في سن 12 عاما، حصلت نغم أبو سمرة على الحزام الأسود في الكاراتيه، وفي عمر الـ20 فازت بالمركز الأول في قطاع غزة والثاني على مستوى فلسطين، لتصبح عضوًا في المنتخب الوطني الفلسطيني. بدأ اسمها يتردد، وأصبح الجميع يعوّل عليها في كتابة تاريخ رياضي جديد.

ومع دخول الكاراتيه إلى أولمبياد طوكيو 2020، كان هذا حلمًا خاصًا لها، فقد أملت في تحقيق أول ميدالية ذهبية فلسطينية في أولمبياد لوس أنجلوس 2028.

إلى جانب تفوقها الرياضي، حصلت نغم على ماجستير في التربية الرياضية، وأسست ناديا لتعليم الفتيات اللعبة في غزة، بهدف نشر الثقافة الرياضية بين الصغار.

لكن الأحلام لم تكتمل، وفي 17 ديسمبر/كانون الأول 2023، تعرض منزلها في مخيم النصيرات لغارة إسرائيلية، مما أسفر عن إصابتها وبتر قدمها، لتستشهد لاحقًا إثر فشل محاولات علاجها.

لم تكن نغم الحالة الأولى، بل استكمالا لسلسلة من الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة التي توثقها 75 عامًا من الاحتلال.

قدمت الحروب السابقة في غزة دلائل على الاستهداف المباشر للرياضيين. فقد أصيب الدراج الشهير علاء الدالي برصاص الاحتلال خلال مسيرات العودة الكبرى، إلى جانب 29 رياضيًا آخرين، بعضهم تعرض لبتر قدمه. كما تم اغتيال المدرب الشهير عاهد زقوت خلال حرب 2014، التي شهدت استشهاد 32 رياضيًا، بينما استشهد 300 رياضي خلال انتفاضة الأقصى.

جرائم موثقة

تظهر المحاولة الأولى للبحث والتوثيق الحجم الهائل للجرائم، والتي خلفت دمارًا كاملا للرياضة في غزة، دمارًا طال كل المرافق الرياضية تقريبًا، واستهدافًا طال الرياضيين من جميع التصنيفات.

وفي المحاولة الأولية للبحث، بدأنا بكرة القدم، وبأندية الدوري الممتاز في غزة خلال دوري عام 2023، الذي ضم حينذاك 12 فريقًا موزعين على مناطق القطاع من بيت حانون إلى رفح.

وبمراجعة صفحات فيسبوك للأندية، فإن المنشورات الوحيدة المتاحة هي منشورات النعي، للإداريين والطواقم الفنية واللاعبين بالفريق الأول والناشئين، من جميع الألعاب والأعمار.

إعلان

وعلى سبيل المثال، فإن صفحة نادي هلال غزة نعت أول لاعب استشهد في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وآخر لاعب استشهد في 15 سبتمبر/أيلول 2025، وما بينهما لم يكن سوى نعي متواصل للاعبين وإداريين.

كما يظهر تصفح موقع الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم الأمر نفسه، حيث تمثل أخبار النعي النسبة الأكبر بين أخبار الاتحاد، مع تنوع لطبيعة الجريمة الإسرائيلية ومكانها.

ويتصدر النعي أسماء بارزة في الرياضة الفلسطينية، مثل سليمان العبيد، أو "بيليه فلسطين" كما يسمى، والذي أثارت وفاته اهتمامًا عالميًا واسعًا، وتنديدًا بالقتل الممنهج للرياضيين في غزة.

وطبقًا لأحدث أرقام الاتحاد، فقد قتلت إسرائيل أكثر من 774 من الرياضيين في غزة منذ انطلاق الحرب، بينهم عدد كبير من الأطفال.

كما دمرت إسرائيل نحو 285 منشأة رياضية، جرفت بعضها تمامًا، وقصفت بعضها، وحولت الملاعب إلى معسكرات اعتقال وتعذيب.

وفي أحدث إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي، بلغ عدد الرياضيين 894 رياضيًا، والمنشآت 292 بين ملعب وصالة رياضية ومقر إداري.

المنشآت الرياضية

يظهر تتبع المنشآت الرياضية في غزة، واقعا كارثيا، ودمارا كاملا طال كل المرافق تقريبا، حيث قصفت إسرائيل بعض الملاعب، وجرفت بعضها، وحولت البعض لمراكز اعتقال، كما دفعت موجات النزوح المتكررة المواطنين لبعض الملاعب كملجأ ينصبون فيها خيامهم.

ويوثق تتبع الملاعب عبر صور الأقمار الصناعية الدمار الكبير الذي لحق، بالمرافق الرياضية، من بينها منشآت عريقة عاشت وشهدت مباريات دولية وأحداثا بارزة.

ملعب فلسطين

يعد ملعب فلسطين هو الأشهر والأكبر في غزة، يتسع لنحو 10 آلاف مشجع، وتأسس عام 1999، وشهد المباراة التاريخية بين منتخب فلسطين ونادي الزمالك المصري عام 2000، كما استضاف نادي الوحدات الأردني حين واجه اتحاد الشجاعية في بطولة كأس الكؤوس الآسيوية.

???? ملعب فلسطين الدولي، الذي لطالما احتضن المباريات الدولية والرسمية، بات اليوم أثراً بعد عين.

جرفته آليات الاحتلال، وتحوّل إلى ملجأ للنازحين الذين فرّوا من ويلات القصف، ليصبح شاهداً على أحلامٍ كانت هنا وانطفأت.

