هذا الصمود المستمر لم يمنع القوى الكبرى من الانخراط في حسابات استراتيجية جديدة، تدرك أن الاعتماد على القوة وحدها لم يعد مجديًا، وأن تحقيق أي نتائج حقيقية يتطلب التفكير بطرق أكثر مرونة، تشمل الإعلام والدبلوماسية والحرب على السرديات، وليس مجرد القوة العسكرية التقليدية.
يتحول اليمن اليوم إلى محور استراتيجي لا يُستهان به على صعيد الصراع الإقليمي والدولي، ليس لموقعه عند باب المندب فحسب، بل لتشابك قضاياه السياسية والاجتماعية مع ملفات إقليمية شائكة، بما في ذلك الحرب العدوانية على غزة.


 ما تكشفه تصريحات الأدميرال جورج ويكوف، قائد الأسطول الخامس الأمريكي، وتوصيات الباحثة ألكسندرا ستارك في مجلة Foreign Affairs، هو إدراك واشنطن المتزايد لصعوبة الاعتماد على القوة العسكرية وحدها لتحقيق أهدافها في هذا البلد.

الفخ التاريخي للقوة العسكرية

يشدد ويكوف على أن اليمن "ملتقى طرق بحري استراتيجي شهدت عبر التاريخ تحديات صعبة لكل القوى التي حاولت فرض السيطرة عليه". التاريخ يشهد على فشل العثمانيين والبريطانيين والمصريين والسعوديين في السيطرة على هذه الأرض المعقدة. ويضيف أن أي تدخل عسكري دون استراتيجية شاملة وأهداف تتجاوز المجال العسكري هو وصفة مؤكدة للفشل. هذه الملاحظة تأتي في سياق تحذير أمريكي من الانزلاق في مغامرات عسكرية باهظة الكلفة مع عائد محدود.

حرب السرديات: الاستراتيجية الأمريكية الجديدة

من جانبها، ترى ستارك أن "الحوثيين" لا يمكن إخضاعهم بالقصف وحده، حتى مع التفوق العسكري الساحق للتحالف الدولي. وتقول: "الحوثيون أتقنوا تقنيات منخفضة التكلفة مثل الطائرات المسيرة والزوارق المفخخة، ويعرفون كيفية نقل وإخفاء أصولهم بعد عقود من الحرب المستمرة". لذلك، تقترح الباحثة أن الحرب الإعلامية والسياسية هي الخيار الأكثر فاعلية، عبر تصوير ما يلحق باليمن من أضرار ناتجة عن العدوان والحصار المفروض من تحالف العدوان، وتحميل "الحوثيين" تلك المسؤولية، مثل ارتفاع أسعار الغذاء والوقود، وتلوث البيئة البحرية، وتقليص المساعدات الإنسانية.
كما تسلط ستارك الضوء على أهمية استغلال الإجراءات الامنية في صنعاء باعتقال العملاء والجواسيس -مثل اعتقال موظفي الأمم المتحدة- واستخدام هذه الأحداث في حملات إعلامية لإضعاف صورتهم الشعبية. 
توصيات ستارك تربط السردية اليمنية بالقضايا الإقليمية، مثل ما يجري في فلسطين، حيث ترى أنه يمكن لأي تقدم في غزة أن يقلل من شرعية خطابهم المتمحور حول الدفاع عن فلسطين.

 

المأزق الاستراتيجي الأمريكي

إذا جمعنا رؤية ويكوف مع توصيات ستارك، يتضح المأزق الذي تعيشه واشنطن واستراتيجيتها في اليمن، فالقوة العسكرية وحدها ليست ناجعة لإخضاع اليمن، أو ضمان أمن خطوط الملاحة في البحر الأحمر، بينما الحرب الإعلامية والسياسية تواجه مقاومة شديدة بسبب تماسك الجمهور الداخلي والخارجي والبيئة الإقليمية المشحونة. النتيجة أن واشنطن أمام خيارين صعبين: الاستمرار في مغامرات عسكرية باهظة الكلفة، أو التركيز على استراتيجيات سياسية وإعلامية طويلة الأمد، أقل كلفة لكنها تحتاج لتنسيق دولي وإقليمي كبيرة وأكثر إحكاما.

