يمكن لما أعلنه الرئيس الأميركي من خطة لإنهاء الحرب، وتحقيق السلام في الشرق الأوسط، أن تكون كذلك، أي أن تؤدي إلى توقيع اتفاقية سلام إقليمي شاملة، تنهي حقبة طويلة من الصراع الممتد منذ نحو ثمانين عاماً مضت، وليس منذ ثلاثة آلاف عام، كما قال هو في إشارة لاهوتية تشي بأن جذر الصراع ديني، وتتوافق على أي حال مع الرواية الصهيونية، وبين أن يكون «الإعلان» مجرد استراحة محاربين، بعد جولة مواجهة قاسية للغاية، أجبرت إسرائيل على خوض حرب لم تخض مثلها منذ نشأتها، إن كان على صعيد تعدد الجبهات، أو على صعيد مدة الحرب، التي أغلقت العامين بالتمام والكمال، وإسرائيل منذ نشأت في الشرق الأوسط وهي تخوض حروباً متقطعة، لم يكن يعني وقف أي منها، إلا أن وقفها ليس سوى استراحة محارب، لا يعرف أبداً أن يعيش مع جيرانه بسلام.
والفيصل بين أن تذهب خطة أو مقترح ترامب بهذه الوجهة أو تلك، فرضته طبيعة الخطة، التي جاءت «على عجل» ولم تكن نتيجة تفاوض ليس بالضرورة بين «حماس» وإسرائيل، عبر الوسطاء، ولكن بين أميركا الطرف الذي تقدم بالخطة، والأطراف الإقليمية المعنية، هذا مع الإقرار سلفاً بأن الأطراف الدولية، أو القوى العظمى، نقصد روسيا والصين وأوروبا، كان يجب أن تكون حاضرة في إعداد خطة يفترض فيها أن تكون خطة سلام إقليمي وتاريخية في نفس الوقت، أي ليست مجرد خطة لوقف إطلاق النار، أو حتى وقف الحرب في مرحلتها الراهنة، كذلك ما يدفعنا إلى قول هذا الكلام، أو توقّع هذه الفرضية، هو غموض التفاصيل، فحتى هذه اللحظة، لم يقرأ أحد بنوداً واضحة أو نهائية لتلك الخطة، هذا فضلاً عن أن إعلان ترامب عن خطته جاء بعد لقاءين أجراهما آخر الشهر الماضي، على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في نيويورك، الأول كان مع ثماني دول عربية وإسلامية، على اعتبار أن اللقاء الثاني كان مع نتنياهو، أي مع إسرائيل.
وبعد اللقاءين أعلن عن خطوط عامة لخطة السلام، ولكن بشكل متباين، لدرجة أن أكثر من طرف - منهم بالتحديد رئيس وزراء باكستان، ووزيرا خارجية قطر ومصر - أعلن بعد ما أعلنه نتنياهو عمّا اتفق عليه مع ترامب من تعديلات عمّا قدمه للعرب والمسلمين، بأن ما قُدم لهم ليس هو ما أعلن عمّا قدم لنتنياهو، ويبدو أن ذلك صحيح تماماً، والفارق بين «نصَّي» الورقتين، ليس شكلياً ولا عديم القيمة أو الأهمية، بل يعبّر عن «كلفتة» ترامب للأمر، لأنه تصرف كما أسلفنا على عجل، أي بعد إعلان مؤتمر نيويورك، وبعد افتتاح الدورة الثمانين للجمعية العامة، وكانا حدثين في غاية الأهمية والتأثير على حرب الإبادة الإسرائيلية، التي باتت منذ مطلع هذا العام على الأقل تكرر مشهداً وحيداً، وهو قتل إسرائيلي وحشي يومي بمعدل خمسين شهيداً وجرح ما بين مئتين وثلاثمائة، بهدف التهجير، لأن ترامب أعلنه منذ مطلع العام، مع تدمير شامل لكل معالم الحياة حتى تصبح غزة مكاناً غير قابل للحياة، بما يجبر سكانها على التهجير، وبين إعلان جائزة نوبل للسلام، التي يتلهف لها ترامب.
