بوابة الوفد:
2025-10-12@13:10:29 GMT

الأمن المائي العربي في سياق الصراعات السياسية

تاريخ النشر: 11th, October 2025 GMT

في مشهد عالمي تزداد فيه شراسة المنافسة على الموارد الحيوية، تبرز أزمة الأمن المائي في المنطقة العربية كواحدة من أكثر القضايا إلحاحًا باعتبارها معضلة سياسية وجودية تهدد استقرار الدول واستمرارية المجتمعات. فما نشهده اليوم لا يمثل اختلالًا في معادلة العرض والطلب فقط، بل انهيارًا تدريجيًا لمنظومة الموارد، التي تتشابك فيها الندرة الطبيعية بالمواجهة السياسية، وغياب الإدارة الرشيدة بتراكم الفجوات التنموية.


المعدلات الحالية لنصيب الفرد من المياه في العالم العربي أقل من 500 متر مكعب سنويًا، أي أقل من نصف حد الفقر المائي الذي حددته الأمم المتحدة. هذا الواقع يضع أكثر من 390 مليون مواطن عربي تحت وطأة الندرة المائية الشديدة، بينما تشير الدراسات الإقليمية إلى أن نحو 83% من سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعيشون ضمن مناطق تتعرض لضغط مائي مرتفع للغاية. ومع التوقعات التي تشير إلى ارتفاع الطلب العالمي على المياه بنسبة قد تصل إلى 25% بحلول منتصف هذا القرن، تصبح أزمة المياه العربية أشبه بعدّ تنازلي نحو اختناق مائي قد يُخل بتوازنات الأمن القومي والاجتماعي في أكثر من بلد عربي.
الأزمة العربية ليست نابعة من مناخ جاف فقط أو شح طبيعي، بل تكمن خطورتها في ما يُمكن تسميته "تسييس الهيدروبوليتكس"، أي تحويل الماء إلى أداة ضغط جيوسياسي. إذ أن الاعتماد العربي على مصادر مائية خارجية، سواء في حوض النيل أو دجلة والفرات، وضع دولًا مثل مصر والعراق والسودان في حالة ضعف استراتيجي دائم. فحين تُبنى السدود العملاقة دون توافق، وعندما يتم تقنين تدفق الأنهار بشكل أحادي، تصبح السيادة المائية رهينة للإرادة السياسية لدول المنبع، ويتحوّل الماء من مورد مشترك إلى أداة ابتزاز جيوسياسي.
في الوقت ذاته، لا تزال الجهود العربية الجماعية في ملف المياه محدودة، وغير قادرة على خلق إطار تفاوضي فعال يضمن الحد الأدنى من الحقوق التاريخية والجغرافية. ويعود ذلك إلى محدودية فعالية مؤسسات العمل العربي المشترك في هذا المجال، إلى جانب غياب التوافق السياسي الضروري لبناء موقف تفاوضي موحّد، في ظل مناخ إقليمي لا يزال بحاجة إلى تعزيز الثقة وتوسيع مساحات التعاون، وهي عوامل أسهمت في إبطاء التوصل إلى اتفاقات مستدامة بشأن تقاسم الموارد المائية.
وترتبط أزمة المياه ارتباطًا وثيقًا بالأمن الغذائي، حيث تعتمد الزراعة العربية بشكل شبه كامل على الري. ويعني ذلك أن أي خلل مائي يترجم مباشرة إلى انخفاض في الإنتاج الزراعي، وبالتالي ارتفاع في فاتورة الاستيراد الغذائي. هذا الاعتماد يُضاعف من هشاشة اقتصادات عربية عديدة، ويجعلها أكثر عرضة للتقلبات الخارجية، وهو ما يمثل تهديدًا غير مباشر لاستقرار المجتمعات، لا سيما في ظل الزيادة السكانية المطّردة، والتحولات المناخية المتسارعة، وتراجع قدرة الدولة على ضبط كلفة الغذاء.
من الزاوية الاقتصادية، فإن الفجوة التمويلية تُمثل عقبة مركزية أمام تحسين البنية التحتية للمياه، والتي غالبًا ما تكون متهالكة أو مدمرة بفعل النزاعات المسلحة. وتشير التقديرات الدولية إلى أن الوصول إلى أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالمياه يحتاج إلى استثمارات تقارب 114 مليار دولار سنويًا على المستوى العالمي، بينما تفتقر معظم الدول العربية إلى القدرة على تأمين هذا النوع من الإنفاق طويل الأمد. أما تكاليف التشغيل والصيانة، وإعادة إعمار ما دمّرته الحروب، فتزيد من عمق المأزق، وتكشف عن أزمة هيكلية في ترتيب الأولويات التنموية.