من النظرية إلى الممارسة

لم تكتفِ واشنطن بطرح الحرب الإعلامية كخيار استراتيجي عبر مراكز أبحاثها ومجلاتها، بل انتقلت إلى تنفيذها بشكل مباشر، بحيث أصبحت تقود الحرب الإعلامية على اليمن، كما يظهر في حملة السفارة الأمريكية في اليمن عبر منصة "إكس"، هذه الخطوة تكشف أن المعركة الإعلامية انتقلت من مجرد هامش دعائي إلى أداة استراتيجية رسمية لإدارة الصراع والتأثير على الرأي العام، وتكشف أيضا، أن واشنطن لم تعد تكتفي بالآلة الإعلامية الإقليمية الضخمة التي تديرها دول خليجية لمواجهة السردية اليمنية، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، عندما تنخرط السفارة الأمريكية بشكل مباشر في الحملة، وترسم الخطوط العريضة، وتصوغ الموجهات الإعلامية التي ما تلبث أن تكون مادة منتشرة في صفحات التواصل والصحف والتقارير على حد سواء.

خاتمة


اليمن -عبر تاريخه- لم يكن في يوم من الأيام مجرد ساحة مواجهة آنية، فقد اثبتت كل محاولات الغزاة أن اليمن قادر على إفشال مشاريع القوى الكبرى عبر القرون. إذا كانت Foreign Affairs قد دعت إلى إدارة معركة إعلامية ضد من تسميهم "الحوثيين"، فإن ويكوف يذكّر بأن الرهان على القوة العسكرية أو الإعلام وحدهما، دون حلول سياسية مستدامة، لن يحقق النتائج المرجوة. فاليمن لم ولن يكون لقمة سائغة لأي قوة خارجية، مهما تنوعت أدوات العدو، سواء كانت بعدوان ضربات جوية، عمليات أمنية، أو حملات إعلامية، يظل اليمن قادرًا على إفشالها. واقع البلد السياسي والاجتماعي والجغرافي المعقد يجعل أي محاولة للسيطرة مجرد وهم، ويؤكد أن قوة الإرادة والإيمان بالقضية لا يمكن التغلب عليها بسهولة.

المصدر: ٢٦ سبتمبر نت

كلمات دلالية: الحرب الإعلامیة القوة العسکریة

إقرأ أيضاً:

اليمن.. عقدة الجغرافيا التي قصمت ظهر الهيمنة: تفكيك خيوط المؤامرة الكبرى

 

مثّلت الحرب الشاملة التي شُنّت على اليمن في مارس 2015، التدشين العملي والأخطر لمؤامرة دولية مركبة، حيكت خيوطها بعناية فائقة في الغرف المظلمة بين واشنطن وتل أبيب؛ فالموقع الجيوسياسي لليمن، الحاكم على رئة العالم في باب المندب، جعل منه هدفاً دائماً لأطماع قوى الاستكبار التي ترى في استقلال هذا البلد تهديداً وجودياً لمشاريعها في المنطقة، ولعل المتأمل في مسار الأحداث يدرك بيقين أن ما يجري هو عقاب جماعي لشعب قرر الخروج من عباءة الوصاية.

إن القراءة المتأنية للرؤية الأمريكية والإسرائيلية تجاه اليمن تكشف تحولاً جذرياً في التعامل مع هذا الملف، فمنذ نجاح الثورة الشعبية في الحادي والعشرين من سبتمبر 2014، أدرك العقل الاستراتيجي في البيت الأبيض والكيان الصهيوني أن اليمن قد غادر مربع التبعية التي كرسها “سفراء الدول العشر” لسنوات طويلة، وأن القرار اليمني لم يعد يصاغ في السفارات الأجنبية. لقد كانت تلك اللحظة بمثابة زلزال سياسي دفع بنيامين نتنياهو مبكراً للتحذير من أن سيطرة القوى الثورية الوطنية على باب المندب تشكل خطراً يفوق الخطر النووي، وهو ما يفسر الجنون الهستيري الذي طبع العدوان لاحقاً. وقد تجلت هذه الرؤية بوضوح صارخ في المرحلة الحالية، وتحديداً مع انخراط اليمن في معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس”، حيث سقطت الأقنعة تماماً، وانتقلت أمريكا من إدارة الحرب عبر وكلائها الإقليميين إلى المواجهة المباشرة بالأساطيل وحاملات الطائرات، بعد أن أدركت أن أدواتها في المنطقة عجزت عن كبح جماح المارد اليمني الذي بات يهدد شريان الحياة للاقتصاد الصهيوني.

