جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-15@01:45:54 GMT

إنهم يعبدون المال!

تاريخ النشر: 14th, October 2025 GMT

إنهم يعبدون المال!

 

 

مدرين المكتومية

دائمًا ما نلتقي في هذه الحياة بأناس يرتدون ملابس أنيقة مُرتبة ويضعون أثمن العطور ويتزينون بأغلى الحُلي والمجوهرات، بمفرداتهم المنتقاة وطريقة حديثهم المُنمقة يشعرونك أنهم في عرض أزياء لغوي، هُم يمتلكون القدرة على ترتيب الكلام وجذب الأنظار لكل ما يقولونه وما يقومون به من أفعال، ابتساماتهم الصفراء تصرخ من شدة زيفها، يحتلون الصدارة في نشرات الأخبار أو منصات التواصل الاجتماعي، يتحدثون بطريقة مُميزة، وهندام ينم عن رغد العيش والحياة المُرفَّهة التي تُبهر العين.

لكن خلف هذه الستائر المُعتمة، تتكشف الوجوه الحقيقية، وكأنهم يعيشون حياة الحفلات التنكرية؛ إذ إنِّهم في الحقيقة لا يُمجِّدون سوى المال، ولا يبحثون عن شيء سوى جمع الثروات بأيِّ طريقة، يحبونه حبًا جمًّا ويعبدونه بأساليب مدروسة وطرق شتى. المال بالنسبة لهم يمثل المعيار الذي يبنون عليه في قراراتهم ويؤسسون لعلاقاتهم، لذلك ينطبق عليهم قول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ (الفجر: 19).

إنَّ هؤلاء ليسوا بالضرورة الخارجين عن القانون الظاهر؛ بل إن كثيرين منهم يتقنون لعبة الظهور أكثر مما يتقنون فهم المسؤولية المُلقاة على عاتقهم والتي يجب أن يعملوا ليل نهار لتقديمها على أكمل وجه، يأكلون بشراهة ويهتمون بصحتهم كثيرا لكن ذلك لا يمنع من زيادة وزنهم كل يوم، وهو ليس فقط زيادة في المقاسات بل زيادة ثقل على المجتمع، فالانغماس في صورة معينة وشكل معين لا يعفي من المسألة الأخلاقية والأفعال، فكما يعلم الجميع أن الفساد لا يقاس دوما بما نلمسه ونتحسسه؛ بل أحيانا بما يهدم الثقة ويدمر العلاقات ويزعزع الجهد.

ومن المفارقات التي نعيشها أن هناك بعضاً من المسؤولين في كثير من القطاعات والمؤسسات لا يدركون حجم التعب والجهد والمعاناة التي قد يواجهها فريق معين أو مؤسسة بعينها تعمل ليل نهار لتقدم منتجاً معيناً أو خدمة بصورة لائقة ومميزة تبرز للجانب الآخر دوره وإجادته في عمل مُعين، فالفريق الذي يعمل ليل نهار يستنزف طاقة وجهدا ووقته وموارده ويواجه الكثير من العراقيل والبيروقراطية والتغيرات إلى جانب التأخر في الحصول على المتطلبات وربما تجاهل لكل ما يقدمونه، فيجدون أنفسهم أمام مسؤول يبحث عن الكمال في كل شيء دون أن يقدم ويمنح شيئا من التقدير والنتيجة النهائية هي أعمال مهدرة ومواهب لا مكان لها، ومؤسسات تخسر فرص لتكون شريكا حقيقيا مع بعضها البعض وتنسى أن هدفها الأسمى هو الوصول إلى المجتمع وخدمته.

ومن هنا فإن كل ذلك يسبب ويخلق مشكلة أخلاقية مزدوجة، أي أن أولئك الذين يستثمرون في تلميع أنفسهم ورسم صورة معينة ويعبدون المال ويُكيِّفونه لمصالحهم ويبررون من خلاله وجهات نظرهم وتصرفاتهم، هم أنفسهم من يعملون في منظومات إدارية تتعامل بطريقة بائسة وازدراء مع الذين يبذلون الجهد ويجتهدون في أعمالهم؛ حيث تطغى عليهم عنجهية الصلاحيات المطلقة، وذلك لا يقودنا إلى مكان سوى إضعاف النسيج العام في المؤسسات والمجتمع؛ فهو بذلك ينسف ثقة الناس والمجتمع، ويُهدر فرص النجاح والابتكار والتطوير.

