رغم أنه لا أحد يستطيع إنكار دور الهياكل النقابية الدنيا والوسطى في الثورة، فإن المركزية النقابية قد حاولت بما أوتيت من قوة أن تنقذ نظام المخلوع وتمنع سقوطه، فما سقط من شهداء ومعهم كل أولئك الجرحى الذين كانوا ضحايا الآلة الأمنية والتحريض الإعلامي الممنهج لم يكونوا قادرين على رفع سقف الاحتجاج النقابي إلى مستوى الإضراب العام.

ولا شك عندنا في أن سقوط المخلوع لم يكن حدثا متوقّعا عند عموم التونسيين، ولم يكن رهانا مطروحا ولا حدثا مرجوّا عند المركزية النقابية، ولكنّ المركزية النقابية استغلت غياب قيادة واضحة للثورة ومشاركة الهياكل النقابية المكثّفة في الحراك الثوري لتروّج لسرديتها الخاصة التي جعلتها أمام الرأي العام -بتواطؤ من المنابر الإعلامية العمومية والخاصة وبدعم نشط من "القوى الديمقراطية"- قاطرة الثورة أو الفاعل الأساسي فيها.

كانت استراتيجية المركزية النقابية -ومن ورائها النواة الصلبة للمنظومة القديمة- أن يرث الاتحادُ الحزب الحاكم وسرديته "التحديثية"  وكان ذلك يستوجب التلاعب بالتاريخ القريب قبل البعيد، أي يستوجب إعادة كتابة مزيفة للتاريخ تُغيّب فيها "الشعب المهنية" والرشاوى السياسية للقيادات النقابية -امتيازات مادية ومناصب سياسية في الدولة، خاصة في مجلس المستشارين- وينسى فيها التونسيون والتونسيات خطابات "المساندة" و"رفع التحديات" والاصطفاف اللا مشروط وراء المخلوع في سعيه إلى الحكم مدى الحياة دون التنصيص الدستوري على ذلك، كما فعل من قبله "الزعيم بورقيبة".

منذ المرحلة التأسيسية وانطلاق أعمال ما سُمّي بـ"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"، كان واضحا أن المركزية النقابية قد اختارت الاصطفاف مع الأجسام الوسيطة الموروثة من عهد المخلوع، وتلك التي تشترك معها في الموقف من الإسلام السياسي ومن أي مشروع لإعادة التفاوض الجذري حول المشترك الوطني باعتماد التمثيلية الشعبية وصناديق الاقتراع. لقد كان حل "التجمع الدستوري الديمقراطي" بقرار قضائي حلاّ لأحد جناحي النظام القديم وفرصة للجناح الثاني -أي اتحاد الشغل وباقي مكونات "المجتمع المدني"- ليتحوّل إلى فاعل سياسي أساسي، تحت غطاء الدور الوطني المنوط بالنقابيين وبالمجتمع المدني لحماية "النمط المجتمعي التونسي" المهدد من لدن "الظلامية" و"الرجعية الدينية" الممثلة في حركة النهضة وفي المجاميع السلفية وفي حزب التحرير.

رغم الاختلاف المرجعي بين النهضة والسلفية -بل رغم العداء المستحكم لدى السلفية الجهادية والعلمية للإخوان جميعا- فإن الاتحاد وباقي "القوى الديمقراطية" قد حرصوا على القفز على تلك الاختلافات، والتعامل مع الجميع باعتبارهم هوية متجانسة تُمثّل العدو الوجودي للثورة وللمجتمع ولكل القيم التي يدافع عنها "الحداثيون" بمختلف مرجعياتهم الإيديولوجية. فـ"الإسلاميون" لا يمكن أن يحضروا في السرديات "الحداثية" إلا في مفردات "الإرهاب" و"الخيانة" و"العمالة" و"الفساد"، كما لا يمكن إدارة الصراع معهم بمنطق ديمقراطي أساسه الاحتكام للإرادة الشعبية، بل تجب مواجهتهم -بلا استثناء- في إطار مقاربة أمنية-قضائية؛ هي في جوهرها مجرد إعادة تفعيل للمقاربة التي اعتمدها النظام القديم في عهد المخلوع دفاعا عن "الأساطير التأسيسية" للدولة-الأمة، أي للكيان الوظيفي ذي البنية الجهوية-الريعية-الزبونية واقعيا وذي الخطاب "الوطني" خطابيا.