إذاً ما تسمى خطة لترامب مجرد مقترح، جاء البند الأول منها بمثابة مقايضة بين أهم هدفين لكل جانب، لذلك هذا البند كان دافعاً لكل من «حماس» ونتنياهو، مع الضغوط على كليهما، كل من الجانب الحليف له، على قبول المقترح، فيما كان ما تلا ذلك البند الأول من بنود وخطوط عامة ليس أكثر من مقترح، بحاجة إلى نقاش، وهنا تكمن التفاصيل التي يختبئ فيها الشيطان نفسه، أي لا يمكن لأحد أبداً حتى لو أطلق أغلظ الأيمان، وحتى لو تعهد ترامب بكل عنجهيته وبكل ما يفترضه في نفسه وفيما يمثله من أقوى دولة في العالم، لن يكون قادراً لا على حلّها خلال أيام ولا أسابيع ولا أشهر، وربما حتى ليس خلال سنوات قادمة.
المقايضة الحقيقية كمنت في وقف الحرب مقابل إطلاق سراح الرهائن، وإطلاق سراح المحتجزين واحد من أهم أهداف الحرب المعلنة على الأقل، وهو هدف لطالما أعلن ترامب عن رغبته في تحقيقه، لأنه بذلك يصبح بطلاً في نظر نصف الإسرائيليين، ويحسّن من مكانته في استطلاعات الرأي الأميركية، والأهم يبقيه على أمل الفوز بنوبل.
كما قال بذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوجه حق، وهو يرأس مؤتمر نيويورك لحل الدولتين، حيث خاطب ترامب قائلاً له: إن طريقه إلى نوبل تكمن في وقف الحرب على غزة، أي بإجبار نتنياهو على ما لا يريد فعله منذ وقت طويل، أما وقف الحرب فهو الهدف الرئيس والمركزي لكل دول وشعوب الشرق الأوسط، ولكل الفلسطينيين ومنهم «حماس» بالطبع، وهذا هو الخبر السعيد في الخطة أو المقترح، والذي قوبل ليس باستحسان، بل وبفرح معظم البشر من دول وحكومات وشعوب، باستثناء سماسرة الحروب في حقل السياسة، من أمثال بن غفير وسموتريتش، وربما بعض القيادات العسكرية أو حتى المراقبين الذين قالوا: إن خطة ترامب وثيقة استسلام!
سيكون على الأرجح الأسبوع الأول، بعد المفاوضات التي بدأت في القاهرة، والتي من الطبيعي أن تدور حول وقف إطلاق النار، حتى يتسنى لـ»حماس» إخراج الرهائن الأحياء وجثث الأموات من مخابئهم وجمعهم، مقابل اعداد أسماء من سيطلق سراحهم من أسرى ومعتقلين فلسطينيين، وهذا أمر لا يعني أنه سينفذ لا خلال 72 ساعة من إطلاق ترامب خطته، وقد مضى هذا الوقت، وإن كانت «حماس» قبلت الخطة قبل مضي تلك المهلة، وليس بالضرورة خوفاً أو استجابة لتهديد ترامب، بل لأن «حماس» كانت قد بدأت تقتنع بهذا منذ أسابيع، أي منذ قبلت خطة ويتكوف في 19 آب الماضي.
وبعد أن أقنعتها حليفتها الأهم، أي قطر، بأن الرهائن لم يعودوا يشكلون ورقة الضغط الحاسمة على نتنياهو، الذي ضحى بهم، طوال عامين، بل جعل منهم ذريعة لمواصلة الحرب، وأن الإفراج عنهم بالعكس ينزع منه هذه الذريعة، ومن يتذكر مطالبة الرئيس محمود عباس للإقدام على هذه الخطوة قبل أسابيع، يمكنه أن يصل إلى النتيجة بأن احتفاظ «حماس» بالرهائن لم يعد ورقة الضغط الأهم، بل صار صراع حلفاء واشنطن على ترامب هو الأهم.
بصريح العبارة، منذ أن حصل ترامب على تريليونات الاستثمار الخليجي في بلاده، وصار واضحاً أنه ليس صديقاً لإسرائيل ولا لنتنياهو فحسب، بل إن قادة قطر والسعودية والإمارات باتوا مؤثرين عليه بدرجة ليست أقل كثيراً من تأثير نتنياهو عليه، وما يوضح هذا المنحى أن ترامب نفسه اعتبر وقف الحرب ليس تنازلاً إسرائيلياً بل هو مكسب، لأن استمرارها حسب وصفه يزيد من عزلة إسرائيل الدولية، هذا فضلاً عمّا لم يقله بصريح العبارة، وهو إنهاك الجيش الإسرائيلي نفسه، الذي لا يفعل شيئاً سوى قتل المدنيين، وتدمير ما تبقى من أبراج ومنازل وحتى خيام وطرق، وإبادة كل مظهر للحياة في غزة.
