دور السرديات في التحول الوطني
تاريخ النشر: 16th, August 2025 GMT
المتتبع لقصص التحول الوطني التاريخية في العالم الحديث يجد أنها تشترك في الكثير من عوامل النجاح والتأثير؛ مثل قوة التلاحم بين الإرادة السياسية والإرادة الشعبية في طريق التحول، ووجود نظام وطني فاعل للمحاسبة والمراقبة، وهدف محدد ومشترك تتوافق عليه لغة القيادة السياسية مع لغة المجتمع، والتوظيف الذكي للموارد والإمكانات وتسخيرها في سبيل خدمة العناصر التي تستطيع أن تقود عملية التحول فعليًا، وعنصر (التضامنية) لدى المؤسسات والقيادات؛ غير أن هناك عاملا مهما يندر الالتفات إليه بالتحليل والدرس، ويغيب غالبًا وسط التركيز على الهياكل والإجراءات والعمليات ومسارات التخطيط؛ وهو (سردية التحول Narrative of transformation).
ومما لا شك فيه أن الوصول إلى هذه الحالة يستلزم عملًا كبيرًا؛ ليس فقط على مستوى (الإعلام بالرؤى والخطط) أو تسويقها للمجتمع، وإنما في القدرة على تصميم كل حراك سواء كان مشروعا أو قانونا أو سياسة وطنية أو مبادرة أو أي جهد آخر بطريقة تشعر كل الفاعلين المؤسسيين والمجتمعيين أنها جزء من حركة المركب (في الاتجاه الصحيح) نحو تحقيق الحلم المشترك، والأهم هو أن يستشعر الجميع أن هناك حلمًا يصار إليه ويتجه نحوه. وفي تقديرنا فإن نجاح صناعة سردية وطنية للتحول يقوم على ستة عناصر أساسية: أولها لغة التواصل السياسي؛ وهذه تستلزم أن ما يقوله المسؤول في مختلف المستويات وفي كافة القطاعات يشي بذات اللغة والمنطق والمغزى الذي تتوجه إليه الرؤى والخطط، وثانيها ربط التخطيط بالتنفيذ بطريقة سهلة ومباشرة يستطيع من خلالها المجتمع أن يكون رقيبًا ومشاركًا في التنفيذ وتصويب المسارات، وثالثها التأكيد المستمر على الوجهة النهائية، وهذه الوجهة لابد أن تحددها ميزتنا التنافسية؛ ما أولويتنا القصوى؟ بالتأكيد أن هناك أولويات متعددة؛ ولكن ما هي الأولوية التي نستطيع من خلالها أن نجمع المجتمع على حلم مشترك / ويستطيع المجتمع أن يشارك في تحقيقها / ويستطيع المجتمع أن يحصد ثمار الوصول إليها / وتستطيع هذه الأولوية كذلك أن تجعلنا ذوي سمة في محيطنا الصغير والكبير. هذا ما يجب التركيز عليه وإبرازه، إن تحديد وجهات واضحة ومحددة وكبرى للرؤى والخطط الوطنية يسهل بشكل عام تحقيق الإجماع العام عليها وتحقيق الإيمان بها.
أما رابع عناصر صناعة سردية التحول الوطني فهي في جهاز إعلامي متنوع، ورسالة إعلامية ذكية ومواكبة وقادرة على الولوج إلى مختلف الفئات والاهتمامات و(الأمزجة)، بما في ذلك تركيبة الاهتمام المتباينة لدى الأجيال، والقدرة على إيصال رسالة أن هذه الرؤى أو الخطط تمسهم وتتلامس معهم اليوم وغدًا وتشكل مسار مستقبلهم، أما العنصر الخامس فيتشكل في لغة الإلهام بالمستقبل لدى القيادات ومختلف الطبقات المسؤولة في مواقع التنفيذ، وكيفية القدرة على صياغة لغة تحفيز مستمرة، وحكي قصص ملهمة تقود الإيمان بمسار التحول المنشود، أما سادس العناصر وأهمها فهو في التغيير الملموس في حياة الأفراد وواقعهم من خلال مختلف المشروعات والبرامج ومجمل ما يتم تنفيذه انبثاقًا عن هذه الرؤى أو الخطط بشكل عام.
