صحافة المواطن: صالح الجعفراوي أنموذجًا
تاريخ النشر: 13th, October 2025 GMT
بقيت الصحافة والوسائل الإعلامية عمومًا محتكرة لعقود عديدة، مما شكّل نوعًا من تحديد نوع وإطار المعلومة التي تصل إلى الجمهور، لكن مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وتزايد منصاتها ظهرت أنواع جديدة من الصحافة، منها ما يسمى في الدراسات الحديثة صحافة المواطن (Citizen Journalism) التي تعتمد على الفرد في نشر المعلومة، فوازنت بين الاحتكار المعلوماتي الذي كانت تمارسه المؤسسات الإعلامية وتأطيرها، وهكذا تحول كل فرد مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي إلى إعلامي محتمل قادر على صناعة الخبر بنفسه وتأطيرها.
تسمية هذا النوع من الصحافة بـ«صحافة المواطن» هو نوع من إبقاء المركزية للدولة في الوقت نفسه الذي تحرر هذه الصحافة الخبر والوصول إلى المعلومة من السيطرة المركزية للدولة، فأولا التسمية تستخدم لفظ المواطن (citizen) لوصف نوع الصحافة، واللفظ يشير إلى مسألة المواطنة في دولة ما، أي بالمفهوم العام هو فرد ينتمي إداريًّا/ سياسيًّا لدولة ما، ويقع في خانة المحكوم في مقابل الحاكم، لذلك لم تنتفِ صفة المركزية عن الدولة في التسمية، وفي هذا السياق تصف بعض الأدبيات هذا النوع على أنه «الصحافة التشاركية» و«الصحفي التشاركي» أي بمعنى المشاركة في المجال العام وعدم احتكاره للمعلومة كما تفعل المؤسسات الإعلامية سابقًا. وثانيًا، هذا النوع من الصحافة يحرر الخبر والمعلومة من السيطرة المركزية للدولة، إذ قبل ظهوره، لا يمكن الوصول إلى المعلومة الإعلامية إلا من خلال المؤسسات الإعلامية التي في الغالب إما أن تمتلكها الدولة أو تمولها لتتبنى أجندتها، لكن مع وجود هذا النوع من الصحافة أصبحت المعلومة حرة، يمكن أن تذاع بشكل حر من قبل أي فرد يمتلك هاتفًا ومسجّل في مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالي فإن التضارب لا يكون في ذات المعلومة، وإنما في تأويلها، لكنها في ذاتها حرة لأنها يمكن أن تأتي من أكثر من مصدر فلا تكون حبيسة فاعل إعلامي واحد.
من النماذج المهمة التي مثلت صحافة المواطن خلال السنتين الأخيرتين أثناء الإبادة الجماعية على غزة، هو صالح الجعفراوي، الذي يعيش في غزة، إذ استطاع الجعفراوي -الذي استشهد يوم الأحد الماضي- أن ينقل، مع صحفيين آخرين، كثيرًا من الأحداث من خلال هاتفه، مما شكّل رواية بديلة غير مركزية للحقيقة، التي كانت تحتكرها وسائل الإعلام الغربية، حيث استطاعت هذه الصحافة التي مارسها الجعفراوي والآخرون في غزة، أن تصل بالحقيقة إلى الشعوب الغربية، مما دفعها أن تخرج من تضليل وسائل الإعلام الكبرى، وهو ما شكّل تحديًا حقيقيًا لوسائل الإعلام في أن تجادل أو تدافع عن السردية الصهيونية، ففي كل مرة كانت تضلل فيها الحقيقة تفقد هذه البرامج أو القنوات مصداقيتها لدى الجمهور، وبهذه الطريقة تحول صالح الجعفراوي من مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي إلى فاعل إعلامي مؤثر في الرأي العام العربي والعالمي، من خلال البساطة الإعلامية ونقل الصور والأحداث دون محاولة تأويلها أو تحليلها، فكل ما يفعله أن ينقل الحدث كما هو من عمق المأساة ذاتها، وقلب الإبادة والمجازر وليس بعيدًا عنها. حتى أصبحت حساباته الشخصية مصدرًا للأخبار في غزة وما يجري فيها.
على الرغم من التأثير البالغ للصحافة التشاركية (أو صحافة المواطن) على الجمهور المستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الجعفراوي كان يواجه التحديات التي يشترك فيها مع الصحفيين التشاركيين جميعًا، لا سيما في ظل الحرب، منها التحديات الأمنية، وهي المتعلقة بأمنه الشخصي، إذ هو مضطر ـ بناء على المنهجية التي اتبعهاـ أن يكون في قلب الحدث لتصوير الأحداث التي تقع كما هي، سواء كان في أحياء تقصف، أو يحدث فيها تبادل إطلاق النار، أو المستشفيات، مما جعل أمنه الشخصي مهددًا طوال السنتين الماضيتين، الذي يشكل تأثيرًا على صحته الجسدية والنفسية كذلك، فضلا عن عدم قدرته على النزوح أو الراحة، مما جعل استشهاده نتيجة لهذا التهديد الأمني أيضا، إذ استشهد بينما كان يصور إطلاق نار، إضافة إلى أنه يواجه بعض التحديات في المشككين في صحة الأخبار، وهو ما تتبناه السردية الصهيونية التي تنفي ما يصوره صالح الجعفراوي، أو تتهمه مع الشخصيات الواردة في الصور والمقاطع التي ينشرها على أنها مجرد تمثيل، وبالتالي هناك تشكيك مستمر في مصداقية المعلومة التي ينشرها، فضلا عن الشائعات المستمرة التي تنشر عنه للتقليل من مصداقيته الإعلامية. ومن هنا يُمكن للأفراد المتلقين عمومًا أن يصلوا لحالة الموازنة بين المصداقية وعدم الإضرار بالصحفي أو إلحاق الشائعات به، من خلال المقارنة بين مصادر المعلومة الواحدة وكيف يُمكن التفريق بين المعلومة في ذاتها وبين تأويلها.