ومن هنا فإنَّ واحدة من تلك المؤسسات التي يجب أن تُبنى معها شراكات كبيرة، هي الإعلام؛ لأن صوته واضح وحازم ومسموع، وعند دخول أي مؤسسة في مواجهة مع الإعلام؛ ستُمنى بالخسارة، لأنَّ الإعلام لا يُنافق ولا يُجامل على حساب ما يؤمن به من قيم ومبادئ، ويمارس مهامه وعمله بكل شفافية ومسؤولية، لأن قوته الحقيقية تنبع من إيمان الناس به، وتصديق المجتمع لكل كلمة يقولها أو ينشرها. ولذا لا أعلم سر الضغينة التي يحملها البعض تجاه الإعلام، هل لأنَّ العمل الصحفي والإعلامي قادر على كشف الحقائق ونشرها، باعتباره السلطة الرابعة في المجتمع، وهي سلطة تضامنية معنوية، لا تُساوِم ولا تُشترى بثمن؟!

وأخيرًا.. علينا أن نرفض ثقافة الظهور القائمة على نهج التسلُّق الكريه والمرفوض، وأولئك الذين يستغلون ظهور الآخرين من أجل سرد قصص نجاح وهمية وزائفة، وقد آن الأوان لكي يعلم المجتمع المؤسسات التي تكتب نجاحًا حقيقيًا وليس تلك التي تشتري النجاح وتبيعه وهمًا للمجتمع، ونؤكد أن الإعلام سيظل المرآة التي تعكس الصورة الحقيقية، مهما استخدم البعض مساحيق التجميل، وتغطت الوجوه باللون الأحمر أو البرتقالي.. فالحقيقة لها لون واحد يُدركها كل مُخلص ومُحب لهذا الوطن.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

احذر من جاهل حفظ سطرين وفقير جمع قرشين

 

 

سلطان بن ناصر القاسمي

تلتقي في هذه الحياة بأنواعٍ شتى من الخلق، وتجتمع مع مختلف البشر، وتحاور العديد من المثقفين والعلماء، فتكتسب منهم معرفةً واسعة وتجارب ثرية. غير أنك قد تجد في بعض المجالس من يدّعي المعرفة ويرفع صوته دفاعًا عن رأي لا يقوم على علم، بل يتدخّل في حديثٍ لا يعنيه، وكأنَّ الصدفة وحدها هي التي جمعته بمن يتحاورون.

وحقيقةً، ما جعلني أتأمل في هذه المقولة القديمة "احذر من جاهلٍ حفظ سطرين وفقيرٍ جمع قرشين" موقفٌ مرّ بي ذات يوم خلال لقاءٍ ثقافيٍ جمع عددًا من المتحدثين من خلفيات مختلفة. كان الحوار يدور حول قضية فكرية تحتاج إلى عمقٍ ومعرفة، وبينما كانت النقاشات تسير في مسارٍ راقٍ ومنطقي، تدخّل أحد الحاضرين باندفاعٍ ظاهر، وبدأ يُلقي أحكامًا قاطعة في موضوع لا يفقه منه سوى عناوين سطحية قرأها عرضًا. وحين سُئل عن مصدر معلوماته أو تجربته، لم يكن لديه سوى إجاباتٍ عامة لا تصمد أمام أي نقاش. عندها أدركت أن الجدال مع الجاهل مضيعة للعقل والوقت، وأن من الحكمة أن تُغلق باب الحوار قبل أن تُسحب إلى متاهته.

إن مثل هذه الشخصيات تذكّرنا بخطورة من يملك قليلًا من العلم ويظن أنه امتلك الكثير، فيتعالى على الآخرين ويخشى التعلّم منهم. فهو شخص حديث النعمة في العلم، يظن أن ما يحمله من فتات المعرفة كافٍ لأن يجعله عالمًا أو ناقدًا، بينما في الحقيقة جهله أعمق مما يظن. والمعنى العام لهذه العبارة يحذّر من هذا النوع من الناس الذي يصبح متكبرًا ومتعاليًا، معتقدًا أنه بلغ الغاية. فالجهل المقترن بالغرور يولّد شعورًا زائفًا بالفوقية، يدفع صاحبه إلى الاعتقاد بأنه يمتلك كل الإجابات، فيتحدث في كل شأنٍ ويظن نفسه خبيرًا في كل مجال.

وهذا ما يُعرف في علم النفس المعاصر بظاهرة "قمة الغباء الواثق"، وهي نتيجة لغياب الوعي بالذات وعدم إدراك حدود المعرفة الحقيقية. فيتصرف صاحبها وكأنه العارف بكل شيء، بينما يفتقد القدرة على التقييم الموضوعي، فيقع في الخطأ تلو الآخر. وخطر هذا النوع يكمن في تضليل الناس من خلال حديثه في أمور لا يدركها حقًّا، فيفتنهم بجرأته ويصرفهم عن الحقيقة، كما أنه يرفض سماع الرأي الصحيح ويتعالى على المتعلمين. إنهم في الواقع أشدّ خطرًا من الجاهل الذي يعترف بجهله، لأنهم يظنون أنهم علماء وهم لا يملكون إلا ظلال العلم، وهؤلاء هم ما يُعرفون بـ"الجاهل المركّب"؛ يجهلون ويجهلون أنهم يجهلون.

