في زمن تتسارع فيه وتيرة التطور، وتتنافس فيه الدول على الابتكار والمعرفة، حان الوقت لأن نعيد النظر في الطريقة التي نقيم بها مناسباتنا ودعواتنا الخاصة. لقد آن الأوان أن تتحول اللقاءات الاجتماعية والفعاليات من مجرد مناسبات للتعارف والمجاملات إلى منصات لإظهار الابتكارات، وتشجيع المبدعين ودعم أصحاب الأفكار الخلاقة.


كم من مناسبة تُصرف فيها الأموال على مظاهر الزينة والطعام والضيافة، وتنتهي دون أن تترك أثرًا فكريًا أو قيمة معرفية! بينما لو خُصص جزء يسير من تلك الجهود لتقديم فقرة عن ابتكار جديد، أو عرض مشروع شبابي، أو تكريم طالب موهوب، لأصبح لكل لقاء معنى أعمق وأثر أبقى.
وكل مناسبة عائلية، وكل تجمع مجتمعي وفعالية أن يحمل بصمته في دعم الإبداع. فبدل أن يكون الحديث عن المأكولات أو المظاهر، يكون عن فكرة ناجحة، أو تجربة تطويرية، أو منتج محلي جدير بالفخر. بل يمكن تحويل الدعوات إلى منابر للابتكار عبر تخصيص ركن للمواهب، أو فقرة قصيرة بعنوان “ابتكار الشهر”، أو حتى مبادرة صغيرة لدعم مشروع مبدع من بين الحضور.
الإبداع لا يولد من المؤسسات الكبرى وحدها، بل من البيوت والمجالس التي تُقدّر الفكر وتحتفي بالعقول. والمجتمع الذي يجعل من مناسباته منابر للأفكار، هو المجتمع الذي يصنع مستقبله بنفسه، ويزرع في أبنائه قيمة العمل والعلم لا المظاهر.
إن تحويل المناسبات إلى مصانع للأفكار لا يحتاج إلا إلى نية صادقة وفكر واعٍ يدرك أن الكلمة قد تبني مشروعًا، وأن تشجيع شاب مبتكر قد يصنع إنجاز وطن. ومن هنا يأتي دور الرواد وأصحاب الفكر في المجتمع – أمثال أصحاب الديوانيات الاقتصادية والثقافية – في أن يقودوا هذا التحول، ويجعلوا من لقاءاتهم مصدر إلهام حقيقيًا.
فلتكن مناسباتنا من الآن ليست فقط مجالس ضيافة، بل مجالس نهضة، يخرج منها فكر، وتُزرع فيها بذرة ابتكار، وتُكرَّم فيها العقول قبل الأسماء.
فبهذا وحده نصنع الفرق، ونرتقي بوطننا إلى مصاف الأمم المبدعة

المصدر: صحيفة البلاد

إقرأ أيضاً:

العقولُ الناشئة... مورد وطني يصنع المستقبل

في ساحة نابضة بالحياة والمناقشات والتوجيهات التقنية وحروف ورموز البرمجة وصرير حركة الروبوتات في زوايا الأولمبياد الوطني للابتكارات العلمية والروبوت والذكاء الاصطناعي للعام الدراسي 2025/2026 المقام بمركز عُمان للمؤتمرات والمعارض.

بدا المشهد كمختبر وطني مفتوح تُختبر فيه أفكار ورؤى الطلبة، وتصاغ فيه معادلة المستقبل بأيادي جيل ناشئ يمتلك الجرأة على التفكير خارج الإطار المعتاد.

وأقولها من زاوية الزائر لا المحكم أو المقيم، بمجرد الوصول إلى ساحة الأولمبياد فأنت لا تحتاج كثيرًا من الوقت لتتيقن أن أمامك جيل غير مكتفٍ بالاستهلاك، فهو ممحص للتقنية ومطلع وارتقى بتطلعاته للإبداع والاختبار وصنع مسارات جديدة.

-جيل يخطو بثقة في فضاءات التقنيات الناشئة:

ما يكشفه الأولمبياد كعادته السنوية وإن كان هذا العام بمستوى أكثر وضوح أن الطلبة وموجهيهم مدركين بأن الذكاء الاصطناعي ليس أوسع من التقنيات الناشئة من الروبوتات إلى الأنظمة الذكية، إلى الحلول الرقمية المتقدمة والجدران السيبرانية وما بين ذلك من مجالات تتنامى بسرعة في العالم.

في الحقيقة سبق أن أكدنا - والآن نراه ماثلًا - أن التقنية ليست عنوانًا واحدًا يُختزل في الذكاء الاصطناعي وحده؛ بل هي طيف واسع يطغى فيه الآن الذكاء الاصطناعي، ولكنه لا يلغي ولا يطفئ بريق التقنيات الأخرى التي تشكل النسيج العام للتكنولوجيا. لذلك فإن انخراط الطلبة في هذه الطيفية الواسعة يعني أن وعيهم التقني ناضج ومتشكل بواقعية أكبر غير منساق وراء الموضة التقنية، بل تتعامل مع التقنية كمنظومة مترابطة تحل المشكلات وتفتح مسارات.

