الثورة نت:
2025-12-13@06:26:22 GMT

قراءة في خطة السلام المزعومة وكشف حقيقتها

تاريخ النشر: 8th, October 2025 GMT

 

 

يقول الحق سبحانه وتعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ).


الكبر رذيلة اجتماعية تغرس الفرقة بين الناس، وتقضي على التعاون والمحبة بينهم، وتجعل السعي للإصلاح بين أبناء المجتمع الإنساني أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً. فالمتكبرون يتعامون عن إدراك نقائصهم وعيوبهم، ويضعون أنفسهم فوق مستواها. والمتكبر يصم أذنيه عن سماع أي حديث يرفع الظلم ويهدي إلى الرشد؛ فمن أعجبته نفسه أبى أن يسمع النصيحة من غيره. فالمتكبرون بكبريائهم وإعراضهم عن الحق أوقعوا أنفسهم في الشقاء، فكان جزاؤهم أن صرف الله عنهم الهدى.
وأولئك قوم عاد، حينما أعجبوا بأنفسهم واستكبروا لامتلاكهم القوة، كان جزاؤهم الهلاك والخزي في الدنيا، والعذاب المهين المخزي في الآخرة. قال تعالى: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى? وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ). وهذه سنة الله في خلقه.
إن الشعور بالقوة والاغترار بها يجعلان الإنسان يتخذ من الهوى مطية للاستعلاء على الناس. ولهذا نرى القرآن الكريم يصف الهوى بأنه مفسد للنظام الطبيعي لهذه الحياة، قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ). فإذا وقع الإنسان في حبال الهوى تشوش عليه النظام الطبيعي، وفسد وأفسد.
وإن من أعظم أضرار هوى النفس غرورها وكبرياؤها، الذي غالباً ما يجيء عن طريق الحكام الذين من واجبهم إقامة العدل في الأرض. فإن هم اغتروا وتكبروا، سخروا جميع قدراتهم وقوتهم لأهل القوة والجور، فيحصل الظلم ومن أجل ذلك الفساد الذي لا يلبث أن تظهر بوادره على المجتمعات الإنسانية.
وفي عصرنا هذا، يصاب المجتمع الإنساني بفاجعة من آثار الكبر والفساد التي تمارسه الصهيونية اليهودية في فلسطين؛ فتقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتهدم الديار على رؤوس ساكنيها، ولا تنصاع الحكومة الإسرائيلية لنداء المؤسسات الحقوقية والإنسانية، معتمدة على ما تملكه من قوة، ومغترة بدعم الولايات المتحدة الأمريكية. ويجعل ترامب من نفسه أكبر داعم لمسيرة الاستكبار في عصرنا هذا، وقد أعلن خطته لوقف الحرب في غزة، بما يتضمن تدمير الأسلحة الهجومية لحركة حماس الفلسطينية، ويشمل حكماً انتقالياً لإدارة الخدمات العامة تحت إشراف هيئة دولية.
وهذه الخطة التي تتجاهل جذور الصراع، وهو الاحتلال والحرمان من الحقوق، وتتعارض مع أحكام القانون الدولي الإنساني الذي يجيز للشعوب المحتلة مقاومة المحتل بكل الوسائل المتاحة. ونزع السلاح يجرد الفلسطينيين من وسيلة الدفاع عن أنفسهم، بينما المستوطنون والجيش الإسرائيلي مسلحون. وذلك فيه انتهاك لما ورد في المادة [3] من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ فحياة الفلسطينيين وأمنهم يبقى معرضاً للخطر بشكل متواصل. فتلك عنصرية وظلم معلن؛ إذ ينتهك روح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويشرعن لعدم التوازن في القوة بين المحتل وغير المحتل، ويسلب الشعب الفلسطيني الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس، ويميز بين البشر على أساس هويتهم القومية، ويتجاهل جذور الصراع والحرمان من الحقوق.
وهذه منظمة العفو الدولية تؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي نفسه هو انتهاك منهجي لحقوق الإنسان.
إن الدعم الأمريكي لإسرائيل غير مشروط، سواء كان عسكرياً أو سياسياً أو مادياً أو معنوياً، واستمرار ذلك يشكل حرباً مفتوحة على فلسطين. كما أن الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل من قبل ترامب، ودعمه لضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية، بمثابة إعلان حرب على الأمة الإسلامية ومقدساتها، ومحاربة صريحة للمنظمات الدولية التي تنتقد إسرائيل، مثل: الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية وغيرها.
