«كوشيب» مرآة منظومة الإنقاذ في السودان

د.الشفيع خضر

إدانةُ المحكمة الجنائية الدولية لعلي كوشيب، أحد أبرز قادة مليشيا الجنجويد والمتهم بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية في دارفور، ستظل قطرة في بحر العدالة التي ما زال السودانيون عامة وأهل دارفور خاصة ينتظرونها، والتي لن تكتمل إلا بمحاكمة ومحاسبة شاملة، قانونية وأخلاقية وسياسية، لنظام الإنقاذ، منظومة ومنتسبين، الذي أنجب كوشيب وصاغ الإطار الفكري والسياسي والأمني الذي جعل من أمثاله أدوات طيّعة لتنفيذ سياساته في القمع والإبادة.

والإدانة، رغم أهميتها، تظل محدودة في نطاقها، لأنها تستهدف الفاعل الميداني بينما يبقى العقل المدبر، نظام البشير، بمنأى عن المحاكمة القانونية حتى الآن، رغم أن الشعب السوداني حاكمه سياسيا وأخلاقيا قبل ست سنوات.

 

وكوشيب لم يكن حالة استثنائية أو انحرافاً عن المسار، بل كان مرآة صافية تعكس وجه نظام الإنقاذ كما هو، عقل يخطط من مركز القيادة، وذراع تبطش على الأرض. ولوائح الاتهام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، كشفت عن الترابط القانوني بين جرائمه ونظام البشير الذي أعلن «النفرة العامة لمحاربة التمرد في دارفور» في ديسمبر/كانون الأول 2003، وكُلِّف كوشيب، بصفته أحد أعضاء المنظومة الأمنية، بإعداد قوات «المجاهدين/الجنجويد» وزُوّد بالسلاح والمال، وكان يتحرك في كنف رسمي، يرافق قيادات النظام في جولاتهم الميدانية، ويلقي خطبه معرفاً الجنجويد باعتبارهم «قوات حكومية» لإجتثات التمرد. بهذا المعنى، ووفق حيثيات الحكم، فإن الجرائم التي ارتكبت في دارفور لم تكن تجاوزات فردية، بل كانت تنفيذا حرفيا لسياسات مدروسة، صيغت في مكاتب النظام وأُنجزت في الجثث المتناثرة والقرى المحروقة.

ونظام الإنقاذ استخدم ميليشيات الجنجويد كأداةٍ لمهمة مزدوجة، قمع الحركات المسلحة المعارضة من جهة، وإعادة هندسة التركيبة الديموغرافية في دارفور من جهة أخرى. وفي هذا السياق فإن كوشيب، «الوسيط» بين قيادات ميليشيا الجنجويد وبين حكومة الإنقاذ، لم يكن سوى ترس في آلة إبادة أكبر جرى تنسيقها من أعلى الهرم، ممثلاً لتجسّد العنف الرسمي في أكثر أشكاله فجاجةً ودمويةً. إن الجرائم التي شهدها إقليم دارفور لم تكن تفلتات أو انتقامات شخصية، بل كانت سياسة نظام تنتهج التطهير العرقي والإبادة، متكئة على أيديولوجيا جمعت بين التديّن المظهري والعنف المؤسسي. كانت خطة منهجية لتحطيم كل من يعترض، ولإخضاع المجتمع كله لمنطق السلطة والتمكين، متسببةً في واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية في أوائل القرن الحادي والعشرين، حسب وصف منظمة الأمم المتحدة.

 

إنّ ادانة كوشيب، هي اعتراف مهم بالمعاناة الهائلة التي تكبدها ضحايا جرائمه البشعة، وأول إجراء للإنصاف طال انتظاره، كما وصفها فولكر تورك المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وهي خطوة في طريق إنصاف الضحايا وأسرهم في مثل هذه القضايا التي لا تسقط بالتقادم ولا يجوز العفو فيها، على حد قول الأستاذ صالح محمود رئيس هيئة «محامو دارفور» مطالبا بتسليم رأس نظام الإنقاذ البشير والمتهمين الآخرين للجنائية الدولية. كما أنها خطوة حاسمة نحو سد فجوة الإفلات من العقاب في دارفور، وترسل رسالة مدوية لمرتكبي الفظائع في السودان، في الماضي والحاضر، بأن العدالة ستنتصر، وفق تصريح نزهت شميم خان، نائبة المدعي العام.