???? عدسة مؤمن الكحلوت #SaveGaza #فلسطين #الإبادة_الجماعية… pic.twitter.com/tCdpughxi5

— Palestine Football Association (@Palestine_fa) November 11, 2024

وتظهر الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية في 29 سبتمبر/أيلول، تكدس الخيام في الملعب، وتحوله لمعسكر لاجئين، بعد دمار طال كل مرافقه بسبب القصف المستمر.

ملعب اليرموك

أحد أقدم الملاعب الفلسطينية، والذي تأسس في 1952، ويتسع لـ9 آلاف مشجع، ويستضيف مباريات العديد من أندية مدينة غزة في الدوري الممتاز، كما يستضيف العديد من الأحداث الاجتماعية والثقافية.

????صور حديثة لـ #ملعب_اليرموك في مدينة #غزة، تظهر حجم الدمار الهائل الذي لحق به بعد أن اجتاحه جيش الاحتلال بالدبابات والجرافات، ودمّره كليا، وحوّله إلى مركز اعتقال وتعذيب، في جريمة تشهد على وحشية هذه العصابات التي لم يسلم منها بشر أو حجر في قطاعنا الصامد.#غزة #فلسطين pic.twitter.com/xNGQwhGGj9

— Palestine Football Association (@Palestine_fa) May 6, 2024

إعلان

وتهدمت مرافق الملعب، ولم يتبق من معالمه ما يشير لصورته القديمة، التي عرفت لنحو 75 عاما، وتحولت مساحته لساحة تجمع النازحين.

وكان الملعب قد شهد في وقت سابق، تحويله من قوات الاحتلال ليصبح معسكر اعتقال، جمع فيها عشرات المواطنين لاعتقالهم والتحقيق معهم.

ملاعب منطقة السودانية

ضمت مناطق السودانية في مدينة غزة، عددا من الأندية الشهيرة، مثل نادي غزة ونادي الهلال، وقد اختفت معالمها تماما في صور الأقمار الصناعية الملتقطة في 29 سبتمبر/أيلول.

ملعب بيت لاهيا

يعد ملعب بيت لاهيا من أكبر ملاعب شمال القطاع، واستضاف لسنوات مباريات الدوري الممتاز، لفرق شمال غزة، لكنه تعرض لعدة استهدافات منذ بداية الحرب.

وطال الدمار مرافق النادي، واختفاء كل المساحة الخضراء، وغياب أي وجود للنازحين، في ظل القصف الإسرائيلي المستمر على المنطقة، والتي تقع ضمن مناطق الإخلاء الحالية.

ملعب بيت حانون

وفي شمال القطاع، تعرض ملعب بيت حانون وهو أحد أشهر ملاعب غزة، لدمار كامل، أسوة بباقي مدينة بيت حانون، التي تظهر الصور دمارا كاملا لمبانيها.

ملعب المدينة الرياضية/خان يونس

وكان ملعب المدينة الرياضية في خان يونس، شاهدا على جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الرياضة، حيث اجتاحته آليات الاحتلال وجرفته بالكامل خلال العملية البرية في خان يونس مطلع 2024.

قـوات الاحتلال تواصل مسلسل تدمير المنشـآت الرياضية، وتقوم بتدمير ستاد المديـنة الريـاضية بخـانيونس، ليصبح بذلك سادس الملاعب الرياضية الكبرى المدمرة بعد ملعب بيت حانون الرياضي، اليرموك، ستاد فلسطين، ملعب التفاح وملعب نادي #غزة الرياضي، إضافة للعديد من الملاعب التدريبية في القطاع pic.twitter.com/18oQEgGvco

— Palestine Football Association (@Palestine_fa) January 26, 2024

ملعب رفح البلدي

يعد من أقدم ملاعب القطاع، وقد تأسس عام 1953، يتسع لـ5 آلاف متفرج، وتستخدمه أندية رفح في مبارياتها الرسمية.

وتحول في فترات طويلة لمركز إيواء نازحين، قبل أن تخلى المدينة بالتزامن مع اجتياحها بريا.

الملاعب الخماسية

لم يقتصر الدمار على الملاعب الكبرى والأندية المعروفة، بل طال مئات الملاعب الخماسية المنتشرة في أنحاء القطاع، والتي دمر أغلبها وتحول الكثير منها لأماكن نزوح.

وحسب ما وثق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فقد دمر منذ بداية الحرب أكثر من 300 ملعب خماسي.

وكانت الملاعب الخماسية قد انتشرت في غزة بشكل مكثف خلال السنوات الماضية، حيث أنشأتها الأندية الكبرى كمصدر إضافي للدخل، ثم امتدت لكل أنحاء القطاع، وصلت لبناء أحد الملاعب على سطح بناية، كما فعل نادي الصداقة الرياضي.

ومثلت الملاعب المعشبة صناعيا، فرصة للأطفال والشباب داخل القطاع لممارسة الرياضة في أجواء مناسبة، كما تطور الأمر ليأخذ طابعا تنافسيا، بعد إطلاق عدد من البطولات الرسمية لكرة القدم الخماسية، تحت إشراف اتحاد كرة القدم.

كما وثق المرصد تدمير 22 مسبحا، وتضرر وتدمير 28 مركزا رياضيا للياقة البدنية، وهي التي انتشرت في القطاع وحظيت باهتمام واسع من الشباب خلال السنوات الأخيرة.

الموقف العالمي الرسمي

وقادت هذه الجرائم الممتدة لعامين، لانطلاق عدة حملات شعبية وحقوقية تطالب باستبعاد فوري لإسرائيل من كل الفعاليات الرياضية حول العالم.