وإذا رجعنا إلى الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى العدل، وإلى حماية النفس والوطن والعرض، نجد القرآن العظيم يرشدنا إلى إعداد القوة وحمل السلاح، إذ يعد ذلك أصلاً من أصول التشريع العظيم بوجوب الإعداد العسكري: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ).
فهذه الآية لا تأمر بالإعداد فحسب، بل تذكر النتائج والفوائد المترتبة عليه. فإعداد القوة العسكرية يترتب عليه الرهبة والخوف في قلوب الأعداء. فالقوة الرادعة تمنع الحرب أصلاً قبل أن تبدأ؛ هذا هو السلام من موقع القوة، وليس من موضع الضعف.
ولو كان الفلسطينيون يملكون سلاح ردع نووياً، أو الطائرات والدبابات والصواريخ والغواصات الحربية كما تملك إسرائيل، لما وجد الاحتلال من أصله. فكيف يطلب منهم تسليم السلاح الهجومي وتجريدهم منه، وإدارة دولتهم من قبل هيئة مختارة من قبل أعدائهم؟! (إِنَّ هَ?ذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ).
إن حماية المصالح ودرء الأخطار لا يتم إلا بالقوة التي أمر الله بالإعداد لها: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ… تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)؛ يشمل كل من يعاديكم، لدينكم أو لمصالحكم الوطنية. فحماية الوطن ومقدساته وثرواته وأمن المواطنين تستدعي الإعداد. فالأمة التي لا تملك قوة عسكرية أو سلاحاً نووياً في هذا العصر تستضعف، وربما تُهاجم. فالقوة عماد الأمن الداخلي والخارجي، والشعب الذي يعلم أن دولته قادرة على حمايته يعيش في طمأنينة وأمان، مما يفضي إلى استقرار المجتمع، وازدهار الاقتصاد، ونماء العمران.
فعلى ساسة الأمة جميعاً أن يسعوا إلى تطوير الصناعات العسكرية؛ فذلك ما يقودهم إلى تقدم تقني في مجالات أخرى، مثل الطب والحاسوب وغير ذلك. وليتدبروا فيما أرشد إليه القرآن في وجوب التصنيع والإعداد، وليتذكروا أن الله علم نبيه داود ذلك: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ). فالتعليم الإلهي للصناعة العسكرية مما يرفع من شأنها؛ فهذا ليس مجرد إباحة، بل هو توجيه إلهي لضرورة امتلاك المعرفة الصناعية الدفاعية. فكلمة: (لِتُحْصِنَكُمْ) تعني: لتقيكم وتحميكم. فالوقاية والحماية تشمل حماية الأبدان والأوطان والعقيدة والمستضعفين من العدوان. وقوله تعالى: (مِنْ بَأْسِكُمْ) يعني الحرب والقتال والشدة. ويستفاد من هذه الآية وغيرها وجوب إعداد السلاح وتصنيعه.
أما التقييم لخطة ترامب لوقف الحرب في غزة من وجهة نظر فلسطينية وعربية ودولية مستقلة، فإنها قد تؤكد أن هذه الخطة التي يروج لها إعلامياً ليست خطة سلام، بل هي طريقة لتصفية القضية الفلسطينية؛ لأنها تنتهك القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، وتقتل أي أمل لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. وإذا حاول ترامب تطبيقها، فإنها من وجهة نظر واقعية ستؤدي إلى تفجير الموقف في المنطقة، وإشعال الحروب وإطالة أمد الصراع بدلاً من إنهائه.
فهل تعي الأمة العربية والإسلامية -حكاما وشعوبا- حجم المخطط؟ ، فتعد العدة لنصرة الضعفاء والمظلومين في فلسطين؟ فقد أذن الله لهم بالقتال دفاعاً عن أنفسهم وأوطانهم ومعتقداتهم والمستضعفين منهم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).
وهل يعي أحرار العالم ورجال الفكر والقرار في أمريكا وأوروبا أن القوة الغاشمة لا تصنع أصول العدالة، وإن أُلبست كذباً بلباس الإصلاح فإنها ستودي بمن يصر عليها إلى الهلاك؟!
فمعاملة الشعوب بالقسوة والجبروت يفضي إلى عدم النجاح، والتاريخ شاهد على ذلك. والقرآن يخاطب خاتم رسل الله بمن هكذا حاله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى? مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَ?كِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