وعند النظر إلى الخارطة العملياتية للمؤامرة، نجد أن العدو اعتمد استراتيجية خبيثة تقوم على تقسيم الجغرافيا اليمنية وظيفياً، والتعامل مع كل جزء بأسلوب مختلف يحقق غاية واحدة هي “التدمير والإنهاك”. ففي المناطق والمحافظات الحرة التي رفضت الخضوع، لجأ التحالف الأمريكي إلى استراتيجية “الخنق والتجويع” كبديل عن الحسم العسكري المستحيل؛ فكان قرار نقل وظائف البنك المركزي في سبتمبر 2016 الضربة الاقتصادية الأخطر التي هدفت لضرب العملة الوطنية وتجفيف السيولة، مترافقة مع حصار مطبق على الموانئ والمطارات، في محاولة بائسة لكسر الإرادة الشعبية عبر لقمة العيش، ومؤخراً محاولة عزل البنوك اليمنية عن النظام المالي العالمي، وهي ورقة ضغط أخيرة تم إحراقها بفضل معادلات الردع الصارمة التي فرضتها صنعاء.

أما في الجانب الآخر من المشهد، وتحديداً في المحافظات الجنوبية والمناطق المحتلة، فتتجلى المؤامرة في أبشع صورها عبر استراتيجية “الفوضى والنهب”، حيث يعمل المحتل على هندسة واقع سياسي وعسكري ممزق يمنع قيام أي دولة قوية؛ فمن عسكرة الجزر الاستراتيجية وتحويل “سقطرى” إلى قاعدة استخباراتية متقدمة للموساد وأبو ظبي، وبناء المدارج العسكرية في جزيرة “ميون” للتحكم بمضيق باب المندب، إلى النهب الممنهج لثروات الشعب من النفط والغاز في شبوة وحضرموت، بينما يكتوي المواطن هناك بنار الغلاء وانعدام الخدمات. إنهم يريدون جنوباً مفككاً تتنازعه الميليشيات المتناحرة، ليبقى مسرحاً مفتوحاً للمطامع الاستعمارية دون أي سيادة وطنية.

وأمام هذا الطوفان من التآمر، لم يقف اليمن مكتوف الأيدي، بل اجترح معجزة الصمود وبناء القوة، مستنداً إلى استراتيجية “الحماية والمواجهة” التي رسمتها القيادة الثورية بحكمة واقتدار. لقد تحول اليمن في زمن قياسي من وضع الدفاع وتلقي الضربات إلى موقع الهجوم وصناعة المعادلات، عبر بناء ترسانة عسكرية رادعة من الصواريخ الباليستية والفرط صوتية والطائرات المسيرة التي وصلت إلى عمق عواصم العدوان، بل وتجاوزتها لتدك “أم الرشراش” وتفرض حصاراً بحرياً تاريخياً على الكيان الصهيوني، مسقطة بذلك هيبة الردع الأمريكية في البحر الأحمر. هذا المسار العسكري وازاه مسار اقتصادي يرفع شعار الاكتفاء الذاتي والتوجه نحو الزراعة لكسر سلاح التجويع، ومسار تحصين الجبهة الداخلية عبر ترسيخ الهوية الإيمانية التي كانت السد المنيع أمام الحرب الناعمة.

خلاصة المشهد، أن اليمن اليوم، وبعد سنوات من العدوان والحصار، لم يعد ذلك “الحديقة الخلفية” لأحد، بل أصبح رقماً صعباً ولاعباً إقليمياً ودولياً يغير موازين القوى، وأن المؤامرة التي أرادت دفن هذا البلد تحت ركام الحرب، هي نفسها التي أحيت فيه روح المجد، ليصبح اليمن اليوم في طليعة محور الجهاد والمقاومة، شاهداً على أن إرادة الشعوب الحرة أقوى من ترسانات الإمبراطوريات.

 

مقالات مشابهة

  • علي ناصر محمد يكشف: كيف أوقفت مكالمة هاتفية حرب 1972 بين شطري اليمن؟
  • علي ناصر محمد يكشف كيف أوقفت حرب 1972 بين شطري اليمن عبر التليفون
  • اليمن نموذج ناصع في مواجهة أطماع التوسع الاستعماري
  • اليمن.. واشنطن تطالب بالإفراج الفوري عن جميع «الموظفين» المحتجزين
  • الاستدراج للمستنقع: لماذا يتجنب حلفاء واشنطن دعم عمليتها العسكرية في الكاريبي؟
  • واشنطن تندد باحتجاز الحوثيين لموظفي السفارة الأمريكية في اليمن
  • صحة غزة: حصيلة جديدة لضحايا الهجمات العسكرية الإسرائيلية في القطاع
  • واشنطن تندد باحتجاز الحوثيين لموظفي سفارتها في اليمن
  • عاجل .. مشروع ميزانية الدفاع الأميركية ينص على مواجهة أي تأثير أجنبي يوسع الحرب في السودان.. واشنطن تضع السودان تحت حماية الاستخبارات
  • اليمن.. عقدة الجغرافيا التي قصمت ظهر الهيمنة: تفكيك خيوط المؤامرة الكبرى