On Thursday, the FIFA Council decided not to expel Israel from international competitions. The issue wasn’t even on the official agenda, so it was never put to a vote.
This means both Israel’s national team and clubs remain free to compete as normal while Israel commit genocide. pic.twitter.com/2pRUMzhQZW

— Leyla Hamed (@leylahamed) October 3, 2025

 

وحضرت المطالبات في الكثير من الملاعب حول العالم، ورفعت الجماهير شعار "كرت أحمر لإسرائيل" والذي حظي برواج واسع عبر المنصات، وسط مطالبات لكل الاتحادات والشركات الرياضية بمقاطعة إسرائيل.

"Stop Genocide"

"Show Israel The Red Card"

Making the team with Israel’s most racist fans play their match under the shadow of these banners is an amazing job. Thank you, PAOK. pic.twitter.com/yxIWckHsDS

— Antifa_Ultras (@ultras_antifaa) September 24, 2025

 

وخلال الأسابيع الأخيرة، شهدت كرة القدم الأوروبية حملة نشطة تطالب بإيقاف إسرائيل، وتقود الحملة عدة دول أوروبية طبقا للتقارير الإسرائيلية.

إعلان

وتعتمد المطالبات، على تقرير لخبراء الأمم المتحدة صدر في 23 سبتمبر/أيلول، يطالب الفيفا واليويفا باستبعاد إسرائيل من البطولات الرياضية، استنادا للجرائم المستمرة والإبادة الجارية في فلسطين المحتلة، رافضين أن تستمر الرياضة بمعزل عما يحدث.

UN experts call for suspension of #Israel from @FIFAcom & @UEFA amid unfolding genocide in occupied #Palestine.

Sporting bodies must not turn a blind eye to grave human rights violations, especially when their platforms are used to normalise injustices.https://t.co/216nFJtEeG pic.twitter.com/ROIYB4CUuL

— UN Special Procedures (@UN_SPExperts) September 23, 2025

وعبر المنصات، رصدنا تفاعلا مكثفا مع المطالبات باستبعاد إسرائيل، مع تنديد بتواطؤ المؤسسات الرياضية التي ترفض عقاب إسرائيل رغم آلاف الجرائم الموثقة.

"UN experts call for suspension of Israel from international football amid unfolding genocide in occupied Palestine."

Give Israel the red card now ????https://t.co/wINqOXkciF

— Daniel Lambert (@dlLambo) September 23, 2025

 

وانضم اللاعبون للمطالبات، وذلك عبر تجمع أطلق عليه "Athletes 4 Peace" يتصدره لاعبون مثل بول بوغبا وحكيم زياش، وأصدروا بيانا يطالبون فيه بتعليق مشاركة إسرائيل لحين التزامها بالقانون الدولي وإيقاف مجازرها ضد المدنيين.

48 athletes including Paul Pogba call for UEFA to suspend Israel because “It is an obligation for sporting bodies to take action against sports teams representing a country which… is committing genocide.”https://t.co/aWnbkNBPuo pic.twitter.com/4NRKaNG6Uy

— Nathan Kalman-Lamb (@nkalamb) September 27, 2025

 

وأضاف البيان: "بصفتنا رياضيين محترفين من خلفيات وديانات متنوعة، نؤمن أن الرياضة يجب أن تلتزم بمبادئ العدالة والإنصاف والإنسانية، ولا يمكن لها أن تظل صامتة أمام ذبح المدنيين والرياضيين، بمن فيهم الأطفال، في غزة. تقع على عاتق الهيئات الرياضية مسؤولية اتخاذ إجراءات ضد الفرق التي تمثل دولة ترتكب إبادة جماعية، وفق لجان الأمم المتحدة".

موقف الفيفا

ومن جانبه، أصدر الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" بيانا في 2 أكتوبر/تشرين الأول الجاري على لسان رئيسه جياني إنفانتينو، قال فيه إن الرياضة لا يمكنها حل الصراعات الجيوسياسية، وهو ما وافقه عليه ألكسندر تشيفرين، رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، والذي اكتفي، بعد أكثر من 67 ألف شهيد في غزة، بإبداء ألمه لمعاناة المدنيين والأطفال، ومشيرا في الوقت نفسه لرفضه فرض أي عقوبات رياضية على اللاعبين والأندية الإسرائيلية، فالرياضيون لا يتحملون مسؤولية القرارات الحكومية على حد تعبيره.

ولم يقدم الاتحاد الأوروبي أي تبريرات أو بيانات يوضح فيها خطواته التي ينوي اتخاذها، أو الفارق الذي جعل إيقاف روسيا عن المسابقات الرياضية يخرج بعد أيام فقط من انطلاق الحرب في أوكرانيا، ورغم ضغوط متواصلة من اتحادات أوروبية لاستبعاد إسرائيل، فلا يبدو أن تصويتا قريبا سيعقد في الاتحاد الأوروبي، فلم يمض على الإبادة في غزة سوى عامين.

ويظهر تتبع الجرائم الإسرائيلية، حجم الاستهداف للرياضة الفلسطينية، والذي يمتد لعقود، حرصت فيها إسرائيل على التضييق على الرياضة الفلسطينية ومنعها من أي ظهور عالمي، واستهداف اللاعبين المتألقين بالاعتقال والقتل، وهو ما تستمر في فعله بشكل متواصل منذ عامين، دون أي موقف رسمي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات سبتمبر أیلول لکرة القدم بیت حانون ملعب بیت pic twitter com فی غزة

إقرأ أيضاً:

أجهزة التنفس التي جعلت إسرائيل حيّة إلى اليوم

منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، حاولت إسرائيل ترميم صورتها التي كسرها الطوفان، فسعت إلى تقديم نفسها في صورة "الرجل الأقوى" في قلب الشرق الأوسط، متحديةً الجميع بلا خوف.