حين تُختطف الحريّة من معناها.. قراءة فلسفة الانعتاق وتحريف المفهوم عن مواضعه

"لا تجد لفظا تهواه النّفوس وتهشّ لسماعه وتستزيد من الحديث فيه -مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المراد منه- مثلَ لفظِ الحريّة. وما سبب ذلك التعلّق العام إلّا أن معظم من يسمعون هذا اللّفظ أو ينطقون به يحملونه على محامل يخفّ محملها في نفوسهم. فالوقحُ يحسب الوقاحة حريّة فيخفّ عنده ما ينكرُه النّاس من وقاحته، والجريء الفاتكُ ينمي صنيعه إليها فيجد من ذلك مبررا لجرأته، ومحبّ الثّورة يعد الحرية مسوّغا لدعوته والمفتون في اعتقاده يدافع النّاقمين عليه بأنه حرّ العقيدة إلى غير هؤلاء.. فيا لله لهذا المعنى الحسن ماذا لقيَ من المحن، وماذا عُدِل به عن خير سنن!!".

في هذه العبارة للإمام الطاهر بن عاشور نراه يقف عند مفهوم الحرية كما يقف الفيلسوف عند حدٍّ ملتبسٍ بين الفضيلة والهوى، فكأنّ الكلمة مرآة يرى كلّ إنسانٍ فيها صورته هو وليس ماهيتها الحقيقيّة؛ فيراها الحكيم ميثاقا للعقل والعدل بينما يراها المنفلت فرصة لخلع القيود والتحلل من كل نظامٍ أخلاقي، عندها يغدو اللفظ ذاته حلبة صراعٍ خفيّ بين معنى يتسق مع الكرامة ومعنى ينحدر مع الرغبة، عندها يُحرّف المفهوم عن مواضعه وتتيه معانيه في غياهب النفوس.

يشير ابن عاشور إلى أنّ الحرية ليست مفهوما واحدا ولكنّها وعاءٌ تُسكب فيه الإرادات المتباينة؛ فإذا غاب ميزانها العقلي والشرعي تحوّلت من قيمةٍ تحفظ الإنسان إلى قناعٍ يتقنّع به الإنسان ليبرّر به نزواته. فالوقح لا يرى في حرية القول إلا فرصة لإهانة الآخرين ثم الاحتماء بقدسية اللفظ، والجريء العنيف يرفعها شعارا لتمجيد بطشه وكأنّ البطش مبدأ أخلاقيّ، والمفتون بعقيدته الفكرية يلوّح بها ليصدّ النقد عن ذاته وكأنّ الحرية حصانة تمنع المحاسبة العقلية؛ وبهذه الطريقة تتحرر الحريّة من كل ضابط حتى تغدو مطيّة لكلّ إرادةٍ منفلتة يتخذها صاحبها حجابا يزعم به التحرّر وهو يستعبد نفسه لهواه.