وهنا تتجلّى الحكمة في التمييز بين من يسعى إلى المعرفة ليفهم، وبين من يتظاهر بها ليعلو فالعلم لا يرفع من لم يتأدب به، ولا ينفع من لم يتواضع له، لأن المعرفة الحقة تُثمر خشوعًا لا غرورًا، وتمنح صاحبها اتزانًا لا جدالًا.

أما الشطر الآخر من المقولة فيحمل تحذيرًا مختلفًا: "احذر من فقيرٍ جمع قرشين". فهو يشير إلى من كان ذا حالٍ بسيط، ثم امتلك مالًا جعله يتحوّل فجأة من شخصيةٍ عادية إلى شخصيةٍ اعتبارية في المجتمع، فيتوهّم أن المال وحده كفيلٌ بأن يصنع له المكانة. فتجده لا يحبّ تذكّر ماضيه الذي كان فيه محتاجًا، بل يراوغ ويتنصل من علاقاته القديمة، باحثًا عن صداقات جديدة تمجّده وترفع من قدره.

مثل هؤلاء يظهرون في المجتمع بشكلٍ متكرر، وتنعكس تصرفاتهم على محيطهم، متأثرين بعوامل كثيرة كالوضع الاقتصادي والمستوى الثقافي والتغير الاجتماعي. وتراهم يلهثون خلف المظاهر، يشترون الحاجيات الفاخرة والسلع الباهظة ولو أغرقوا أنفسهم في الديون، وكل ذلك من أجل التفاخر والتباهي. يريدون أن يُقال عنهم إنهم أثرياء أو أصحاب نفوذ، حتى وإن كانت حقيقتهم أبعد ما تكون عن ذلك.

وتجد أحدهم كثير الكذب والمراوغة، يستعبد من يعمل لديه، ولا يهتم إلا بجمع المال والوصول إلى الثراء دون اعتبار للقيم المجتمعية أو الإنسانية. ولو أن هؤلاء استخدموا ما لديهم من مالٍ في خدمة الناس، لكان أثرهم طيبًا، ولساهموا في بناء مجتمعٍ متراحمٍ متعاون، ولكنهم بدّلوا نعمة الرزق كِبرًا وغرورًا، فخسرت أرواحهم قبل أن تفقد أموالهم قيمتها.

إن المال إذا لم يُستخدم في الخير صار نقمةً لا نعمة، وإن الغنى إذا أورث التفاخر فقد صاحبه معناه. فالقيمة الحقيقية ليست في كمّ ما تملك، بل في أثر ما تمنح. ولو أن حديثي النعمة تذكروا أن المال زائل، وأن القيمة في البذل لا التفاخر، لكان المجتمع أرقى وأجمل.

وهنا نستحضر قول الإمام عليّ بن أبي طالب - كرّم الله وجهه: "ما جادلتُ جاهلًا إلا غلبني، وما جادلتُ عالمًا إلا غلبته".

فالعالم يجادل بعقلٍ منضبطٍ وروحٍ متواضعة، أما الجاهل فيجادل بجهله فلا يُرجى من حديثه فائدة. ومن هنا كان التواضع خلقًا عظيمًا يحثّ عليه الإسلام، فهو يُحسّن العلاقات بين الناس، ويجعل الإنسان محبوبًا قريبًا من الله. قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].

تصف هذه الآية عباد الرحمن بأنهم يمشون على الأرض بسكينةٍ وتواضع، ويتجنبون الجدال العقيم مع الجاهلين، لأنَّ الحكمة في الصمت أحيانًا أبلغ من الكلام، ولأنَّ التواضع زينة العالم، والصبر صفة العاقل، والإحسان هو ما يخلّد الأثر الطيب بين الناس.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • الثوابته: بدأنا فرض القانون في غزة ومستعدون لتسليم الحكم وفق قرار فلسطيني
  • ترامب متحدثا عن مصر: إنهم أقوياء جدا.. لن تصدقوا مدى قوتهم
  • رئيس وزراء فلسطين: وقف حرب غزة لا يكفي لإنهاء المأساة
  • أبو مازن: قمة شرم الشيخ خطوة هامة في مسار القضية الفلسطينية
  • ستارمر: مستعدون لدعم جهود إعادة إعمار غزة
  • الشرع: لم نستفز إسرائيل..ولسنا مصدر تهديد لها
  • احذر من جاهل حفظ سطرين وفقير جمع قرشين
  • ألمانيا: اليمن بحاجة لحكومة قوية وموحدة وعلى الحوثيين مراجعة أنفسهم
  • داخلية غزة تمهل أفراد العصابات 6 أيام لتسليم أنفسهم ونيل العفو