قد يكفي «حماس» وإسرائيل التوقف عند حد يسمح لكليهما بادعاء النصر، الأولى من خلال القول: إنها أجبرت إسرائيل على وقف الحرب، دون تحقيق أهدافها بالتهجير وطرد «حماس» سياسياً وعسكرياً من غزة، فيما سيقول نتنياهو: إنه قد حرر الرهائن أخيراً، وحطم «حماس»، وما زال متمركزاً في قلب مدينة غزة.
كما أن ما أطلق عليه ترامب من انسحاب تدريجي يبقى الجيش الإسرائيلي وفق الخارطة المعلنة، في محيط قطاع غزة بما في ذلك محور فيلادلفيا، إلى حين الاتفاق على المرحلة التالية.
والمرحلة التالية هي انتقال حقيقي لاتفاقية سلام، حيث جوهر اليوم التالي، حيث سيدور الحديث عن نزع سلاح «حماس» مقابل انسحاب إسرائيل إلى خطوط ما قبل 7 أكتوبر، وهنا لا بد من قوة خارجية لإجبار كلا الطرفين على قبول ما لا يرغبان به، وإسرائيل بعد تحطيم قدرة «حماس» العسكرية خلال الحرب، وبعد ما أحدثته من قتل ودمار مهول، تدرك جيداً أن كل ما يطالب به نتنياهو من ضمانات لعدم تكرار 7 أكتوبر، وعدم تهديد غزة لإسرائيل في قادم الأيام، ما هو إلا ذر للرماد في العيون، لأن غزة بحاجة إلى ما يقارب 100 مليار لإعمارها، وإلى عقود من تدفق سلاح خفي أو سري حتى تعيد ما كان لدى «حماس» من قوة عسكرية، لهذا فإن احتمال أن تتوقف العملية في التنفيذ، عند حدود إطلاق الرهائن والأسرى ووقف الحرب وارد جداً.
الأيام الفلسطينية
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه حماس غزة خطة ترامب حماس غزة الاحتلال خطة ترامب مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة وقف الحرب ما أعلن
إقرأ أيضاً:
تقدير إسرائيلي.. تنسيق قطر مع أمريكا بشأن غزة يُضيّق الحيز الاستراتيجي للاحتلال
ما زالت الأوساط الاسرائيلية تترقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن الشروع في المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، حتى بدون إعادة جثة آخر جندي قتيل في غزة، وبدون نزع سلاح كامل من القطاع، وفي الوقت الذي يُطلب من الولايات المتحدة تضييق الفجوة مع دولة الاحتلال، يبقى السؤال عما إذا كان ذلك على حسابها.
أمير بار شالوم المحلل العسكري في موقع زمان إسرائيل، ذكر أنه "في نهاية الأسبوع الماضي، انعقد "منتدى الدوحة" في قطر، وهو مؤتمر جمع قادة عربًا قدّموا العديد من التصريحات البارزة حول قضية الاحتلال الإسرائيلي وقطاع غزة، ومع ذلك، كشف تصريحٌ باللغة الإنجليزية لرئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني عن نظرة الدولة المضيفة للمؤتمر إلى استمرار خطة ترامب للقطاع، قائلا إننا اجتمعنا هنا لفرض استمرار العملية، مستخدما كلمة "فرض"، ما لا يدع مجالاً للشك في مقصده".
وأضاف في مقال ترجمته "عربي21" أنه "ينبغي لهذه الكلمات أن تثير قلق الاحتلال، لأنها تشير إلى الاتجاه الذي تنظر به قطر، وربما تركيا أيضاً، إلى استمرار العملية، وتتمثل في فرض حل على الجانب الإسرائيلي، بدلاً من الحوار معه، ولذلك لم يكن استخدام المصطلحات القطرية مصادفة، بل نتاج تحليل لتصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الأخيرة".
وأوضح أنه "من وجهة نظر إسرائيل، لا استمرار للمرحلة الثانية من الخطة ما لم تعد جثة الجندي القتيل ران غويلي من قطاع غزة، فقد ألمح بنيامين نتنياهو لذلك في مؤتمر صحفي عقده مؤخراً مع المستشار الألماني فريدريش ميرتس، قائلاً إننا أوشكنا على إتمام المرحلة الأولى، ولم يتبقَّ لنا سوى مختطف واحد لإعادته، ستكون المرحلة الثانية هي الأصعب، أما السؤال المطروح هو ما سيكون عليه الموقف الأمريكي من هذه المسألة، فهل سيتبنى النسخة الإسرائيلية أم القطرية لاستكمال العملية".