ومن هنا يتعجّب ابن عاشور بمرارة الحادب على الحقيقة كيف تحوّل هذا المعنى النبيل الذي أراده الشرع تزكية للإنسان إلى أداةٍ يشدّ بها الإنسان رِقّ نفسه ويقيّد روحه بدل أن يعتقها؟ وكيف أصبح لفظ الحريّة طريقا إلى نقيضها؛ طريقا إلى عبودية الهوى؟ هذه المفارقة هي التي جعلت صرخته الفكرية هنا أكبر بكثير من محض نقدٍ لغوي لتكون نداء لإنقاذ المعنى من يد الذين يقتلون المعاني باسمها، ويحرفون الكلم عن مواضعه بلا خجل ولا وجل.

الحريّة بين الوهم والضبط الشرعي

يضع ابن عاشور اليد على المفارقة الخطيرة التي تطرأ على الحرية حين تُنتزع من ضوابطها الشرعية فيتحوّل لفظٌ وُجد ليحفظ كرامة الإنسان إلى وهمٍ يبتلعها؛ فالحرية في ميزان الإسلام ليست انفعالا شعوريّا يُقاس بالرغبة ولا انعتاقا من كل قيد، ولكنّها ممارسة واعية مبنيّة على مقاصد واضحة تعتق الإنسان من عبودية الظالم كما تعتق قلبه من عبودية نفسه.

الحرية في التصور الإسلامي لا يمكن أن تكون حقا مجردا عن الواجب وإنما هي كرامة تتأسّس على التكليف؛ فالله تعالى حرّر الإنسان بالرسالة ليكون مسؤولا لا ليتحوّل إلى كائنٍ فوضويّ يتبع ميول جسده هائما في كلّ واد.

إنّ الضبط الشرعي للحرية ليس كبحا لها ولا قمعا لإرادة الإنسان، ولكنّه تحريرٌ لها من الاستبداد الخفيّ الذي يمارسه الهوى حين يُطلق من عقاله؛ فكما تُقاتِل الشريعة الظالم الذي يقهر الناس بسيف السلطة فإنّها تحارب أيضا الظالم الذي تنتفش نفسه حين تتسيّد بلا ضابط وتستبيح باسم الحرية ما يهدم حقيقتها. تلك هي الحرية في ميزان الإسلام؛ مسؤولية تُبنى عليها الكرامة وتكليف يسبق الحق وتحرّر يبدأ من الداخل قبل أن يطالب بها في الواقع الخارجيّ.

الاستغلال السياسيّ لمفهوم الحرية

حين يشتكي ابن عاشور من اختطاف معنى الحريّة فإنّ صداه اليوم يتردّد في عالمٍ تُدار فيه الشعارات كما تُدار الأسواق؛ فالحريّة في السّياسة المعاصرة لم تعد قيمة أخلاقية ثابتة ولكنّها صارت ملفا يُفتح ويُغلق بحسب ميزان المصالح وتوقيت التدخّل وجهة الصراع، فيُرفع شعار الحريّة حين يكون مطلوبا تفجير شارعٍ أو إعادة تشكيل نظام أو صناعة رأيٍ عامٍّ يخدم جهة دوليّة، ثم يُسحب حين يطالب الناس بالعدالة أو يرفضون الهيمنة.

في هذا المشهد لا تُعامل الحريّة بوصفها حقّا للإنسان لكونه إنسانا، وإنما باعتبارها أداة ضغط "يُسمح" بها إذا خدمت أجندة نافذة وتُقمع حين تصبح صوتا مزعجا خارج الخط المرسوم. فحركات الاحتجاج تُدعَم ما دامت تهزّ خصما سياسيّا، وحين يتغيّر الخصم تُوصف الاحتجاجات نفسها بالفوضى ويُعاد تعريفها على مقاس من يملك أدوات القوة.