وقد اهتمت الكثير من الدول عبر قصص التحول الوطني بمسألة صنع هذه السرديات، بعضها قد تأتى من ظروف تاريخية مواتية كشعار «البقاء» في قصة سنغافورة وسردية الـ «Wirtschaftswunder» في الصعود الاقتصادي لألمانيا وسردية التركيز «الوحدة» في قصة تحول رواندا، ولكن اليوم هناك إدماج مباشر للعلم والأبحاث المتخصصة في صنع وتوجيه هذه السرديات، وأنشأت بعض الدول لها كيانات مؤسسية وهيئات حكومية متخصصة بخلقها ومتابعتها وتصويبها وتعزيزها، وأصبحت تستفيد من أبحاث علوم النفس والاجتماع وأبحاث السلوك والشخصية وظهر ما يُعرف في الاقتصاد اليوم بـ(الاقتصاد السردي Narrative economics) الذي يمكن أن نوجزه في أنه ينطلق من خمسة مبادئ رئيسية أن سلوك الناس الاقتصادي مدفوع غالبًا بما يتعرضون إليه من قصص، وأن القصص سهلة الانتشار بين الناس كالأوبئة، وأن كل قصة تشكل سردية في ذهن الناس وتتفاعل مع السوق (فترات التضخم، العرض، الطلب، الركود، الكساد..)، وأن هذه القصص والسرديات تظل مستمرة وتعبر عن نفسها بأشكال عبر الأجيال، وأن فعالية السياسة والقيادة في تغيير الواقع تتكئ على قوة السرد وتغيير صياغة السردية القائمة.
وفي تقديرنا فإن هذه الثورة الهائلة في تجارب السرد الوطني، وفي العلوم المتصلة بها، وفي الأبحاث التي تعززها أو تعطي أبعادًا أعمق لفهمها يجب أن تستثمر بطرق مركزية، بحيث تسهم في أن تكون الجهود الوطنية، والحراك الوطني الكبير الذي تشهده مختلف مستويات الرؤية الوطنية وما ينبثق عنها من خطط ومشاريع قادرة على خلق هذه السردية المنشودة، وتحريك الدولة مع المجتمع في اتجاه تحقيق مقاصدها الكبرى.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التحول الوطنی
إقرأ أيضاً:
نحو 100 قتيل في هجوم الإنتقالي على حضرموت.. ومعلومات تكشف حجم الإنتهاكات التي ارتكبتها مليشياته هناك
قال المركز الأمريكي للعدالة ACJ إن نحو 100 قتيل سقطوا في سيئون بمحافظة حضرموت، شرق اليمن، في الهجوم الذي شن الإنتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، خلال الأيام الماضية.
وكشف المركز إن التقديرات الأولية تشير إلى أن قتلى قوات الانتقالي وصل إلى 34، و حلف حضرموت 17 قتيلاً، والمنطقة العسكرية الأولى 24 قتيلاً، كما تم رصد قتيل مدني واحد. على الرغم من أن المواجهات لم تكن واسعة النطاق، بل كانت محدودة في أماكن معينة فقط في بداية المواجهات.
وأعرب المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) عن إدانته وقلقه البالغ إزاء الهجوم لمنظم الذي نفذته قوات تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، قادمة من محافظات الضالع وأبين وشبوة، وعدن على مدينة سيؤون وعدد من مديريات وادي حضرموت ومحافظة المهرة خلال الأيام الماضية.
وأظهرت المعلومات التي تلقاها المركز إلى أن المواجهات التي أدت الى سقوط عشرات القتلى والجرحى ارتكبت خلالها القوات التابعة للانتقالي ارتكبت انتهاكات جسيمة تمثلت في الاعتقالات ونهب المقرات الحكومية والمحال التجارية ومنازل المواطنين خصوصاً المنتمين إلى المحافظات الشمالية، في اعتداءات اتخذت طابعاً تمييزياً خطيراً يقوم على استهداف المدنيين وفق الهوية الجغرافية.
وبحسب المعلومات فقد طالت هذه الانتهاكات مدنيين وعسكريين، وأسفرت عن سقوط ضحايا واحتجاز العشرات ممن جرى نقلهم إلى معتقلات مستحدثة افرج عن بعضهم خصوصاً ممن ينتمون إلى محافظة حضرموت و أُجبر آخرون ينتمون إلى المحافظات الشمالية على الرحيل ولم يتمكن المركز من معرفة مصير المعتقلين.
