تجويد المحتوى العماني الرقمي
تاريخ النشر: 14th, October 2025 GMT
في الساعات التي أقضيها على وسائل التواصل الاجتماعي أتعرّض لسيل من المحتوى الرقمي، غير أنّ ما يلفت انتباهي دائما وسط هذا الزخم هو ندرة المحتوى العماني الأصيل والإبداعي الذي يمتلك مقوّمات الوصول والانتشار. فمعظم ما يظهر أمامي من محتوى عماني رقمي لا يتجاوز إعلانات تجارية، أو أخبار مؤسسات وأنشطة رسمية، أو يوميات شخصية، تتجاور مع كمٍّ هائل من مواد التسلية والترفيه السطحية التي يصعب أحيانًا تصنيفها بين الترفيه الهادف والتفاهة العابرة.
سعيًا إلى الدقّة والموضوعية استجديت لغة الأرقام لتجيب عن سؤالي حول حضور المحتوى العماني في الفضاء الرقمي، غير أنّ ما هو متاح من بيانات على كبر حجم الشبكة العنكبوتية يكشف عن مفارقة لافتة؛ فالأرقام تتحدّث عن الاستخدام لا عن الإسهام، وعن المتابعة لا عن الإنتاج أو التأثير. تشير الإحصائيات إلى أنّ أكثر من ستين في المئة من السكان يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، أي ما يزيد على ثلاثة ملايين مستخدم في سلطنة عمان، يشكّل «فيسبوك» المنصّة الأكثر انتشارًا بينهم، وإن كان هذا الرقم «في تقدير واقعي» يضم العمانيين والمقيمين على حدّ سواء. فيما تظهر مؤشرات أخرى أنّ نصف المجتمع تقريبًا يفضّل تطبيق الإنستغرام، تليه منصّة إكس بدرجات متفاوتة. غير أنّ هذه النسب مهما بدت مرتفعة لا تعكس حقيقة المساهمة في صناعة المحتوى بقدر ما تكشف عن حجم الاستهلاك والمتابعة.
ومن قراءة عامة للمشهد الرقمي يمكن القول: إننا « كمجتمع » لا نزال أقرب إلى موقع المتلقّي منه إلى موقع المنتج؛ نستهلك ما يصنعه الآخرون، ونتفاعل مع ما يقدَّم إلينا أكثر مما نبدعه بأيدينا. وهي سمة تتجاوز العالم الافتراضي لتصوّر واقعًا أشمل في حياتنا الثقافية والإنتاجية؛ إذ يطغى الاستهلاك على روح الابتكار والإبداع.
وإذا تجاوزنا الحديث عن ضعف المحتوى الرقمي العماني واتفقنا على محدودية تأثيره في المتلقي سواء داخل سلطنة عمان أو خارجها فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما سبب هذا الضعف؟ أهو غياب الرؤية أم غياب من يُسلّط الضوء عليها؟ وهل تركت الساحة الرقمية لتجارب فردية ومبادرات شخصية تتفاوت في النضج والاتجاه دون إطار وطني جامع؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو للوهلة الأولى يسيرة، غير أنّها في جوهرها معقّدة؛ لأنّ المشهد الرقمي يتداخل فيه ما هو مؤسسي بما هو فردي، وما هو تنظيمي بما هو إبداعي. فالقضية لا تقف عند حدود غياب المحتوى فحسب، بل تمتد إلى غياب التصوّر الشامل للفضاء الرقمي العُماني: هل توجد جهة تُعنى بجودة المحتوى لا برقابته، وتضع له معايير ومعالم ترسّخ حضوره؟ وهل وضعت استراتيجيات إعلامية مؤسسية تؤطّر هذا الحضور ليصبح أكثر تأثيرًا على المستويين المحلي والإقليمي، أم أننا ما زلنا نعتمد على مبادرات شخصية تلمع حينًا وتخفت حينًا آخر دون أن تراكم خبرة وطنية قادرة على تثبيت هوية رقمية عمانية في فضاء عالميّ متسارع؟
يبقى السؤال الجوهري بعد كل ما سبق: هل يمكن تجويد المحتوى الرقمي العماني ليصبح قادرًا على المنافسة، وليحجز له مكانا لائقا في المجتمع الرقمي على الأقل في نطاقه العربي إن لم نقل العالمي؟ والإجابة على بساطتها الظاهرة تأتي بالإيجاب. نعم، يمكن الارتقاء بالمحتوى العماني، وتعزيز حضوره وتأثيره؛ لأنّ جوهر القوة متوافر أصلًا في مادته الخام؛ فالمحتوى هو الملك كما يقال في العرف الصحفي، ومن يملك المحتوى يملك الجمهور. والمجتمع العماني بطبيعته وتاريخه يزخر بمخزون ثري من القصص والرموز والتجارب التي يمكن أن تُغذّي فضاء رقميًا زاخرًا بالمعرفة والجمال؛ ففي كل زاوية من زوايا الحياة العُمانية تكمن مادةٌ تستحق أن تُروى في التراث والعادات والتقاليد، في الفنون والموسيقى، في السياحة والبيئة، في الاقتصاد والسياسة، بل في تفاصيل الإنسان العُماني نفسه بما يحمله من قيم وخصوصية وتجارب. المشكلة ليست في غياب المحتوى، بل في ضعف تحويل هذا الثراء إلى مادة رقمية احترافية قادرة على الوصول والتأثير.