بدا المشهد محسوبًا: جيش يمتلك أحدث الأسلحة، واقتصاد يواصل الإنفاق على القتال، وقيادة سياسية ترفع شعار الردع والتحدي.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ما قصة الملياردير الغامض الذي يبتلع تيك توك من أجل إسرائيل؟list 2 of 2إسرائيل تبدأ محاصرة تركيا عبر هذه الخطةend of list

غير أن هذه الصورة تُخفي مفارقة جوهرية، فإسرائيل وجدت نفسها بالفعل منبوذة دوليًّا، ولم تكن "الأقوى" كما أرادت أن تبدو.

فإسرائيل، ذات القدرات المحدودة جغرافيا وديموغرافيا، لم تصمد بفضل قدراتها الذاتية، بل لأنها استندت إلى دعم خارجي كثيف منحها القدرة على الاستمرار، من السلاح الأميركي إلى المظلة السياسية والاقتصادية الغربية، التي أبقت الحرب ممكنة لعامين كاملين.

ففي الشهور الأولى وحدها، تدفقت أطنان الأسلحة الأميركية عبر الموانئ والمطارات، ووافق الكونغرس على حزم بمليارات الدولارات لدعم ترسانة تل أبيب. الأهم من ذلك ربما أن إسرائيل حصلت على تمويل ضخم من مؤسسات مالية كبرى اشترت سندات إسرائيلية بقيمة 19.4 مليار دولار خلال عامين من الحرب.

فقد أظهر تحقيق أجرته مجموعة البحوث المالية الهولندية "بروفوندو" (Profundo) أن بنوكًا أوروبية وأميركية كبرى أدّت دورًا مباشرًا في تمويل الحرب من خلال الاكتتاب في السندات الحكومية الإسرائيلية.

ووفقا للتقرير، شاركت مؤسسات مالية أوروبية بارزة،، بجانب بنوك ومجموعات مالية أميركية مرموقة  في شراء هذه السندات وتوفير السيولة اللازمة، وهو ما يجعلها مساهما أساسيًّا في تمكين تل أبيب من الاستمرار في حربها.

يعزز هذه المعلومات ما سبق أن أوردته فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة في يوليو/ تموز الماضي (2025) حول تدخل بعض أكبر البنوك في العالم، بما في ذلك بي إن بي باريبا وباركليز، لتعزيز ثقة السوق من خلال الاكتتاب في سندات الخزانة الإسرائيلية، مما سمح لتل أبيب بتدبير التمويل اللازم للحرب على الرغم من خفض تصنيفها الائتماني، بحسب ما نقلته الغارديان.

إعلان

ساهمت هذه التدفقات المالية في رفع نفقات الحرب بشكل ملحوظ. فعلى سبيل المثال، قفزت موازنة وزارة الدفاع الإسرائيلية من نحو 60 مليار شيكل (18.3 مليار دولار) عام 2023 إلى حوالي 99 مليار شيكل (30.2 مليار دولار) بحلول 2024.

ومن اللافت أن العامل الاقتصادي لم يشكّل عائقًا أمام استمرار الحرب، إذ أكّد باحثون أن الاعتبارات المالية لم تمنع إسرائيل من مواصلة القتال، بل على العكس، عزّزت إنفاقها الدفاعي بصورة غير مسبوقة، مما جعل الحرب قابلة للاستمرار دون أن تتحول تكلفتها إلى عبء خانق على الداخل الإسرائيلي.

في الوقت ذاته، أدّت جماعات الضغط والأحزاب السياسية دورًا محوريًّا في استمرار "آلة القتل" الإسرائيلية، بعدما ضخّت اللوبيات المؤيدة لإسرائيل مبالغ طائلة في الحملات الانتخابية خلال عام 2024، مستهدفة إسقاط نواب الكونغرس الذين دعوا إلى وقف إطلاق النار أو انتقدوا الحرب الإسرائيلية.

وتشير البيانات أن "أيباك" وحدها أنفقت أكثر من 95 مليون دولار على السباقات الانتخابية في عام 2024 حيث رأت في الحفاظ على الخط السياسي الرافض لممارسة أي ضغط على إسرائيل، استثمارًا يستحق إنفاق كل هذه الأموال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو  في مؤتمر السياسة لعام 2014 للجنة العمل السياسي الأميركي الإسرائيلي (أيباك)، في واشنطن العاصمة، في 4 مارس/آذار 2014 (الأوروبية)

هذا التمويل السياسي كان كفيلًا بضمان استمرار الدعم الحكومي الأميركي غير المشروط لتل أبيب، رغم التراجع الملحوظ في تأييد الرأي العام الأميركي لنهجها العسكري. ورغم التوترات الداخلية الناجمة عن الحرب، كانت الإدارة الأميركية في كل مرة توافق على طلبات السلاح الإسرائيلية، في انعكاس واضح لاستمرار الدور السياسي الذي يوفّر لإسرائيل حماية دبلوماسية وعسكرية راسخة.

ولعل الأخطر أن هذا الغطاء هو ما أتاح لإسرائيل أن تتحدى المجتمع الدولي بصفاقة، ففي مجلس الأمن وفّر الفيتو الأميركي الحماية لقصفها، بينما تولى الإعلام الغربي إعادة صياغة المجازر بلغة "الدفاع المشروع".