 

لكن الإدانة، رغم أهميتها التاريخية، تبقى مجرد بداية على طريق العدالة في دارفور. فتحقيق العدالة الحقيقية يتطلب محاكمة نظام الإنقاذ بأكمله، قادة ومنفذين، محاكمة قانونية وسياسية وأخلاقية. وعندها فقط يمكننا البدء في التئام جروح دارفور وإرسال رسالة قوية مفادها أنه لن يتم التسامح مع الإفلات من هم الفظائع الجماعية في العالم الحديث.

صحيح أن المحاكمة القانونية لنظام البشير بالكامل تواجهها عقبات وتحديات سياسية وقانونية معقدة، منها أن إدانة كوشيب تأتي في وقت تنزلق فيه دارفور مرة أخرى إلى دوامة العنف وسط القتال المستمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتحورة من ميليشيات الجنجويد وقيادتها السابقة. ومنها الجدل حول الاختصاص القضائي، حيث يرى خبراء قانونيون سودانيون أن «النظام العدلي إذا كان متهماً بالانصياع للسلطة في عهد النظام السابق، فإن نظام البشير سقط منذ العام 2019 ولم تقدم أي قضية ضده بارتكاب جرائم في دارفور في المحاكم الوطنية». ومنها أن البشير ومساعديه لايزالون يفلتون من العقاب ويتجنبون الامتثال أمام محكمة الجنايات الدولية، حيث تشير تقارير إلى أن «المحكمة تواجه صعوبات كبيرة في اعتقالهم بسب أنهم تحت حماية الجيش السوداني». كما أن المحاسبة المحلية يواجهها استمرار نفوذ رموز نظام البشير السابق داخل أجهزة الدولة، بما في ذلك مؤسسات العدالة نفسها.

 

أما المحاكمة الأخلاقية والسياسية لنظام الإنقاذ، فتتجاوز الإجراءات القانونية المباشرة لتركز على كشف الحقيقة من خلال التوثيق الكامل لحجم الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام، والاعتراف بمعاناة الضحايا كخطوة أساسية نحو تحقيق العدالة، وابتكار كل ما من شأنه أن يكون شاهدا على التاريخ وجرائم الإنقاذ في ذاكرتنا الوطنية، ويساهم في منع تكرار مثل هذه الجرائم. وكذلك تصميم برامج شاملة للتعويضات المادية والمعنوية للضحايا والناجين، وهو ما بدأت المحكمة الجنائية الدولية في التفكير فيه فعليا منطلقة من قضية كوشيب. أيضا، شن مواجهة حاسمة ضد سياسات «التمكين» التي قام عليها نظام الإنقاذ، تحالف الفساد والاستبداد، والتي سيطر من خلالها على كل مؤسسات الدولة والاقتصاد وأضعف النسج الاجتماعي عن طريق إضعاف احتكار الدولة للعنف المشروع وإنهاء سيطرة وزارة المالية على المال العام. كذلك، الأهمية القصوى لإصلاح القطاع العدلي والقطاع الأمني في السودان لضمان استقلالية النظام القضائي والأجهزة الأمنية وضمان قدرتها على محاكمة مجرمي الحرب ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان. بالإضافة إلى دعم وتعزيز التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لضمان تقديم جميع المتهمين في قضية دارفور إلى العدالة. ولكن من الصعب تحقيق ذلك إلا بعد وقف الحرب وإقامة نظام مدني ديمقراطي، بوصلته بسط السلام وتحقيق العدالة.

نقلاً عن القدس العربي

الوسومإدانة المحكمة الجنائية الدولية د. الشفيع خضر كوشيب مرآة منظومة الإنقاذ في السودان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: إدانة المحكمة الجنائية الدولية د الشفيع خضر كوشيب

إقرأ أيضاً:

ألمانيا تَطعن المحكمة الجنائية الدولية

في سابقة لم يُقدم عليها الغرب من قبل، قام المستشار الألماني فريدريك ميرتس، الأسبوع الماضي، بزيارة دَولة رئيس حكومتها مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، وهي المحكمة التي كانت ألمانيا من أكثر الدول حماساً لإنشائها، حيث يُذكر اسم رئيس وفدها «هانس - بيتر كول» كأحد أهم الفاعلين في مؤتمر روما الذي وضع النظام الأساسي لها.