وأشار إلى أنه في غضون ذلك، وطالما أن حماس عاجزة عن العثور على جثة غويلي، فإن الاحتلال لا ينظر في الموضوع بتاتًا، و"ثمة نقطة اختبار أخرى يقترب منها بخطى حثيثة، وهي موعد ومدة وكيفية نزع سلاح حماس، فمن وجهة نظره، لا توجد خطة لإعادة إعمار غزة دون نزع سلاح كامل لها، وفي الوقت الراهن، على الأقل، لا توجد دولة مقبولة لديه ومستعدة لإرسال جنود إلى قوة متعددة الجنسيات يُفترض أن تدخل القطاع".
وأكد أنه "من وجهة نظر حماس، فالوضع مختلف تمامًا، فمن خلال ما يصدر عن قيادتها، يبدو أن هناك محاولة لإيجاد حل وسط يتمثل في إيجاد صيغة تُبقي الحركة مسلحة، وفي موقع قوة مؤثر، وليس من المستبعد أن تحظى هذه الخطوة بدعم من قطر وتركيا، وقد صرّح مسؤولوها بأنها منفتحة على جميع الخيارات بشأن مصير الأسلحة. يمكننا مناقشة تجميدها، أو تخزينها، أو التخلص منها، مع ضمانات فلسطينية بعدم استخدامها إطلاقاً خلال فترة وقف إطلاق النار".
وأكد أنه "بعبارة أخرى، لا يتضمن أي من هذه الخيارات نزع سلاح الحركة، ومن المحتمل أن تتوافق هذه الخيارات مع التعويضات التي وُعدت بها مقابل إطلاق سراح الرهائن، بمعنى آخر، من الممكن أن يكون الوسطاء قد أوضحوا لحماس أنه مقابل إطلاق سراح الرهائن، سيكون لها خيار البقاء في قطاع غزة بتشكيل معين، وعندما سُئل نتنياهو عن وضع جداول زمنية لنزع سلاح حماس، وعن المدة التي سيكون مستعدا للانتظار فيها، تهرب من الإجابة، وقال إنه سيناقش الأمر في اجتماعه المرتقب مع ترامب نهاية الشهر".
وأشار أنه "بات من الواضح الآن أن على الولايات المتحدة التدخل لسدّ هذه الفجوة من أجل المضي قدماً في خطة ترامب لإعادة إعمار قطاع غزة، في غضون ذلك، يبرز اختلاف كبير وجوهري بين التفسيرين الإسرائيلي والقطري للمرحلة الثانية، وهذا التباين والانقطاع بين تل أبيب والدوحة قد يفسران الاجتماع الذي عُقد في الولايات المتحدة بين المبعوث الأمريكي للمنطقة، ستيف ويتكوف، ورئيس الموساد ديفيد بارنيع، وممثل رفيع المستوى للحكومة القطرية، ولعلّ موافقة القطريين على الاجتماع تحديدًا مع بارنيع دون غيره من الممثلين الإسرائيليين لم تكن عبثًا".
وأضاف أن "رئيس الموساد مسؤول عن الملف القطري نيابةً عن إسرائيل، لذا فمن المنطقي أن يكون هو الممثل في هذا الاجتماع، لكن ثمة حقيقة لا بد من التذكير بها، ففي سبتمبر، عارض المحاولة الإسرائيلية لاغتيال قيادة حماس في الدوحة، ولم يغب هذا الأمر عن أنظار كبار المسؤولين في الدوحة، وفي الواقع، يُعدّ الاجتماع الذي عُقد في نيويورك، من وجهة نظر الولايات المتحدة، استمرارًا مباشرًا لمحادثة الاعتذار التي فرضها ترامب على نتنياهو خلال زيارته للبيت الأبيض في سبتمبر، عقب الهجوم الفاشل في الدوحة مباشرةً".
تكشف هذه القراءة الإسرائيلية القلقة أن هناك محاولة أمريكية لتقريب وجهات النظر بين الطرفين مجددًا، انطلاقًا من معرفة ترامب بأن قطر عاملٌ ذو تأثير كبير على حماس، وبالتالي فهي مفتاحٌ هام لنجاح المرحلة الثانية، لكن السؤال الإسرائيلي المقلق هذه المرة ما إذا سيكون ذلك على حساب الاحتلال هذه المرة.