هكذا، لم تكن القوة التي تدّعي إسرائيل امتلاكها حقيقةً ذاتيةً قائمة بذاتها، بل انعكاسا لشبكةٍ من أرجلٍ صناعية تمدّها بالوقوف. هي أقوى فقط لأنها تستند على أكتاف الآخرين، ونتيجة ذلك، فإن مظهر وحدتها ليس استقلالًا، بل عزلة مشوبة بالاعتماد على آخرين: نبذ دولي من جهة، واعتماد مطلق على الغرب من جهةٍ أخرى.

من هنا، لا يكفي توثيق الفظاعات في غزة وحدها، بل يجب أيضًا أن تُدرس آليات الاستدامة، التي حوّلت حربًا كان من الممكن أن تنتهي سريعًا إلى نزاعٍ ممتدّ لعامين. ففهم نقاط التفوّق التي استمدّتها إسرائيل من الدعم الخارجي، وكيف استثمرت هذا الدعم سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا يمثل شرطًا أساسيًّا لأي قراءةٍ إستراتيجيةٍ تبتغي تحديد المصادر الحقيقية للقوة الإسرائيلية.

شبكات الإسناد الدفاعي والتقني

تُقدّم تقارير "لجنة الأصدقاء الأميركيين للخدمة" (AFSC) -وهي منظمة غير ربحية مهتمة بقضايا العدالة والسلام- خريطة دقيقة لشبكات الإسناد التي مكّنت إسرائيل من إطالة أمد القتال وتوسيع نطاقه.

إعلان

فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحركت منظومة متكاملة: عسكرية، وتكنولوجية، ولوجستية ومالية، لتزويد الجيش الإسرائيلي بمواد القتل وأدوات الإدارة والسيطرة.

في قلب هذه المنظومة تقف شركات صناعة السلاح الأميركية، مثل لوكهيد مارتن، وآر تي إكس "رايثيون سابقا"، وبوينغ، وجنرال دايناميكس، إلى جانب المجمّعات الإسرائيلية (رافائيل، إلبيت، الصناعات الجوية)، مع شركائها الأوروبيين، مثل ليوناردو الإيطالية، وشركات ألمانية مثل راينميتال، ورينك، وتيسن كروب، فضلا عن شركات أخرى من خارج أوروبا، مثل فانوك اليابانية المتخصصة في الروبوتات الصناعية.

لوكهيد مارتن كانت مسؤولة عن خدمات التزويد والصيانة لطائرات إف-16، علاوة على دعم أسطول إسرائيل المتنامي من طائرات إف-35 المقاتلة، التي تعدّ العمود الفقري للقوات الجوية الإسرائيلية. أما بوينغ، فقامت بتوريد مجموعات تحويل القنابل إلى قنابل موجهة (JDAM)، إلى جانب قنابل صغيرة القطر من طراز "GBU-39" تزن الواحدة منها 250 رطلا، بحسب ما وثّقت منظمة العفو الدولية.

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحركت منظومة متكاملة: عسكرية، وتكنولوجية، ولوجستية ومالية، لتزويد جيش الاحتلال بمواد القتل وأدوات الإدارة والسيطرة (الجزيرة)

في الميدان الأرضي، وفّرت الشركات الصناعية الثقيلة، مثل كاتربيلر (الأميركية) وهيونداي (الكورية)، الجرافات والحفّارات التي استُخدمت في هدم البُنى التحتية وإنشاء محاور لوجستية، مما أسهم في فرض وقائع ميدانية دائمة تُسهّل عمليات السيطرة والانتشار.

في الوقت نفسه، قدّمت شركات تصنيع المركبات المدرعة منصّات لنقل القوات، فشركات مثل "أوشكوش" و"إيه إم جنرال" (الأميركيتين) زوّدت إسرائيل بناقلات جنود مدرعة وعربات قتال خفيفة ودروع واقية. هذه المركبات مع المعدات الهندسية الثقيلة شكّلت معًا العمود الفقري للقدرة على المناورة والتحكّم في المناطق المحيطة، وتحويل الأحياء إلى مساحات عملياتية يمكن إدارتها عسكريًّا.

الشركات التكنولوجية كان لها أيضًا نصيب، حيث ساهمت بأدوات جمع البيانات والتحليل التي دعمت عمليات المراقبة والاستهداف.

وقد اعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي علنًا باستخدام خدمات أمازون للحوسبة السحابية في تعزيز قدراته خلال حربه على غزة، إلى جانب خدمات غوغل ومايكروسوفت السحابية. غير أن أمازون تعدّ "الأقرب" إلى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بحسب تقارير متواترة.

فمنذ عام 2021، وفرت أمازون خدمات سحابية للحكومة الإسرائيلية في إطار مشروع "نيمبوس"، وهو عقد قيمته نحو 1.2 مليار دولار تُشارك فيه غوغل وأمازون، ويمنح الوصول إلى بنى تحتية سحابية متقدمة تخدم جميع فروع الحكومة الإسرائيلية، بما فيها: الجيش، وجهاز الأمن العام (الشاباك)، والشرطة، ومصلحة السجون، ومصنعو الأسلحة المحليون مثل الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI) ورافائيل، فضلًا عن جهات حكومية مرتبطة بالمشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة، بحسب تقارير (AFSC).