-الإبداع يطلب مساحة... والحقوق تطلب حماية:

المبادرات الطلابية التي حضرت تفاوتت في مراحل نضجها بين الناضج كفكرة والسائر إلى النضج تقنيًا وبين الناضج تقنيًا وغابت عنه الفكرة، وهذا يضعنا أمام حقيقة لا نستطيع تجاوزها بالإنكار: "العقول موجودة وراغبة، ولكنّ البيئة المثيرة أو الحاضنة تحتاج إلى توسعة. لماذا؟ ببساطة لأن المبتكر الناشئ لا يحتاج إلى الإشادة وحدها، إنما إلى منصة للظهور وتوجيه وإيصال ابتكاره وعصارة أفكاره إلى المسار الذي يليق به مع حفظ حقه الكامل بدأ من الفكرة إلى المنتج. ببساطة نقول إن تسجيل الأفكار والابتكارات بملكية فكرية لأصحابها وخاصة الناشئين، وتبني الجهات المختصة لمسارات تطويرها هو استثمار في العقل العُماني.

-منصة التحديات... بوابة مفتوحة نحو حلول واقعية:

لا يخفى على الجميع أننا في فترة تتسارع فيها التكنولوجيا أسيًا، وهذا يفرض أن يكون لدينا مركز ننطلق منه ونعود إليها ونعاير من خلاله تقدمنا، وهو ما يمكن أن يكون منصة وطنية للتحديات والمشكلات الحقيقية والأفكار تمثل احتياجات المؤسسات الحكومية والخاصة، وتعرضها بلغة يقرؤها المبتكرون، فيستلهمون منها الحلول، ويبتكرون نماذج ذات مرجع واقعي يجد طريقة نحو التطبيق والتبني أو تصحيح المسار، لا مجرد تصورات مدرسية مؤقتة تختفي باختفاء الحدث الذي ظهرت فيه.

قيمة المنصة التي نتحدث عن إمكانية وجودها وربطها بالمؤسسات تتلخص في أنها ستكون مركز لكشف المواهب واستقطابها وتوجيهها، وكخزان وطني للمشكلات والتحديات وللطاقة الإبداعية، ومهد لتأسيس شركات تقنية ناشئة تنطلق من المدارس والجامعات والمجتمع الذي هو خارج المؤسسات التعليمية نحو السوق بأفكار ومنتجات مستندة لواقع واحتياج حقيقي وتحيط بها أطر وأغطية تحميها تتمثل في ملكية فكرية تتكفل بها المؤسسات والجهات المسؤولة أو المستفيدة.

إن الاحتفاء بالعقول لا يغني إطلاقًا عن رعاية ودعم الابتكارات؛ وذلك لأن الابتكار امتداد لوعي صاحبه ومرآة لطموحه وصوت لطاقته، وكل ذلك ليس مجزأ أو منفصل عن بعضه والحفاظ على الابتكار هو حفاظ على العقل الذي وآتى به، وسيطوره ويحوله لميزه تنافسيه عن توافر البيئة. وعليه فإن رعاية ابتكارات الطلبة وتطويرها وحمايتها ودفعها إلى مراحل التطبيق والسير بها لتكون منتجا ثم ناشئة في مجالات الاقتصاد وغيرها هو جزء أصيل من رعاية الموهبة ذاتها وتحويلها لمورد بشريّ مستدام، تتجدد فيه القيمة وتسمو كلما استثمر فيه، وتتضاعف آثاره كلما وضعت له بيئة ينمو فيها.

-ختامًا... حين يصبح الطالب صانعا للمستقبل:

وزارة التربية والتعليم فتحت الطريق ونقبت في الميدان وهذا دورها ونؤكد أنه ليس الوحيد، وتبقى على المؤسسات الأخرى أن تلتفت إلى الحراك -الظاهر في الأولمبياد وغير الظاهر - التقني لدى الطلبة وتتلقف ما ينتج ويلامس احتياجاتها ولن يحدث ذلك دون المشاركة بعيون تتبع الابتكارات والمبتكرين وأفكارهم.

وما قيل في المقال ليس تقليلًا من الجهود وإنما دعوة لرفع السقف لمواكبة التسارع والحراك العالمي الذي ينشط فيه البحث عن المواهب والمبتكرين واستقطابهم للسعي نحو المستقبل. وما نشهده اليوم من إثارة تقنية لدى الطلبة في مدارسنا نحو الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة الأخرى، هو دليل على أن مستقبلنا سيولد من داخل زوايا هذه القاعات ومن عقول اعتادت أن تسأل: كيف يمكن أن نُحسّن؟، قبل أن تسأل: ماذا سنحفظ؟ هؤلاء الطلبة ليسوا مشروع جيل قادم إنما الميزة التنافسية الحقيقية للدولة؛ وموردها الذي لا يمكن أن ينضب، وطاقتها المستدامة غير القابلة للاستنزاف عند الإيمان بها، واستثمار لا يعرف الخسارة.

مقالات مشابهة

  • في دهوك.. مخبز صغير يصنع مستقبلاً كبيراً لنازحين من سنجار
  • العقولُ الناشئة... مورد وطني يصنع المستقبل
  • «مدن» ترسي عقد مشروع «ميسان» بقيمة مليار درهم في جزيرة الريم
  • حين تتحول الدراما والإعلام إلى قوة تغير المجتمع وتحافظ على هويته
  • أزمة بدون لازمة| القصة الكاملة لفيديو محمد صبحي.. ونجل السائق: والدي لا يرافق الفنان في المناسبات
  • بعد تصدره الترند.. أسرار وكواليس تكريم النجوم في ملتقى التميز والإبداع
  • النائب فتحي البوات ينتقد الاستملاك ويهاجم مسار سكة الصافي
  • الحكومة تدعم نجاح مشروع المدارس اليابانية في مصر والتوسع فيها
  • رئيس الوزراء: الحكومة تدعم نجاح مشروع المدارس اليابانية بمصر والتوسع فيها
  • ثورة في علم الأعصاب.. ابتكار أصغر دماغ – حاسوب في العالم