو الوجودي" -أي حركة النهضة- من ذلك.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء التونسيين الديمقراطية اتحاد الشغل تونس اتحاد الشغل ديمقراطية قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة رياضة صحافة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القوى الدیمقراطیة المجتمع المدنی تصحیح المسار حرکة النهضة لم یکن
إقرأ أيضاً:
رئيس الكونغو الديمقراطية يعيّن شخصيتين معارضتين في الحكومة الجديدة
ضم رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي اثنين من الشخصيات المعارضة ضمن تعديل وزاري في التشكيلة الحكومية الجديدة، التي أعلن عنها التلفزيون الرسمي فجر اليوم الجمعة.
واحتفظت رئيسة الوزراء جوديث سومينوا تولوكا بمنصبها، بينما عُيّن الزعيم المعارض ورئيس الوزراء الأسبق (2008-2012) أدولف موزيتو نائبا لرئيسة الوزراء ووزيرا للميزانية، وفلوريبر أنزولوني، زعيم حزب سياسي معارض صغير، وزيرا للتكامل الإقليمي.
وتضمّ التشكيلة الجديدة 53 وزيرا مقابل 54 في التشكيلة السابقة، واحتفظ ثلاثة أرباع الوزراء بمناصبهم، من بينهم وزير الاتصالات والمتحدث الرسمي باسم الحكومة، باتريك مويايا، ووزيرة الخارجية تيريز كاييكوامبا.
ومن بين الوزراء الذين شملهم التعديل إيف بازيبا التي انتقلت من وزارة البيئة إلى الشؤون الاجتماعية، وحلت محلها ماري نيانغي، بينما انتقلت إيمي بوجي من وزارة الميزانية إلى وزارة التخطيط.
وانتظر الشعب الكونغولي بصبر نافد هذا التعديل الوزاري الذي حصل في أعقاب "مشاورات سياسية" جرت سابقا هذا العام، في فترة اتسمت بأزمة أمنية خطرة شرقي البلاد.
ويعاني شرق الكونغو الديمقراطية الغني بالموارد الطبيعية، خاصة المعادن، من نزاعات منذ أكثر من 30 عاما.
ويتولى تشيسيكيدي السلطة منذ كانون الثاني/يناير 2019، وأعيد انتخابه بأكثر من 73% من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت في 20 ديسمبر/كانون الأول 2023.
وفازت أحزاب "الاتحاد المقدس" التي ينتمي إليها الرئيس بنحو 90% من المقاعد في الانتخابات التشريعية التي جرت في اليوم نفسه.
وترشح للانتخابات الرئاسية في 2023 أدولف موزيتو وفلوريبير أنزولوني، وحصلا على 1.13% و0,08% من الأصوات على التوالي.