إن تجويد المحتوى الرقمي العماني لا يتحقق بالصدفة ولا بالمبادرات الفردية وحدها، بل يحتاج إلى رؤية شاملة تعيد تنظيم المشهد وتوحيد الجهود. فالنهوض بهذا المحتوى يبدأ من اكتشاف المواهب الإعلامية الشابة في الفضاء الإلكتروني، ورعايتها وتبنّيها، وتوفير ما يلزمها من دعم وتدريب وتمكين لتتحول إلى طاقات خلّاقة تسهم في صناعة حضور رقمي عماني مؤثر. كما يتطلّب الأمر تخطيطًا واضحًا لما يُراد أن يقدَّم من رسائل واتجاهات، وتحديد أولويات المحتوى الذي يعكس صورة سلطنة عمان وقيمها وثقافتها للعالم.
لا يتحقق ذلك إلا من خلال بناء استراتيجية إعلامية وطنية للفضاء الرقمي تعنى بالارتقاء بالمحتوى في محاور متعدّدة: جودة الإنتاج، وعمق الرسالة، واتساع الانتشار، وتأهيل الكفاءات. فالمحتوى الرقمي لم يعد ترفًا أو تواصلاً عابرًا، بل أصبح جزءًا من القوة الناعمة للأوطان.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المحتوى العمانی المحتوى الرقمی غیر أن
إقرأ أيضاً:
خوارزميات صعود التافهين وإدمان الضحالة
خوارزميات صعود التافهين وإدمان الضحالة
محمد الحسن محمد نور
لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى غرفة عمليات تُدار فيها عملية إعادة تشكيل الوعي البشري بالخفاء. نحن لسنا مستخدمين أحرارًا كما نظن، بل نحن ضحايا خوارزميات صُممت بعناية لتحويلنا إلى مدمنين ومستهلكين دائمين للمحتوى.
هذا المقال لا يبحث فى موضوع إدانة المنصات بقدر ما هو ترياق يقدم وصفة للنجاة من فخاخها وحبائلها.
يكمن الضرر الأعمق في آليات هذه المنصات التي تُطلق عليها اسم “فقاعات التصفية” Filter Bubbles”. أنت لست في حاجة للبحث عن الأخبار، فالخوارزمية هي التي تبحث عنك وتتعهدك حتى تغرقك بما “تحبه” وبما “تؤمن” به.
وللإجابة على السؤال الأهم: لماذا تفعل ذلك؟ لأن الخوارزمية ليست مصممة لخدمة الحقيقة أو المجتمع، بل لخدمة نموذج العمل التجاري للمنصة. هدفها الأساسي هو الحفاظ على “تفاعل” عينيك وأصبعك لأطول فترة ممكنة كي تبقيك مستهلكا دائماً وتتمكن المنصة من عرض الإعلانات عليك. لذلك، هي لا تهتم بصحة المعلومة، بل بقدرتها على إثارة استجابتك العاطفية- سواء كانت غضبًا، حماسة، أو خوفًا.
ولا ننسى أن عملية بناء هذا السجن تبدأ بملفات تعريف الارتباط (Cookies) التي تسجل كل تحركاتك الرقمية؛ هذه الملفات هي أداة جمع البيانات الرئيسية التي تُمكّن الخوارزمية من بناء ملفك الشخصي الدقيق، ومن ثم تحديد المحتوى الأكثر قدرة على حبسك داخل هذه “الفقاعة”.
كل نقرة، كل مشاركة، وكل ثانية تقضيها على منشور، هي بمثابة صوت منك يقول للخوارزمية: “أريد المزيد من هذا!”. هكذا، تصبح محبوسًا داخل سجن افتراضي من الآراء المكررة التي تؤكد تحيزاتك، وتغيب عنك وجهات النظر الأخرى أو الحقائق المعقدة، فينمو ويتشكل في العقل الباطن الميلُ إلى الركون للأفكار المتوافقة، والإعراض عن كل ما هو مخالف لها.
وفي هذه البيئة المعزولة، تزدهر الأخبار الكاذبة والمضللة، معتمدة على قوة الإثارة؛ فهي تنتشر بسرعة تفوق الحقيقة بعشرة أضعاف، لأنها تستهدف منطقة المشاعر لا منطقة المنطق في دماغك. هذه الآلية تغذّي الاستقطاب المجتمعي الحاد، فتجعلنا نصدق روايات تافهة لمجرد أنها توافق أهواءنا، ونرفض كل مصادر المعلومات الموثوقة فيما يشبه الحالة المرضية، إما لأنها لا تناسب اتجاه مفاهيمنا، أو لأنها تتطلب مجهودًا لفهم أغوارها.