شكلت تجربة الجعفراوي في ممارسة صحافة المواطن ظاهرة تستحق الدراسة من حيث إنها نقلت الإعلام وأعادت تعريفه باعتباره واجبًا إنسانيًا وأخلاقيا وليس مجرد مهنة، إذ الصحفي المواطن لا يتلقى أي أجر مقابل نشاطه الإعلامي ـ إلا في حالة الإعلان أو تعاقده مع مؤسسة تموله ـ وإنما يقوم بالأمر من دافع أخلاقي، وبهذه الطريقة يصبح المواطن قادرًا على إنتاج الحقيقة والمشاركة في البلوغ بها لتأدية تأثيرها على العقل الجمعي والفردي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التواصل الاجتماعی صالح الجعفراوی صحافة المواطن من الصحافة هذا النوع من خلال نوع من
إقرأ أيضاً:
ماذا قال صالح الجعفراوي في وصيته؟
صراحة نيوز-نشر علي عامر الجعفراوي شقيق صالح الجعفراوى، الذي استشهد مساء أمس في غزة، وصية مؤثرة كتبها أخوه قبل مفارقته الحياة عبر منشور على مواقع التواصل الاجتماعى، عبّر فيها صالح عن ثباته وإيمانه بطريق المقاومة حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
وجاء في الوصية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، القائل: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.”
أنا صالح.
أترك وصيتي هذه، لا وداعًا، بل استمرارًا لطريقٍ اخترته عن يقين.
يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، عشتُ الألم والقهر بكل تفاصيله، وذُقت الوجع وفقد الأحبة مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، الحقيقة التي ستبقى حجة على كل من تخاذل وصمت وأيضا شرف لكل من نصر ودعم ووقف مع أشرف الرجال وأعز الناس وأكرمهم أهل غزة
إن استشهدت، فاعلموا أنني لم أغب…
أنا الآن في الجنة، مع رفاقي الذين سبقوني؛
مع أنس، وإسماعيل، وكل الأحبة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
أوصيكم أن تذكروني في دعائكم، وأن تُكملوا المسير من بعدي.
تذكروني بصدقاتٍ جارية، واذكروني كلما سمعتم الأذان أو رأيتم النور يشقّ ليل غزة.
أوصيكم بالمقاومة…
بالطريق الذي سرنا عليه، وبالنهج الذي آمنا به.
فما عرفنا لأنفسنا طريقًا غيره، ولا وجدنا معنى للحياة إلا في الثبات عليه.
اوصيكم بأبي .. حبيب قلبي وقدوتي، من كنت أرى نفسي فيه ويرى نفسه في .. يا من رافقتني وقت الحرب بكل ما فيها .. أسأل الله أن نلتقي في الجنان وأنت راض عني يا تاج رأسي
اوصيكم بأخي ومعلمي ورفيق دربي ناجي،
يا ناجي… قد سبقتُك إلى الله قبل أن تخرج من السجن،
فاعلم أن هذا قَدَرٌ كتبه الله،
وأن الشوق إليك يسكنني،
كنت أتمنى أن أراك، أن أضمّك، أن نلتقي،
لكن وعد الله حق، ولقاؤنا في الجنة أقرب مما تظن.
اوصيكم بأمي…
يا أمي، الحياة بدونك لا شيء.
كنتِ الدعاء الذي لا ينقطع، والأمنية التي لا تموت.
دعوتُ الله أن يشفيك ويعافيك،
وكم حلمت أن أراكِ تسافرين للعلاج، وتعودين مبتسمة.
اوصيكم بإخوتي وأخواتي،
رضا الله ثم رضاكم غايتي،
أسأل الله أن يسعدكم، وأن يجعل حياتكم طيبة كقلوبكم الرقيقة التي طالما حاولت ان اكون مصدر سعادةٍ لها.
كنتُ أقول دومًا:
لا تسقط الكلمة، ولا تسقط الصورة.
الكلمة أمانة، والصورة رسالة،
احملوها للعالم كما حملناها نحن.
لا تظنوا أن استشهادي نهاية،
بل هو بداية لطريقٍ طويلٍ نحو الحرية.
أنا رسول رسالةٍ أردت أن تصل إلى العالم—إلى العالم المغمض عينيه، وإلى الصامتين عن الحق.
وإن سمعتم بخبري، فلا تبكوا عليّ.
لقد تمنّيتُ هذه اللحظة طويلًا، وسألت الله أن يرزقني إياها
فالحمد لله الذي اختارني لما أحب.
ولكل من أساء إلي في حياتي شتماً أو قذفاً كذباً وبهتاناً أقول لكم ها أنا أرحل إلى الله شهيدا بإذن الله وعند الله تجتمع الخصوم
أوصيكم بفلسطين…
بالمسجد الأقصى…
كانت أمنيتي أن أصل فناءه، أن أُصلّي فيه، أن ألمس ترابه.
فإن لم أصل إليه في الدنيا،
فأسأل الله أن يجمعنا جميعًا عنده في جنات الخلد
اللهم تقبّلني في الشهداء، واغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، واجعل دمي نورًا يُضيء درب الحرية لشعبي وأهلي.
سامحوني إن قصّرت، وادعوا لي بالرحمة والمغفرة، فإني مضيتُ على العهد، ولم أُغيّر ولم أُبدّل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم الشهيد بإذن الله
صالح عامر فؤاد الجعفراوي