لقد كان الاتحاد وباقي مكونات المجتمع المدني أول من رفع شعار مقاومة "أخونة الدولة" أو "أسلمتها"، وهو شعار تفرع عنه شعار "منع الاختراق" لأجهزة الدولة، بل للمنظمات المدنية وللإعلام وغير ذلك. ولم تكن تلك الشعارات في حقيقتها إلا محاولة للمحافظة على جزء من ميراث المخلوع كما هو، فإذا كان المد الثوري قد فرض على الدولة الاعتراف بالنهضة حزبا قانونيا، وإذا كانت الإرادة الشعبية قد دفعت بها -عبر صناديق الاقتراع- إلى مركز النظام البرلماني المعدّل، فإن للمجتمع المدني -بقيادة الاتحاد- القدرة على إفراغ هذا الوضع من أي معنى، بل كانت له القدرة على الانقلاب عليه كما حصل عند سقوط الترويكا في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، وفرض حكومة "كفاءات" هي في حقيقتها حكومة المنظومة القديمة ورعاتها الأجانب، ولعل الأخطر من ذلك -في المستوى الرمزي- هي أنها أول حكومة تُفرض على التونسيين بمنطق الاستقواء بالشارع وبالإضرابات العامة، دون أن تكون لها أية شرعية انتخابية.

مثل الأغلب الأعم من "القوى الديمقراطية"، كان الاتحاد حليفا موضوعيا لورثة المنظومة القديمة، بل كان الفاعل الأساسي الذي أُوكلت إليه مهمة إفشال الانتقال الديمقراطي وإعادة انتشار المنظومة القديمة بعد الاختلال الجزئي/المؤقت الذي عاشته بعد الثورة، ولذلك عملت "ماكينة" الاتحاد بسرعتين مختلفتين تبعا لهوية الماسك بزمام السلطة أو الراغب في الوصول إليها. ولذلك وجدنا المركزية النقابية تسارع إلى تنفيذ الإضرابات العامة والقطاعية لإضعاف حركة النهضة وحلفائها ولمساندة الأحزاب "الديمقراطية" في استراتيجيتَي الاستئصال الصلب والناعم، ولكنها كانت أكثر "وطنية" عند التعامل مع حكومة نداء تونس وشقوقها، ثم أصبح مفهوم الإضراب العام جزءا من اللا مفكر فيه بعد "تصحيح المسار" الذي ساهم الاتحاد ومنظمات المجتمع المدني في إنضاج شروطه الفكرية والموضوعية.

مهما كانت الخدمات التي قدمتها المركزية النقابية للمنظومة الحاكمة قبل الثورة ولورثتها وحلفائها في اليسار الوظيفي بعد هروب المخلوع، فإن الاتحاد لم يكن يوما جزءا من النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة، فهو مجرد فاعل جماعي مهم ولكنه فاعل بـ"الوكالة" أو بـ"المناولة" الأيديولوجية لحساب الغير أساسا (المركّب الجهوي-الأمني-المالي)، ثم لخدمة قضاياه الصغرى بالتبعية (بعض الامتيازات المادية والقيمة الاعتبارية). ولذلك كانت المركزية النقابية دائما ظهيرا موثوقا للنواة الصلبة لمنظومة الاستعمار الداخلي منذ الأيام الأولى "للثورة"، وكانت حليفا لكل واجهاتها السياسية منذ نداء تونس إلى "تصحيح المسار".

ورغم أن النهضة حاولت أن "تؤسلم" دور اليسار الوظيفي وارتضت أن تلعب دور "الوطد" بخيار "التوافق" منذ أعمال هيئة ابن عاشور، فإنها لم تكن شريكا استراتيجيا للنواة الصلبة للحكم، بل شريكا مؤقتا وغير موثوق لدى رعاتها الإقليميين والدوليين، وهو ما جعلها في مرمى "الوكلاء التقليديين" لتلك النواة، بدءا من الأحزاب، مرورا بالإعلام، وانتهاء بالمجتمع المدني بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل.