ناشطون وعاملون في مجال التكنولوجيا يحتجون على عقد مشروع نيمبوس الذي أبرمته غوغل وأمازون مع الجيش والحكومة الإسرائيلية في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا، الولايات المتحدة، 29 أغسطس/آب 2023 (رويترز)سلاسل الإمداد والتمويل

ترافق ذلك مع استغلال مخزونات أميركية متواجدة مسبقًا داخل إسرائيل، ضمن ما يُعرف بـ"المخزون الاحتياطي الحربي للحلفاء داخل إسرائيل" (War Reserve Stockpile Allies – Israel) والمعروف اختصارا باسم "WRSA-I"، وهو مخزون استراتيجي ضخم تحتفظ به وزارة الحرب الأميركية (البنتاغون) داخل الأراضي الإسرائيلية بهدف دعم إسرائيل (أو أي حروب أميركية أخرى) في أوقات الطوارئ.

تأسس هذا المخزون في التسعينات وزاد حجمه باستمرار من 100 مليون دولار إلى ما يعادل 4.4 مليار دولار وفق آخر الإحصاءات.

إعلان

وقد جرى توثيق قيام الولايات المتحدة بدعم إسرائيل من هذا المخزون في مناسبتين سابقتين على الأقل (قبل الحرب الحالية) إبان حرب لبنان عام 2006 وخلال حرب غزة عام 2014.

وإذا نظرنا إلى هذا المخزون الحيوي الغامض، إلى جانب إجراءات التسليم المسرَّعة وعقود الطوارئ، يمكننا فهم حجم الدور الأمريكي في تقليص زمن الاستجابة الاسرائيلي وحماية تل أبيب من الاستنزاف القتالي. بعبارة أخرى، لم تُدَر الجبهات الصهيونية بقدرات محلية محضة، بل باستنزاف سريع ودائم لمخزونات أميركية مسبقة وأوامر شراء عاجلة.

في غضون ذلك، شكلت اللوجستيات والوقود شريان الحياة للعمل العسكري. ناقلات الوقود وشركات الشحن الجوي نقلت آلاف الأطنان من الذخائر والعتاد إلى ساحات القتال، وشركات الطاقة الدولية (مثل فاليرو الأميركية) أمّنت إمدادًا مستمرًّا لوقود الطائرات والمركبات، مما أزال أي عائق لوجستي أمام الحملة.

هذا التنسيق بين العقود الحكومية الأجنبية ومحاولات الاستعانة بمقاولين تجاريين محليين أو دوليين مستقلين، كشف عن تداخل عميق بين القطاعين العام والخاص في ضمان استمرارية الإمداد وسرعة دوران الآلة القتالية.

مكّنت التدفقات المالية المستمرة هذا النظام من العمل بلا اهتزاز. فصناديق الاستثمار والمؤسسات المالية الضخمة، مثل بلاك روك وفانغارد، استثمرت في شركات السلاح والتكنولوجيا، بينما أدّت بنوك كبرى دورًا في تنظيم سوق السندات الحكومية الإسرائيلية لتمويل النفقات الطارئة. كما وظِّفت برامج المساعدات الأميركية المشروطة بشراء السلاح الأميركي كآلية لخلق طلب مضمون، بما أذاب أي ضغط اقتصادي محتمل على استمرار العمليات.

وفي المحصلة، نجحت إسرائيل في توظيف طيف واسع من الشركات عبر مسارات متوازية ومتكاملة. فمن جهة، تم رفع القدرة النارية وتسهيل الاختراق الأرضي عبر تدفق الأسلحة والذخائر والمعدات الهندسية. ومن جهة أخرى، رُقمنت ساحة المعركة من خلال الاعتماد على البنى السحابية وأدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات ورسم خرائط الاستهداف.

وفي الميدان، تم تثبيت السيطرة عبر المعدات الثقيلة والمركبات المدرعة التي فتحت الممرات وحوّلت البيئات المدنية إلى فضاءات عملياتية. أما في الخلفية، فقد جرى تأمين دعم مالي ولوجستي دائم عبر أسواق المال والعقود الدولية، بما ضمن استمرار تدفق الموارد بلا انقطاع. وبذلك يتبين أن الحرب استمرت نتيجة منظومة تجارية وتقنية دولية محكمة، جعلت من عنف الاحتلال نشاطًا منظّمًا ومربحًا، في حين بقيت كلفة الدم والدمار محمولة كليًّا على المدنيين الفلسطينيين.

شراء صمت الكونغرس

استفادت آلة الحرب الإسرائيلية أيضًا من الضغوط الكثيفة التي مارستها اللوبيات المؤيدة لتل أبيب وأجهزتها الأمنية. فبينما أظهرت استطلاعات متكررة أنّ غالبية الأميركيين -ولا سيما فئة الشباب والمستقلين- تؤيد وقف إطلاق النار أو تقليص الدعم العسكري لإسرائيل، نجحت جماعات الضغط في تحويل هذا الميل الشعبي إلى عبء على المشرّعين، بدلًا من أن يكون دافعًا لتغيير السياسات.

الأداة الأبرز كانت المال الانتخابي. ففي انتخابات عام 2024، قدّم الذراع السياسي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) دعمًا يزيد على 53 مليون دولار لصالح 361 مرشحًا من الحزبين، في إشارة واضحة لأي سياسي، بأن البقاء في المشهد السياسي مرهون بالتماهي مع خطّ الدعم غير المشروط لتل أبيب.

يمكن لأيباك فعل ذلك باستغلال ما يُعرف في النظام الأميركي بـ"لجان العمل السياسي الفائقة" أو "السوبر باكس" (Super PACs)، وهي كيانات مستقلة قانونيًّا عن المرشحين، لكنها تستطيع جمع أموال غير محدودة من الأفراد والشركات وإنفاقها على الحملات الانتخابية لدعم أو تقويض أي مرشح.