وأكد المركز أن استمرار هذا النمط من الاعتداءات يشكل تهديداً مباشراً للسلم الاجتماعي، ويمسّ أسس التعايش بين مكونات المجتمع اليمني، كما يعمّق الانقسامات الداخلية ويفتح الباب أمام احتمالات توسع دائرة العنف في حال عدم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقفها.
ووفق المركز برزت انتهاكات قوات الانتقالي أثناء اقتحام حضرموت، حيث بدأت تلك القوات باقتحام مؤسسات الدولة بالقوة، إذ دخلت المقرات الحكومية والعسكرية دون أي غطاء قانوني وفرضت سيطرتها عليها بقوة السلاح. كما أقدمت على اقتحام مقر المكتب التنفيذي لحزب الإصلاح، والعبث بأثاثه وجميع محتوياته، بالتزامن مع الاعتداء على الحراس وترويعهم ونهب مقتنيات شخصية، في استهداف مباشر للحياة السياسية.
وامتدت الاعتداءات إلى مداهمة منازل مسؤولين، بما في ذلك منزل وزير الداخلية ومنزل الوكيل الأول لوزارة الداخلية، كما داهمت تلك القوات منازل الجنود والضباط القريبة من المنطقة العسكرية الأولى، كما تسببت في ترويع الأهالي، إضافة إلى نهب ممتلكات شخصية تخص الجنود وعائلاتهم.
ولم تتوقف الانتهاكات عند ذلك، إذ أجبرت القوات بعض التجار على فتح محلاتهم بالقوة قبل أن تتركها للعصابات لنهب محتوياتها، كما اعتدت على مصادر رزق البسطاء من خلال اقتحام الدكاكين والبسطات في سيئون ونهبها في وضح النهار. كما طالت الانتهاكات الممتلكات الخاصة للسكان، حيث قامت عناصر تابعة للانتقالي بنهب أغنام عدد من الأسر في منطقة الغرف بسيئون، في انتهاك صريح لحقوق المواطنين وممتلكاتهم. وبلغت خطورة الأفعال حد فتح مخازن الأسلحة والذخيرة وتركها للنهب، الأمر الذي يثير مخاوف حقيقية من أن يؤدي نهب الأسلحة إلى مفاقمة حجم الانتهاكات وزيادة احتمالات استخدامها في أعمالعنف جديدة، وخلق حالة من الفوضى.
إلى جانب ذلك، عملت تلك المجموعات على نشر خطاب الكراهية وإثارة الانقسام المجتمعي من خلال استخدام لغة عدائية ومناطقية ضد أبناء حضرموت، ما أدى إلى رفع مستوى الاحتقان والتوتر الاجتماعي الأمر الذي قد يؤدي إلى موجة عنف في محافظة ظلت آمنة وبعيدة عن الصراع طيلة فترة الحرب.
وأشار المركز إلى أن هذه الاعتداءات تمثل انتهاكاً صارخاً للمبادئ والاتفاقيات الدولية، إذ تحظر اتفاقيات جنيف لعام 1949 أي اعتداء على المدنيين، وتمنع الاعتقال التعسفي ونهب الممتلكات أثناء النزاعات المسلحة، فيما يقرّ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بحظر الحرمان من الحرية دون أساس قانوني وتجريم التمييز العرقي وسوء المعاملة. كما يؤكد القانون الدولي العرفي على أن استهداف المدنيين على أساس الهوية يشكل جريمة حرب، بينما يصنف ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الاعتقال التعسفي واسع النطاق والاضطهاد القائم على الهوية ضمن الجرائم_الإنسانية.
ودعا المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي إلى #وقف_الاعتداءات فوراً، وتحمل المسؤولية الكاملة عن الجرائم المرتكبة، وعن سلامة المدنيين والعسكريين المختطفين. كما يطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المختطفين، ووقف #الاعتداءات_الهوياتية، وفتح تحقيق مستقل وشفاف لضمان محاسبة المنتهكين، وتوفير الحماية للمدنيين بما يمنع تكرار مثل هذه الجرائم التي تهدد السلم المجتمعي في اليمن.
وشدد المركز الأمريكي للعدالة على أن حماية السكان وعدم استهدافهم على أساس مناطقي يُعد التزاماً قانونياً وأخلاقياً، وأن استمرار الإفلات من العقاب يساهم في تكرار الانتهاكات ويعرّض الاستقرار الاجتماعي لمخاطر جادة، الأمر الذي يستدعي تدخلاً عاجلاً من الجهات المحلية والدولية لضمان إنصاف الضحايا وتعزيز سيادة القانون.