لقد حرص الاتحاد -وباقي "القوى الديمقراطية"- على إنهاء "الفاصلة الديمقراطية"، أو على الأقل حرصوا على "تلغيمها" منذ الأيام الأولى للثورة، ولم يكن إسقاط الترويكا وتوظيف الاغتيال السياسي والإرهاب المُعولم واستضعاف الدولة بالإضرابات؛ إلا آلية من آليات إعادة هندسة الحقل السياسي وغيره بعيدا عن الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع، بل بعيدا عن أي اهتمام بـ"الحقيقة" وبـ"المهمشين" الذين يدعي الاتحاد الدفاع عنهم. فالمركزية النقابية -مثلُها في ذلك كمثل أغلب مكونات المجتمع المدني- هي مجرد ملحقات وظيفية بالنواة الصلبة للحكم، وهي "أقليات إيديولوجية" لا مصلحة لها في أي ديمقراطية حقيقية تعبّر عن تلك الفئات والأيديولوجيات المقصيّة من أجهزة الدولة ومن امتداداتها "المدنية" منذ عهد المخلوع. ولذلك كان من المنطقي أن يساند "النقابيون" و"الناشطون المدنيون" و"النسويات" نداء تونس، وأن يضغطوا عليه لابتزاز حركة النهضة في ملفات الاغتيال السياسي والإرهاب والتسفير و"الجهاز السري"، وكان من المنطقي أيضا أن يساندوا "تصحيح المسار" الذي رأوا فيه إمكانية جديدة لإخراج حركة النهضة من الحقل السياسي القانوني وتحويلها إلى ملف أمني-قضائي، كما كان الشأن زمن "صانع التغيير" و"رفع التحديات" بمشاركة المركزية النقابية وشُعبها المهنية.

رغم أن الاتحاد قد انقلب على سرديته القائلة بدوره الوطني -أي السياسي- بعد "تصحيح المسار"، فإنه قد وجد نفسه دون مرتبة الشريك الاجتماعي التي تمتع بها زمن المخلوع وفيما يُسمّيه بـ"العشرية السوداء". فالمركزية النقابية قد تعاملت مع "تصحيح المسار" باعتباره فرصة لإقصاء النهضة وإعادة الشراكة مع المنظومة القديمة تحت سقف النظام الرئاسي، وهي قراءة أثبتت الوقائع مجانبتها للصواب. فـ"تصحيح المسار" باعتباره السردية السياسية الجديدة للمنظومة القديمة لا يقوم على منطق الشراكة، بل على منطق البديل الكلي والشامل للديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة. ولذلك وجد الاتحاد نفسه -ومعه سائر مكونات المجتمع المدني و"الموالاة النقدية" المتمثلة في العديد من أحزاب اليسار الوظيفي- خارج السلطة، بل خارج أي حوار معها على أساس الشراكة. وهو وضع حرج لم تجد المركزية أي رد عليه ولا يبدو أنها قادرة على ذلك، فالشيطنة المُمنهجة للأحزاب ولسائر الأجسام الوسيطة التي لا تشبه "العائلة الديمقراطية" هي عملية لم يكن الاتحاد نفسه لينجوَ منها.

إننا أمام ما يمكن تسميته بـ"الآثار غير المقصودة"، أي تلك الآثار التي لم تكن مرادة في استراتيجيات أصحابها ولكنها تحصل ضد إرادتهم. وهو ما ما نرجّح أن يستمر على الأقل في المدى المنظور بحكم "الوضع البرزخي" الذي تعاني منه القوى الديمقراطية باتحادها وإعلامها وأحزابها ومجتمعها المدني: استحالة التموضع في ما بعد 25 تموز/ يوليو 2021 ولو بمرتبة شريك "صغير"، واستحالة العودة إلى 24 تموز/ يوليو 2021 دون أن يستفيد "العدو الوجودي" -أي حركة النهضة- من ذلك.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء التونسيين الديمقراطية اتحاد الشغل تونس اتحاد الشغل ديمقراطية قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة رياضة صحافة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القوى الدیمقراطیة المجتمع المدنی تصحیح المسار حرکة النهضة لم یکن

إقرأ أيضاً:

بهدف الغساني.. النهضة يحسم لقاء الرستاق في الدوري

البريمي – حميد المنذري

ضمن منافسات دوري جندال لكرة القدم، وعلى أرضية المجمع الرياضي بالبريمي، شهدت مواجهة النهضة والرستاق إثارة وندية كبيرة، تمكن خلالها فريق النهضة من انتزاع فوز ثمين بصعوبة بهدف دون رد، حمل توقيع البديل عبد الرحمن الغساني، في لقاء اتسم بالحماس حتى الدقائق الأخيرة.