ويُطلق على هذا النمط من التمويل اسم "الإنفاق الخارجي العدائي" (Aggressive political spending)، لأنه يُستخدم غالبًا لاستهداف وإضعاف خصوم سياسيين عبر حملات دعائية ضخمة. وعلى رأس هذه الكيانات يقف "مشروع الديمقراطية المتحدة"، وهو سوبر باك تابع لإيباك، أنفق وحده نحو 14.5 مليون دولار لإسقاط النائب (الديمقراطي) جمال بومان في دائرة "نيويورك–16″، وهو أحد أبرز الأصوات التي طالبت بوقف الحرب.

هذا النفوذ انعكس بشكل مباشر في البيت الأبيض أيضا. فحين بدا أن مسار الكونغرس قد يشكل عائقًا، لجأت إدارة جو بايدن إلى استخدام صلاحيات الطوارئ لتمرير صفقات ذخائر لإسرائيل.

إعلان

على سبيل المثال، مررت إدارة بايدن خلال شهر واحد فقط هو ديسمبر/كانون الأول 2023 صفقتي ذخائر إلى إسرائيل بقيمة إجمالية تتجاوز 250 مليون دولار، متخطية مراجعة الكونغرس، بما يكشف أن الضغوط المالية والسياسية لم تكتفِ بتطويع السلطة التشريعية، بل هيّأت بيئة دفعت السلطة التنفيذية لتجاوز أي عراقيل باسم "حماية إسرائيل" باعتبارها أولوية إستراتيجية.

وعلى المستوى الدولي، وقفت الولايات المتحدة مرارًا كحاجز أمام أي تحرك دولي جاد، مستخدمةً حق النقض (الفيتو)، لإسقاط مشروعات قرارات تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. وهو ما اعتبرته منظمة العفو الدولية بمثابة "ضوء أخضر" لمواصلة الاعتداءات دون رادع فعّال.

أما في أوروبا، فقد تباينت المواقف داخل الاتحاد الأوروبي، لكن ضغوط الجماعات الموالية لإسرائيل هناك نجحت في تعطيل مبادرات لفرض عقوبات أو تعليق برامج تعاون مع دولة الاحتلال.

ففي حين طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مقترحات لتجميد بعض المساعدات، تحركت دول مثل ألمانيا وإيطاليا لإبطالها. هذا التباين سمح لإسرائيل بالحفاظ على علاقاتها الأوروبية دون خسائر ملموسة، رغم الانتقادات العلنية لسياساتها في غزة.

وفي ميدان العدالة الدولية، اتخذت الضغوط شكلًا أكثر خطورة. ففي مايو/أيار 2024، كشفت صحيفة الغارديان ووسائل أخرى، أن إسرائيل شنّت حملة تجسس واعتراض اتصالات ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، في محاولة للتأثير في تحقيقاتها المتعلقة بجرائم الحرب في فلسطين.

كما أوضح التقرير أن الاستهداف شمل المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا، ولاحقًا المدعي العام الحالي كريم خان، عبر المراقبة والتشويه والترهيب، لإضعاف أي مسعى لإصدار مذكرات توقيف بحق قيادات إسرائيلية.

وبلغ الأمر حدّ استدعاء هولندا سفير إسرائيل لديها، بعد تقارير عن تورط أجهزتها الاستخبارية في التجسس على المحكمة. رغم أن إدارة ترامب اتخذت مسارا معاكسا تماما لاحقا بفرض عقوبات على قضاة ومدعيين عامين بالمحكمة الجنائية الدولية بدلا من محاسبة إسرائيل على جرائمها.

هذه الممارسات، التي تمزج بين النفوذ المالي في الولايات المتحدة، والتأثير السياسي في أوروبا، وعمليات المراقبة الاستخبارية ضد مؤسسات العدالة الدولية، تكشف كيف عملت إسرائيل، ليس فقط على إدامة الحرب عسكريًّا، بل أيضًا على تحييد كل مسار سياسي أو قضائي قد يقود إلى إدانتها، في معركة لم تقتصر على الميدان وإنما امتدت إلى كواليس وأروقة المؤسسات الدولية، واستُخدم فيها المال والضغط والتجسس لتأمين استمرار آلة القتل دون رادع.

تقييد الحقيقة

أضف إلى ذلك ترافق العدوان الإسرائيلي على غزة مع حملة إعلامية ممنهجة، حُشدت فيها منصات الأخبار والاتصال ضمن آلة الحرب، لتبرير القصف والحصار وتشويه صورة الفلسطينيين. واعتمدت الرواية الإسرائيلية الرسمية على أساليب دعائية تقليدية، أبرزها تصوير المدنيين في غزة كمقاتلين محتملين وهو ما انعكس في تصريحات كبار المسؤولين الذين أنكروا وجود مدنيين أبرياء في غزة من الأساس.

هذه اللغة التحريضية لم تقتصر على الداخل الإسرائيلي، بل انتقلت إلى وسائل الإعلام الغربية التي رددت روايات عن "القضاء على الإرهاب" و"حماية المدنيين الإسرائيليين"، في حين أُلصقت بالفلسطينيين تهم الإرهاب ومعاداة السامية.