الإعلام الدوليّ يُصبح مصنعا لإنتاج الحريّة الموسمية فتراه يصنع بطولة لأناس في طرفٍ من العالم، ويُغلق الصورة على آخرين يُسحقون تحت الدبابات في الطرف المقابل. والمؤسسات الدولية تُنادي بحرية الشعوب حين يخدم ذلك إعادة هندسة المنطقة، وتغضّ الطرف حين يُطالَب بالتحرّر من احتلال أو نفوذ اقتصاديّ أو وصاية أمنية.

وهكذا تتحوّل الحريّة في المشهد السياسي العالمي إلى بطاقة عبورٍ تُستعمل لاختراق الدول أو لإعادة تشكيل وعي الجماهير أو لتبرير التدخّل الخارجي.

هذا الاختزال يُفقد الحريّة معناها الأصليّ بوصفها قيمة تُصان بها كرامة الإنسان، ويحوّلها إلى أداة إدارة وصناعة تُستخدم لتوجيه الواقع وهندسته وليس تحريره، عندها ينتقل الإنسان من عبودية القمع إلى عبودية الدعاية بغلاف الحريّة، ومن تحكّم السوط إلى تحكّم الشعارات، فيفقد القدرة على تمييز الحق من الباطل حين يُغلَّف الباطل بلفظةٍ يحبّها.

حين تتحرّر الحرية من سلطان الشهوة

يحذّر ابن عاشور من حريةٍ تفلت من العقل كما يفلت السيل من مجراه فيُغرق الأرض بدل أن يُحييها؛ فالكلمة التي لم تُحط بسياج المعنى يتحوّل بريقها إلى خداع، وما لم تنضبط الحرية بمقاصد العدالة والكرامة صارت صورة بلا روح ومطلبا يهوي بالإنسان بدل أن يرفعه.

فالحريّة ليست دلالة على كلّ ما تهواه النفوس ولا كلّ ما يُعجب المزاج؛ لأنّ النفوس إذا تُركت بلا ميزان ولا معيارٍ تُصبح عبدا لما تشتهيه وتستبدّ شهواتها بها وبغيرها كما يستبدُّ الطغاة.

الحرية التي تليق بالإنسان هي التي تحرّره من قيود الظلم ومن سطوة الرغبة ومن انسياق العقل وراء الدعاية، وتُربّيه على أن يكون سيّدا على نفسه قبل أن يثور على غيره؛ هي التي تجعل رغباته داخلة في مسؤولية وغضبه واقعا تحت حكم القيم ومطالبه منسجمة مع كرامة المجتمع.

وحين تُربّي الحرية إنسانا قادرا على صون حرمة الآخرين وعلى توقير القانون وعلى ضبط شهواته؛ تُصبح الحريّة عهدا أخلاقيا لا شعارا مرفوعا أو هتافا تصدح به الحناجر، عندها يتحوّل الإنسان من متهتّكٍ باسم الحرية إلى حرٍّ يحميها ومن متمرّدٍ على القيم إلى سياجٍ لها.

x.com/muhammadkhm

مقالات مشابهة

  • روائع النغم بصوت ريم كمال فى معهد الموسيقى.. غدا
  • هذا موعد انتشار القوة الدولية في غزة.. هل ستقاتل حماس؟
  • واشنطن تضغط على أوروبا للمشاركة في "القوة الدولية" في غزة
  • واشنطن تضغط على أوروبا للمشاركة في "القوة الدولية" في غزة
  • “قداسة البابا “: من الأسرة يخرج القديسون وهي التي تحفظ المجتمع بترسيخ القيم الإنسانية لدى أعضائها
  • على صلة بحزب الله وايران.. اليكم آخر المعلومات عن ناقلة النفط التي احتجزتها أميركا في الكاريبي
  • قطيعة بين حزب الله وفرنسا؟
  • لا ضمانات اميركية للبنان
  • عدية يس.. ما حقيقتها وهل لها أصل في السنة؟ | اعرف حكم الشرع
  • حين تُختطف الحريّة من معناها.. قراءة فلسفة الانعتاق وتحريف المفهوم عن مواضعه