ورغم التحديات، لا يزال بإمكان الدول العربية إعادة بناء نهجها المائي على أسس علمية ومؤسسية. فهناك فرص حقيقية لإعادة هيكلة إدارة المياه عبر توطين التكنولوجيا المرتبطة بتحلية المياه ومعالجة الصرف الصحي، وتطوير شبكات التوزيع على أسس الكفاءة وليست التوسعية، إضافة إلى اعتماد طرق ري ذكية تحد من الفاقد وتزيد الإنتاجية دون استنزاف المخزون الجوفي. 
كما يمكن العمل على صياغة آليات تعاون إقليمي تقوم على التنسيق العملي في إدارة الموارد المائية المشتركة، عبر الجمع بين حلول تقنية ملموسة، مثل تقاسم بيانات التدفق وإدارة السدود، وبين مسارات تفاوضية مدروسة تستند إلى قواعد واضحة، بما يضمن احترام السيادة الوطنية من جهة، ويُمهّد لبناء مصالح متبادلة مستدامة من جهة أخرى.
في المقابل، لا يُمكن فصل الحل المائي عن الحل السياسي. إذ أن تسوية النزاعات القائمة بين دول الجوار، وتفعيل قنوات الدبلوماسية الوقائية، يفتح الطريق أمام التوافقات المائية الضرورية. ويُفترض أن ينتقل الأداء الرسمي العربي من مستوى التصريحات السياسية والبيانات العامة إلى مرحلة العمل المؤسسي المنظّم، من خلال تفعيل دور المجالس الوزارية المعنية، وتأسيس أدوات دبلوماسية فعالة تُعنى بملف النزاعات المائية العابرة للحدود، ضمن إطار قانوني وإقليمي مدعوم برعاية دولية تضمن الحد الأدنى من الحياد والعدالة في تقاسم الموارد المشتركة.
ومن الضروري أيضًا أن تنفتح الدول العربية على مفاهيم الحوكمة المائية، أي الإدارة الرشيدة للموارد بما يضمن التوازن بين العرض والطلب، ويربط قرارات التخطيط الحضري والزراعي والسياسات البيئية بمنطق تكاملي لا تجزيئي. فإدارة المياه لا يجب أن تبقى حكرًا على وزارات المياه والري، بل يجب أن تكون مسألة سيادية عابرة لكل القطاعات.
إن تأمين المستقبل المائي العربي ضرورة وجودية تتطلب تفعيل أدوات الدولة العصرية، وتجاوز الأطر التقليدية، والاشتغال على كافة المستويات؛ من الوعي المجتمعي إلى الابتكار العلمي، ومن التفاوض الإقليمي إلى التخطيط الحضري. وما لم تتم إعادة تعريف مفهوم الأمن المائي بصفته أحد أعمدة الأمن القومي الشامل، ستبقى المنطقة عرضة لدورات العطش المتكررة، واستنزاف رأس المال البيئي، وفقدان سيادة القرار التنموي.
إن أزمة المياه في العالم العربي تمثل أحد أوضح مؤشرات الفجوة بين التحديات الهيكلية والقدرات المؤسسية على معالجتها. فهي تنبع من غياب نموذج إداري موحد قادر على التعامل مع الموارد المائية كمصلحة استراتيجية تتجاوز الحسابات القطرية والاعتبارات الظرفية.
المنطقة بحاجة إلى انتقال فعلي نحو سياسات مائية تُبنى على بيانات دقيقة، وشراكات إقليمية ملزمة، وخطط طويلة الأمد تُدار على مستوى الدولة. المطلوب ليس فقط توسيع الاستثمارات في البنى التحتية، بل إعادة تعريف الماء كعنصر مركزي في معادلة الاستقرار الوطني. فدون أمن مائي لا يمكن تصور أمن غذائي، ولا تنمية اقتصادية، ولا حتى استقرار اجتماعي.
إن التأخر في إعادة هندسة السياسات المائية العربية سيؤدي إلى ارتفاع كلفة الفرص الضائعة، وسيترك الدول أمام واقع أكثر تعقيدًا وأقل قدرة على التحكم فيه. ففي عالم تتسارع فيه الصراعات حول الموارد الأساسية، لم يعد مقبولًا أن تبقى المياه ملفًا هامشيًا في مراكز القرار.
المستقبل المائي العربي لن يُصاغ بتكرار النهج التقليدي القائم، بل بمراجعة جذرية تبدأ من الاعتراف بأن إدارة الموارد لم تعد مسألة فنية، بل قضية سيادية تستدعي معالجة سياسية، قانونية، ومؤسسية متكاملة. وهذا هو الامتحان الحقيقي للدولة العربية في القرن الحادي والعشرين.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: مشهد عالمي الموارد الحيوية الأمن المائي المنطقة العربية