السيد كول دفع باتجاه التوافق على محكمة قوية ومستقلة عن مجلس الأمن (حتى لا تتأثر بالفيتو الذي تتحكم فيه خمس دول وحتى لا تكون قراراتها مُسيسة)، وطالب أيضا بأن لا تكون هنالك حصانة لأحد أمام الجرائم الدولية.

ألمانيا كانت قد قامت أيضاً العام 2002 بمواءمة قوانينها المحلية مع نظام روما الأساسي حتى لا يكون هنالك تعارض بينهما، وحتى تتمكن هي من ملاحقة جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب على أرضها وفق قوانينها المحلية.

وألمانيا تُعتبر بعد اليابان من أكبر الممولين للمحكمة، لذلك أن يقوم مستشارها بزيارة دولة الاحتلال والاجتماع مع نتنياهو المطلوب للعدالة الدولية فهذه طَعنة في ظهر المحكمة نفسها وللضحايا الفلسطينيين ولتاريخ بلاده أيضاً.

ربما لم يخطر في بال الساسة الألمان، وهم يساندون بقوة استقلالية محكمة الجنايات الدولية، أنها ستنظر يوماً ما في جرائم دولة الاحتلال، ولو توقعوا ذلك، ربما لما دعموا إنشاء المحكمة، لِما لإسرائيل من «مَعزة» خاصة في قلوب هؤلاء الساسة. لكن لسوء طالعهم، أصبح قادتها متهمين بجرائم حرب.

ولِمَ لا، فهؤلاء القادة ارتكبوا جرائم أكبر بكثير من تلك التي ارتكبها بوتين في أوكرانيا أو ميلوشيفيتش في البوسنة على سبيل المثال.

هل شاهد المستشار الألماني حجم الدمار في غزة وهل قارنه بالدمار في أوكرانيا أو البوسنة؟ هل قارن أعداد الأطفال الذين قتلوا في غزة وأعدادهم مع ما حدث في أوكرانيا والبوسنة؟ أو لم يسمع تصريحات قادة دولة الاحتلال التي تعكس نيتهم بالإبادة والتهجير؟

المستشار الألماني يعرف بالضبط ما فعله الاحتلال ويفعله في غزة والضفة لأن استخبارات بلاده قوية، لكنه يتجاهل كل ذلك عَمداً مدفوعاً بولاء ألمانيا التاريخي لدولة الاحتلال.

كان يُمكن الصمت على هذا الولاء الأعمى، لكن أن يُقدم المستشار ميرتس على الاجتماع مع نتنياهو وفي إسرائيل، فهي بالفعل سابقة ودلالاتها خطيرة.

هنالك العديد من رؤساء الدول الذين أدينوا بارتكاب جرائم حرب أو إبادة أو جرائم ضد الإنسانية أو جميعها.
من هؤلاء الرؤساء: الرئيس السوداني عمر البشير العام 2010، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين 2023، الرئيس مُعمر القذافي 2011، رئيس ساحل العاج لوران غباغبو 2011، الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش 1999.

في كل هذه الحالات لم يَلتق رئيس دولة أوروبية مع رئيس دولة صدر بِحقه قرار اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية.

كل اللقاءات التي تمت مع بوتين مثلاً كانت سابقة لقرار اعتقاله في آذار 2023 وهي لم تحدث بعده.
الاستثناء الوحيد كان اجتماع فيكتور أوربان رئيس هنغاريا معه في تشرين الثاني 2023 على هامش منتدى مبادرة الحزام والطريق في الصين، لكن أوربان أصلاً معروف بولائه لروسيا.

وهنغاريا نفسها مصنفة في أوروبا كدولة غير ديمقراطية وتم تحذيرها أوروبياً أكثر من مرة على تجاوزها لمبدأ سيادة القانون.
هنالك أيضاً العديد من القادة الأوروبيين الذين زاروا إسرائيل لكن أيضاً قبل صدور قرار المحكمة  الدولية بحق نتنياهو في أيار 2024، ومنهم أولاف شولتز (ألمانيا)، إيمانويل ماكرون (فرنسا)، جورجيا ميلوني (إيطاليا)، مارك روته (هولندا) وغيرهم. لكن بعد صدور مذكرة الاعتقال بحق نتنياهو، لم يقم أي رئيس دولة أوروبية بزيارة إسرائيل.