ولم تقتصر الحملة على الإعلام التقليدي، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي. فقد استخدمت إسرائيل وحلفاؤها شبكات التواصل الاجتماعي، لنشر رسائل تمجّد "الردع العسكري" وتصور العدوان كعمل مشروع، وضُخّمت هذه الرسائل عبر حسابات رسمية ولوبيات إلكترونية ومنصات تقنية غربية. في المقابل، فرضت سلطات الاحتلال قيودًا صارمة على التغطية المستقلة، فمنعت دخول الصحفيين الأجانب وقيّدت عمل المراسلين، بما يتيح لها التحكم في الرواية الإعلامية على الأرض.

وسط هذا المناخ العدائي، تعرّض عدد من الصحفيين المحليين والدوليين لاستهداف مباشر أثناء مزاولة عملهم، في محاولة واضحة لإسكات الحقيقة ومنع ظهورها.

فوفقًا لمشروع "تكاليف الحرب" التابع لجامعة براون، فإن عدد الصحفيين القتلى منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يفوق مجموع نظرائهم الذين قتلوا خلال الحرب الأهلية الأمريكية، والحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والحروب في يوغوسلافيا السابقة، وحرب أفغانستان.

وقد وثق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استشهاد ما يزيد عن 250 صحفيا منذ بدء الحرب، على سبيل المثال اغتيل أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة، باستهداف خيمة إعلامية قرب مستشفى الشفاء، وقبلها قتلت إسرائيل أيضا مراسل الجزيرة إسماعيل الغول صحبة المصور رامي الريفي كما قُتل المصوّر حسام المصري العامل مع وكالة رويترز خلال تغطيته الميدانية.

كما أردت إسرائيل المصورة الصحفية مريم أبو دقّة التي عملت مع وكالة أسوشيتد برس، إلى جانب الصحفيين محمد سلامة وأحمد أبو عزيز ومعاذ أبو طه ومحمد قريقع، الذين عملوا مراسلين ومصورين مستقلين في غزة. كما أُدرجت أسماء أخرى ضمن قائمة الضحايا، مثل إبراهيم زاهر ومحمد نوفل وأحمد اللوح وحسام شبات والعشرات غيرهم.

في الوقت ذاته، ساهم الإعلام الدولي الموالي لإسرائيل في تبييض الجرائم عبر تكرار تصريحاتها الرسمية من دون تدقيق، وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية في إطار شعبوي يخدم السياسات الغربية. وذهبت بعض المؤسسات إلى إصدار تعليمات سرّية لمحرريها بعدم التركيز على أعداد الضحايا الفلسطينيين، وإعطاء الأولوية للمنظور الإسرائيلي.

ومع ذلك، ظل الإعلام هو الحلقة الأضعف في آلة إسرائيل الحربية. فبرغم الحصار وجدار الدعاية، نجح الفلسطينيون في تفكيك الرواية الرسمية عبر صحافة الميدان والموبايل، التي وثّقت القصف والدمار لحظة بلحظة، لتصل صور غزة إلى العالم مباشرة وتتحول المنصات الرقمية إلى منبر للرواية الفلسطينية.

هذا الانكشاف لم يوقف العدوان، لكنه كشف عجز إسرائيل عن احتكار الحقيقة، وأثبت أن آلة القتل مهما بلغت شدتها، لا تستطيع وحدها حماية الرواية الزائفة من الانهيار.

وهنا يُطرح السؤال: كيف استمرت الحرب لعامين كاملين رغم افتضاح جرائمها أمام أعين العالم؟ الجواب يكمن فيما تكشفه التجربة: أن القضية لا تتعلق فقط بحجم المأساة التي أوقعتها إسرائيل في غزة، بل بطبيعة النظام الدولي الذي أمدها بكل ما يلزم لإطالة أمد الحرب وتحويلها إلى مشروع مربح لشركاته.

فالتدفقات المالية والعسكرية القادمة من واشنطن، والغطاء السياسي والإعلامي الذي أعاد صياغة المذابح في قوالب "الدفاع المشروع"، كل ذلك جعل تل أبيب كطفل يقف على سيقان الآخرين، بينما يحاول أن يقنع العالم بأنه "الرجل الأقوى".

لكن هذا التناقض هو أيضًا نقطة ضعف إسرائيل. فكما أثبتت غزة أن المقاومة ممكنة في وجه التفوق العسكري، أثبتت التجربة أن كشف شبكات الدعم والتواطؤ، وفضح اللوبيات والمؤسسات والشركات التي جعلت استمرار الحرب ممكنًا، يمثل الخطوة الأولى في كسر "السيقان" التي يقف عليها العدوان الإسرائيلي.

مقالات مشابهة

  • أحمد موسى: نتنياهو فشل في إعادة الرهائن رغم الإبادة التي قام بها
  • تعرف على احتياجات غزة من الأموال لإعادة إعمار القطاع.. رقم خيالي
  • مسؤول أممي: إسرائيل دمرت كل مباني غزة ويجب أن تدفع مقابل ذلك
  • الإغاثة الطبية في غزة: 85% من البنية التحتية بالقطاع دمرت خلال العدوان الإسرائيلي
  • ديفيد هيرست: إسرائيل دمرت صورتها الأخلاقية بتدميرها غزة
  • عامان على طوفان الأقصى| أرقام الإبادة في غزة تفضح فظائع الاحتلال.. ومحلل يكشف
  • المدن التي دمرتها الحروب حول العالم.. غزة في المقدمة
  • أجهزة التنفس التي جعلت إسرائيل حيّة إلى اليوم
  • “حماس”: المجازر التي يرتكبها العدو تؤكد إصراره على مواصلة الإبادة حتى اللحظة الأخيرة