في الحاجة إلى الحوار والتعارف بين المسلمين
تاريخ النشر: 19th, August 2025 GMT
داءُ الفرقة بين المسلمين قديم. ومساهمة متواضعة مني في إصلاح أمر الأمة؛ فقد دعوت منذ ربع قرن إلى إلغاء الألقاب المذهبية في كتابي «الواقعية والوحدة الإسلامية» عام 2000م. ثم ناقشت الرواية المنسوبة إلى نبي الرحمة التي يستند عليها دعاة الفرقة في كتابي «رواية الفرقة الناجية.. المنطق والتحليل» عام 2009م. وقد عرضت فيه الرواية على هدي القرآن، ونهج السنة، ومنطق العقل، ومقتضيات الواقع؛ فوجدتها لا تثبت عن النبي الخاتم.
يأتي المقال للحديث عن ضرورة الحوار بين المسلمين؛ لتعزيز ألفتهم، ورصِّ صفهم إتمامًا للحديث عن ضرورة معالجة العنف الواقع بين المسلمين من جذوره في مقال «العنف في غابة الأفكار» الذي نشرته جريدة «عمان» بتاريخ: 12/ 8/ 2025م.
الحوار بين المسلمين نشأ وترعرع في إطار علم الكلام، ورغم أنَّ هذا العلم عالج كثيرًا من المشكلات التي واجهت الفكر الإسلامي وقتها، وأجاب عن أسئلة فلسفية تتعلق بالإسلام، إلا أنَّ ما كدّر صفو الحوار فيه أنَّه قائم على «نصرة العقائد الحقة، وإبطال عقائد أهل الزيغ والضلال». وبما أنَّ كل حزب يعدّ نفسه على الحق وغيره على باطل؛ فقد كانت بعض نتائج هذا الحوار إقصائية بالنسبة للمسلمين أنفسهم، وباتوا لا يكادون يعرفون بعضهم البعض.
لقد أدرك المفكرون المسلمون أهمية الحوار فيما بينهم؛ فنشأت فكرة التقريب بين المذاهب منذ منتصف القرن العشرين الميلادي. ورغم أنَّ التنازع السياسي كاد أنْ يحيد بالفكرة عن هدفها، لكن مؤتمرات التقريب شقت طريقها محاولةً جعل الحوار بين المسلمين ثقافة عامة. وحصل تحول جيد في الذهن الإسلامي باعتدال النظرة من كون المذاهب ممثلةً للإسلام إلى كونها رؤية اجتهادية معبّرة عن الاجتماع الإسلامي ينبغي أنْ تتكامل فيما بينها، لا أنْ تتنافس. وقد مثّلت «ندوة تطور العلوم الفقهية» التي كانت تقام سنويًا بسلطنة عمان إحدى محطات هذا الطريق.
لقد تعدى الحوار بين المسلمين منطقة التنظير والبحث المؤسسي إلى التبني الأكاديمي، مثل جامعة آل البيت بالأردن التي تدرّس المذاهب الإسلامية على حد سواء، ولكل مذهب فيها كرسي أكاديمي، ومثلها جامعة المذاهب الإسلامية في إيران.
ورغم أهمية هذه الخطوات في الحوار الإسلامي؛ فإنَّ موجة العنف في المنطقة تصاعدت كثيراً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهذا لا ينقص من الفكرة، بل هو مدعاة للاهتمام بها. وبكونها جديدة نسبيًا على المسلمين مقارنةً بتاريخهم الطويل المشوب بالتوجس فيما بينهم؛ فإنَّه من الطبيعي أنْ تحصل موجة عنف نتيجة النزاعات السياسية التي شهدتها المنطقة. إلا أنَّ الحوار وتكثيف ملتقياته بين المسلمين يعمل على التقليل من العنف مع الأخذ بشروط الحوار الموضوعي، لاسيما أنَّ فلسفة الحوار تطورت إلى التعارف والتعايش والتفاهم. والتجربة التي خاضها العرب في السنوات العشر المنصرمة أدت إلى مزيد من الوعي بأهمية الحوار، خاصةً مع ظهور نوافذ التواصل الاجتماعي.
والمسلمون يستمدون تصوراتهم ومشروعية أعمالهم من القرآن، غير أنَّ المشكلة تكمن في التأويلات والتفاسير التي مورست في فهم آياته؛ فقد أذهبت بكثير من مضامينه، وأضعفت دوره الإيماني والأخلاقي، وعُضّيت آياته، وحُملت على غير مقاصده، حتى بلغ الحال بالمسلمين أنَّهم يستدلون بآيات مجتزأة، وبتأويل مُغرِب عن دلالتها على تكفير بعضهم البعض، وعلى شن الحروب على من خالفهم في رأيهم، وعلى إضاعة الحقوق، وامتهان كرامة الإنسان، وهذه القضية هي الأولى بالحوار. فعلى المسلمين أنْ يفعّلوا قنوات تواصلهم لعقد جلسات حوارية مستمرة؛ لإعادة اكتشاف معاني القرآن السامية، وتفعيل دوره في الحياة، وتخليصه من تأويلات الغلاة، والتفاسير التي ذهبت دلالاتها طي الزمن؛ رجاء أنْ يخرجوا من المأزق الحضاري الذي يعانون منه.
لقد طرح المفكر الليبي علي يحيى معمر (ت:1980م) في كتابه «الإباضية بين الفرق الإسلامية» نظرية للتقارب بين المسلمين تقوم على عناصر ثلاثة:
أ. المعرفة، وهي الإلمام بما لدى كل طرف من حجج وبراهين، والوقوف على التطور الطبيعي لثقافته، والبيئة الحاضنة له، ودوافع تمسكه بالأفكار والمواقف والآراء، ومسوغات الخلاف، ومعرفة المنهج المناسب للحوار.