ميرتس هو الأول الذي يتجاوز العرف الأوروبي بعدم الاجتماع مع مطلوب للجنائية الدولية.
إن دلالات اجتماع ميرتس مع نتنياهو خطيرة لأنها أولاً تنتهك قواعد الاتحاد الأوروبي التي تنص على أن الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية مُلزَمة باعتقال المشتبه بهم عندما يصلون إلى أراضيها، وبالتالي فإن زيارة مُشتبه به تُعطي إشارة إلى أن هذه الدولة التي قام رئيسها بالزيارة لن تقوم باعتقال المُشتبه إن وصل إلى أراضيها.
السلوك الألماني مُشين تجاه القضية الفلسطينية
وهي ثانياً إشارة صريحة إلى أن ألمانيا لا تقبل قرار المحكمة الدولية، ولا تكترث بها أو بسلطتها، ولا تأبه حتى بما هو متوقع كدولة من التزام أخلاقي بمعايير المحكمة ومعايير الاتحاد الأوروبي نفسه.
والزيارة أخيراً تهدف إلى إضفاء شرعية على رئيس حكومة تم نزع الشرعية الدولية عنه.

إن السلوك الألماني مُشين تجاه القضية الفلسطينية وكان من الممكن عدم الحديث عنه لو كان وزن ألمانيا السياسي والاقتصادي بوزن هنغاريا مثلاً.

لكن ألمانيا (ومعها فرنسا) هما من يقودان فعلياً الاتحاد الأوروبي ومن يقرران سياساته إلى حد بعيد، وبالتالي فإن زيارة ميرتس لدولة الاحتلال ستفتح الطريق لزيارة رؤساء دول أوروبية أخرى لدولة الاحتلال، وهو ما يعني في النهاية إدارة أوروبا ظهرها لقرارات المحكمة، ومن ثم ممارسة الضغوط عليها، كما تفعل الولايات المتحدة، لإعادة النظر في قرارها باعتقال نتنياهو.

لا يمكن للمستشار ميرتس أن يدعي أنه زار إسرائيل للمساعدة على «السلام في غزة» أو دفاعاً عن «حل الدولتين». فهو يعرف تمام المعرفة أن دولة الاحتلال تواصل ابتلاع الأرض بالاستيطان، وأنها ترفض قيام دولة فلسطينية مستقلة، بل تعمل على التخلص من الشعب الفلسطيني بالتهجير إن أمكن وبالقتل إن لم يكن ذلك ممكناً.

ومع إدراكه لهذه الحقائق، اختار ميرتس أن يكون أول زعيم أوروبي يكسر القاعدة الأخلاقية والسياسية بعدم الاجتماع مع مُتهم صدرت بحقة مذكرة توقيف دولية، وقام بالاجتماع مع مجرم حرب، مُقدماً له شرعية سياسية، هدفها الواضح الالتفاف على قرار المحكمة الدولية بجعل الاجتماع معه يبدو كما لو أنه مسألة «طبيعية».

الأيام الفلسطينية

مقالات مشابهة

  • والي غرب دارفور: الاستجابه لنداء دعم الجيش تؤكد وقوف الشعب موحدا لحفظ وطنه
  • حاكم دارفور يحدد خطوات لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة
  • تصعيد ميداني في شمال كردفان وتوسع للجيش السوداني نحو الجنوب
  • رئيس وزراء العراق: نجحنا في تجنيب البلاد تداعيات الصراعات بالمنطقة
  • حاكم دارفور يدعو لتكثيف جهود استعادة الأمن والاستقرار في السودان
  • انتهاكات وحشية..حاكم دارفور: أولويتنا حماية المواطنين من اعتداءات الدعم السريع
  • قتلى بقصف لقوات الدعم السريع وتحرك جديد للجنائية الدولية بشأن دارفور
  • معكم حكومة بريطانيا.. المكالمة التي تلقتها الجنائية الدولية بشأن نتنياهو
  • الأمم المتحدة: المدنيين في دارفور وكردفان ما زالوا يواجهون عنفا متصاعدا وعشوائيا
  • ألمانيا تَطعن المحكمة الجنائية الدولية