هذا التواطؤ الخوارزمي هو ما أدى إلى ظاهرة صعود التافهين والجهلاء ليصبحوا “نجومًا” و”مؤثرين”. المنصات لا تكافئ الكفاءة أو العمق المعرفي، بل تكافئ الجاذبية السطحية والاستجابة الفورية. ليس هذا فحسب، بل إن المكافآت النقدية والبرامج التمويلية التي تقدمها هذه المؤسسات للمؤثرين لزيادة الإنتاج تُصنَّف كعمل انتهازي للنظام؛ فهي تحفز صناع المحتوى على عدم الاهتمام بالعمق والجودة والدقة في سبيل إنتاج محتوى ضحل سريع التداول يخدم الهدف التجاري للمنصة.
المحتوى الذي يتطلب تفكيرًا عميقًا أو وقتًا طويلاً للنقاش لا يجد له مكاناً في قائمة المكافآت الرقمية؛ وبالتالي يتراجع دور العلماء والمفكرين لصالح مقدمي محتوى سريع الاستهلاك.
لقد أصبح النجاح هنا مرهونًا بمدى قدرة الشخص على تسطيح المعلومة إلى حد الإضحاك أو الاستفزاز، بل ويتجاوز الأمر ذلك ليطال المحتوى الذي يعتمد على الإثارة الجسدية المباشرة والمضامين المخلة بالآداب (المواقع الإباحية) التي لا يقل ضررها الاجتماعي والنفسي عن ضرر الجرائم ضد الإنسانية.
وهذا النوع من المحتوى يحقق أعلى درجات التفاعل والوقت المستهلك، مغذيًا نموذج الإدمان الرقمي على حساب سلامة القيم والأخلاق وحتى الصحة الجسدية والنفسية. والنتيجة هي تدهور جماعي في مستوى النقاش العام، وضعف في مهاراتنا على التركيز الطويل، وتشكيل جيل يتخذ من السطحية قيمة عليا.
ولكن النجاة ممكنة. فأنت الضحية، وأنت أيضًا صاحب القرار الأخير. الترياق يبدأ داخليًا؛ في اللحظة التي تدرك فيها أنك لست مجبرًا على التفاعل. ابدأ بخطوات عملية: قلل من وقتك على المنصات باستخدام أدوات ضبط الوقت، وعطِّل الإشعارات غير الضرورية، واستخدم أدوات حظر الإعلانات لتفكيك جزء من نموذجها التجاري.
ولكي تكسر الفقاعة، أبحث عن حسابات تقدم آراءً مخالفة لرأيك عمداً، واتبع مصادر إخبارية موثوقة بدلاً من الاعتماد على خلاصتك.
الترياق الحقيقي هو “التفكير النقدي” الذي يجب أن يتحول إلى عادة يومية: اسأل نفسك دومًا، “ما هو مصدر هذه المعلومة؟” و”ماذا لو كانت كاذبة؟”.
تمهل قليلا في الحكم على المعلومات المعروضة أمامك، لا تسمح لمشاعرك بأن تكون بوابة العبور لكل ما تراه؛ توقف عن إعادة نشر أي شيء يثير غضبك أو سخطك قبل أن تتحقق منه ثلاث مرات على الأقل عبر منصات التدقيق المعتمدة.
على المستوى الأسري، يجب أن نتحول من حظر المنصات إلى تعليم الأبناء “التربية الإعلامية”؛ كيف يحللون المحتوى، وكيف يفرّقون بين الإعلان والرأي والحقيقة، وذلك من خلال مناقشة ما يشاهدونه وإرشادهم إلى قنوات تعليمية موثوقة.
أما اجتماعيًا، فالترياق هو دعم ومطالبة المؤسسات التعليمية والإعلامية بتعزيز برامج تدقيق الحقائق وإدخال “مادة التفكير النقدي والثقافة الإعلامية” كأولوية قصوى في مناهج التعليم، لتنشئة جيل قادر على تمييز الحقيقة من الوهم.
استرداد الوعي ليس قرارًا سهلاً، ولكنه ضرورة تجاوزها هلاك. فليس أمامنا إلا أن نتحول من مُستهلكين سلبيين إلى مفكرين نقديين، لنتمكن من إنقاذ عقولنا ومجتمعنا من غرق المعرفة في بحر الوهم الرقمي.
الوسومالإعلام التفكير النقدي الثقافة الإعلامية المؤسسات التعليمية المعلومات الوعي البشري خوارزميات محمد الحسن محمد نور وسائل التواصل الاجتماعي