ب. التعارف؛ إنْ كانت المعرفة غالبًا تتعلق بمادة الحوار فإنَّ التعارف يتعلق بذات المتحاورين. فالحوار لا يُنتظر منه انتصار طرف على آخر، وإنَّما الانفتاح على خيارات متعددة يتوخى منها الصلاح للأطراف والمصلحة للمجتمع، ولذلك؛ فإنَّ تعارف الأطراف فيما بينهم مهم لمقدمة الحوار؛ حيث تلين قلوب المتحاورين، ويصبح كل طرف قابلًا لفهم وجهة نظر الآخر، ومهم أيضًا لِمَا بعد الحوار؛ حيث يمكن أنْ يسود التسامح بينهم، وقد يتطور إلى الألفة المودة رغم احتفاظ كل أحد بمنطقه ومنطقته.
ت. الاعتراف، وهو مرحلة متممة للعملية المعرفية التي ينبغي أنْ يرتكز عليها الحوار؛ فعلى كل طرف أنْ يعترف بالآخر، وبحق وجوده، والتعبير عن رؤيته طالما أنَّها لا تؤدي إلى ضرر بالآخرين، أو إفساد في الأرض. فقد ركّب الله الكون على سنة الاختلاف، ولو جُعل الاعتراف غاية من غايات الحوار لكان من أهم النتائج التي يجنيها المتحاورون وأفضلها. ولرُبَّما جاء الاتفاق على كثير من الأمور بعد ذلك. فالحوار غالبًا يسوده جو من جدل الحماس للرأي، وتشبث بالفكرة أمام الغير؛ فإذا حصل الاعتراف بالجميع فإنَّه بمرور الأيام ومن خلال اللقاءات قد يحصل كثير من الاتفاق في الرأي، والتنسيق في العمل، والاشتراك في المصالح.
ولأنَّ المسلمين بجميع توجهاتهم متفقون على أصول الإسلام، ولم ينكروا قطعيًا منه؛ فلا يجوز تكفيرهم وتضليلهم، وإنَّما جلّ خلافهم حول الفروع الظنية التي يسوغ فيها الخلاف. وقد أكدتْ هذا المعنى «رسالة عمّان» الصادرة عن المؤتمر الإسلامي الدولي في العاصمة الأردنية في يوليو 2005م بحضور 200 عالم مسلم من 50 دولة؛ حيث جاء فيها: (إنَّ كل من يتّبع أحد المذاهب الأربعة من أهل السنة والجماعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، والمذهب الجعفري، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي، والمذهب الظاهري، فهو مسلم. ولا يجوز تكفيره، ويحرم دمه وعرضه وماله. وأيضًا وفقًا لما جاء في فتوى فضيلة شيخ الأزهر؛ لا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية، ومن يمارس التصوف الحقيقي، وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح. كما لا يجوز تكفير أيّ فئة أخرى من المسلمين تؤمن بالله -سبحانه وتعالى- وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- وأركان الإيمان، وتحترم أركان الإسلام، ولا تنكر معلومًا من الدين بالضرورة) - وزارة الأوقاف الأردنية، موقع إلكتروني-.
وهذه مقدمة مهمة للحوار فيما بين المسلمين، والعمل المشترك لأجل الأمة الإسلامية.
ختامًا؛ يقول المفكر العماني أحمد بن سعود السيابي: (عندما تتكون المعرفة، وبعد معرفة المذاهب الأخرى والأفكار الأخرى، بل الأديان الأخرى يوصلنا ذلك إلى التعارف، وهو الدرجة الثانية من سلّم هذه النظرية - نظرية التعارف ليحيى معمر-؛ ذلك أنَّه لمّا تم التزود من معرفة الأطياف الفكرية والمعرفية فإنَّه يمكن بعد ذلك أنْ يتم التعارف. وعندما يتم التعارف سوف تتقلص الفجوة، ويختفي الحاجز النفسي، سواء أكان هذا الحاجز على أساس مذهبي، أم على أساس فكري عام، أم على أساس أدبي، أم على أي أساس من الأسس الثقافية والفكرية والعلمية. وعندما نتعارف جميعًا -نحن المسلمين أو المذهبيين أو البشر- تقل حدة الخلاف، وقد يختفي الحاجز النفسي الذي هو عامل توتر في الابتعاد) «جريدة «عمان»، موقع إلكتروني، بتصرف-.
خميس العدوي كاتب عُماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحوار بین المسلمین فیما بین
إقرأ أيضاً:
مجلس حكماء المسلمين ينعى العالم الراحل الدكتور أحمد عمر هاشم
نعى مجلس حكماء المسلمين، برئاسة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطَّيب، شيخ الأزهر الشَّريف، بمزيدٍ من الإيمان والرضا بقضاء الله وقدره، العالم الجليل الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وأستاذ الحديث وعلومه بكليَّة أصول الدين، ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، الذي وافته المنيَّة فجر اليوم، بعد رحلة من العطاء في نشر العلم وخدمة السنة النبوية الشَّريفة.
وتقدَّم مجلس حكماء المسلمين بخالص التَّعازي إلى الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف، وكبار العلماء بالأزهر، وإلى أسرة الفقيد الراحل، وزملائه وتلامذته وطلاب العلم ومحبِّيه في جميع أنحاء العالم، سائلًا المولى عزَّ وجلَّ أن يتغمَّده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جنَّاته، وأن يلهم أهله وذويه الصَّبر والسُّلوان.