إقرأ أيضاً:

علاء عابد: كلمة الرئيس السيسي أكدت حرص الدولة على إدارة الموارد المائية بكفاءة

أشاد النائب علاء عابد، رئيس لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب، نائب رئيس حزب مستقبل وطن، بكلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال فعاليات أسبوع القاهرة للمياه، مشيرا إلى أنها حملت رسائل مهمة تؤكد حرص الدولة المصرية على إدارة مواردها المائية بكفاءة ومسؤولية، في ظل ما يشهده العالم من تحديات مناخية ومائية متزايدة.

وأضاف «عابد» أن الرئيس تناول في كلمته بوضوح رؤية مصر الاستراتيجية لتحقيق الأمن المائي من خلال المشروعات القومية الكبرى في مجال تحلية المياه ومعالجة الصرف وتحسين كفاءة استخدام الموارد المتاحة، مؤكدًا أن هذه الجهود تعكس إرادة سياسية قوية للحفاظ على حقوق الأجيال القادمة.

وأشار نائب رئيس حزب مستقبل وطن إلى أن تأكيد الرئيس على التعاون الإقليمي والدولي يعكس نهج مصر الدائم في الدعوة للحلول العادلة والمتوازنة التي تضمن حق كل دولة في التنمية دون الإضرار بحقوق الآخرين، مما يعزز مكانة مصر كصوتٍ عاقلٍ ورائدٍ في قضايا المياه إقليميًا ودوليًا.

وأكد «عابد» أن دور مصر المحوري في ملف المياه يمتد إلى قيادتها لجهود التنسيق الإقليمي والدولي لمواجهة ندرة المياه والتغيرات المناخية، من خلال استضافة المنتديات الدولية والمبادرات المشتركة التي تهدف إلى تبادل الخبرات والتكنولوجيا وتعزيز الشراكات العالمية، مشيرًا إلى أن مصر أصبحت نموذجًا يحتذى به في إدارة الموارد المائية وتنفيذ المشروعات التنموية المستدامة التي تحقق الأمن المائي لشعبها وللدول الشقيقة.

مقالات مشابهة

  • انطلاق فعاليات النسخة الثالثة من نموذج محاكاة برلمان الشباب العربي بالجامعة العربية
  • علاء عابد: كلمة الرئيس السيسي أكدت حرص الدولة على إدارة الموارد المائية بكفاءة
  • في رسالة حاسمة من قلب القاهرة.. السيسي: الأمن المائي لمصر خط أحمر
  • وزير الري: نستخدم الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد المائية
  • وزير الري: مصر تمتلك إرثًا فريدًا في إدارة الموارد المائية منذ آلاف السنين
  • نائب وزير الموارد المائية الصيني: تأثير تغيرات المناخ يزيد الطلب على المياه
  • وزارة الري تكشف جهودها لمواجهة التصريف المائي المفاجئ لسد إثيوبيا غير المنضبط
  • الشباب والرياضة تستقبل وفود الدول العربية المشاركة في نموذج محاكاة برلمان الشباب العربي
  • البرلمان العربي: التدخلات الخارجية سبب رئيسي في تغذية النشاطات الإرهابية في أماكن الصراعات والنزاعات المسلحة