جاءت بداية المباراة متكافئة بين الفريقين، مع أفضلية نسبية لفريق الرستاق الذي وصل إلى مرمى النهضة في أكثر من مناسبة خلال الدقائق العشرين الأولى من الشوط الأول، غير أن مهاجميه لم يحسنوا استغلال الفرص المتاحة.

في المقابل، اعتمد النهضة على الكرات الطويلة خلف المدافعين بحثًا عن اختراق دفاعات المنافس.

وحصل النهضة على ضربة حرة مباشرة لم تُستثمر بالشكل المطلوب، فيما أطلق لاعبه بيري ماري تسديدة قوية تصدى لها حارس الرستاق، قبل أن يعود اللاعب نفسه ويسدد كرة حرة أخرى ارتطمت بالعارضة، لترتد أمام مهاجم النهضة الذي سددها خارج المرمى الخالي من الحارس، مهدراً فرصة محققة للتسجيل عند الدقيقة الأربعين.

ونجح الرستاق في إغلاق المساحات أمام لاعبي النهضة ومنعهم من بناء الهجمات، فيما حاول النهضة استغلال تراجع المنافس لإنهاء الشوط الأول بالتقدم، ومع احتساب الحكم ثلاث دقائق وقتًا بدل ضائع، سعى الفريقان لافتتاح التسجيل دون جدوى، لينتهي الشوط الأول بالتعادل السلبي.

شهد الشوط الثاني تحسنًا واضحًا في أداء النهضة، الذي نجح في الوصول إلى مرمى الرستاق في أكثر من مناسبة، في وقت تراجع فيه الرستاق معتمدًا على الهجمات المرتدة السريعة. وكاد النهضة أن يفتتح التسجيل بعدما سدد مهاجمه حمد الحبسي كرة من داخل المنطقة الخطرة، إلا أن حارس الرستاق علي الرواحي أبعدها ببراعة.

وواصل النهضة ضغطه الهجومي مع إجراء المدربين عدة تغييرات لتعزيز الفاعلية الهجومية، بينما أضاع لاعب الرستاق محمد العدوي فرصة هدف محقق بعد انفراده بحارس النهضة إبراهيم المخيني، الذي تصدى للكرة بنجاح.

وارتدت الكرة سريعًا لتصل إلى البديل عبد الرحمن الغساني، الذي تجاوز حارس الرستاق وسدد في المرمى الخالي مسجلًا هدف الفوز للنهضة في الدقيقة 84، لتشتعل بعدها أجواء اللقاء.

وحاول الرستاق العودة في الدقائق الأخيرة من خلال تكثيف الضغط الهجومي بحثًا عن هدف التعادل، إلا أن جميع محاولاته باءت بالفشل، ليطلق الحكم صافرة النهاية معلنًا فوز النهضة بهدف دون مقابل.

مقالات مشابهة

  • مصر.. إمكانية التدخل العسكري في سد النهضة مطروحة
  • سياسي إيرلندي: الجيش “الإسرائيلي” منظمة إرهابية مدعومة من الاتحاد الأوروبي ودول أخرى
  • بهدف الغساني.. النهضة يحسم لقاء الرستاق في الدوري
  • مي عز الدين تستعد لانطلاق مسلسلها الجديد "قبل وبعد" بتشويق اجتماعي كبير
  • العقبة: تكافل اجتماعي في مواجهة الشتاء وتحديات الأمطار الاستثنائية
  • «أوتشا» لـ«الاتحاد»: الإمارات شريك أساسي في العمل الإنساني العالمي
  • سياسي: خطة المفوضية الأوروبية تجاه أموال روسيا المجمدة تهدد الاقتصاد الأوروبي
  • «المهندسين» تخسر مصنع المكرونة «بفعل فاعل»
  • مؤسسة النفط تستعرض الشراكات التي تقيمها مع الشركات الأوروبية وسبل تطويرها
  • مستشار اجتماعي: الحوار والمشاركة داخل الأسرة مهم جدا