خالد بن سالم الغساني

 

في خطابه الأخير أمام الكنيست الإسرائيلي، نسي أو تناسى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كونه يتحدث بصفته رئيسًا للولايات المتحدة، واختار أن يتحدث كأحد قادة الاحتلال الصهيوني، أو الناطق الرسمي باسم آلة الحرب الإسرائيلية.

في لحظة مُكاشفة غير مسبوقة، لحظة نشوة كبار المتعجرفين والحمقى، أعلن ترامب أنَّه هو من زوّد إسرائيل بالكثير من الأسلحة، مؤكدًا أن بنيامين نتنياهو كان يتصل به مرارًا طالبًا «شتى أنواع الأسلحة».

ومضيفًا بفخر ووقاحة فجة بأن إسرائيل «أحسنت استخدامها». ولم يتوقف هذا العجوز النرجسي الهرم عند هذا الحد، بل تابع قائلًا: «سنُطبق السلام من خلال القوة»، مشيرًا إلى أنَّ لدى بلاده «أسلحة لم يحلم بها أحد»، قبل أن يوجه حديثه إلى سكان إسرائيل قائلًا: «إن الولايات المتحدة تنضم إليكم في هذين الوعدين: أننا لن ننسى، ولن نسمح بتكرار 7 أكتوبر».

في ظاهر هذا الخطاب أراد ترامب طمأنة شريكه وذراعه الاستخباراتي، ورمزه الأيديولوجي في الشرق الأوسط، وهو بذلك يكشف جوهر التحالف الأمريكي الإسرائيلي الذي تجاوز حدود المصالح الاستراتيجية إلى مستوى الشراكة في العدوان.

ترامب هنا لا يتحدث كرجل دولة يسعى إلى تحقيق السلام أو الاستقرار، بل كرجل حرب يرى أن القوة هي الطريق الوحيد للسلام، وأن الدعم لإسرائيل لا يقف عند حدود السياسة أو الاقتصاد، بل يمتد إلى تسليحها وتبرير جرائمها، وتغطية مجازرها تحت شعار الدفاع عن النفس، وهو بذلك في الواقع يُثبت أعمدته ومطامعه الاستعمارية في المنطقة، ويكشف عن الوجع الحقيقي للأيديولوجية الاستعمارية الأمريكية.

واللافت في كلام ترامب أنه لم يكتف بالإشادة بإسرائيل؛ بل نسب لنفسه الفضل في تعزيز قدراتها التدميرية. إنه اعتراف واضح بأن واشنطن لم تكن داعما سياسيا أو وسيطا منحازا لإسرائيل فقط، بل شريك فعلي في كل ما ترتكبه من قتل ودمار. وحين يقول ترامب إن لدى الولايات المتحدة «أسلحة لم يحلم بها أحد»، فهو لا يخاطب خصومه في المنطقة فقط؛ بل يرسل رسالة ترهيب إلى العالم بأسره: أن السلام في المفهوم الأمريكي الجديد لا يصنعه الحوار، بل تفرضه الصواريخ.

ما يكشفه هذا الخطاب هو التحول العميق في اللغة السياسية الأمريكية منذ عهد ترامب. فبينما كانت الإدارات السابقة تحاول على الأقل تغليف دعمها لإسرائيل بشعارات «عملية السلام» أو «حل الدولتين»، يأتي ترامب ليزيح القناع تمامًا، ويعلن بوضوح أن واشنطن ليست وسيطًا ولا مراقبًا، بل طرف في الصراع، وراعي الاحتلال الأول. بهذا المعنى، يصبح خطاب ترامب وثيقة سياسية مُهمة، لأنها تُظهر كيف تماهت المصالح الأمريكية مع المشروع الصهيوني حتى حدود التطابق.

وهنا تبرز المفارقة الكبرى حين يتحدث ترامب عن «خطة سلام» جديدة للمنطقة. فكيف يمكن لرجل كشف عن نفسه كزعيم فعلي للآلة الصهيونية أن يكون صانع سلام؟ وأي سلام يمكن أن يأتي ممن يفتخر بتزويد المحتل بأسلحة الدمار ويبرّر المجازر على الهواء؟ ما يسميه ترامب خطة سلام ليس إلا محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية بصيغة أكثر وقاحة. فخطة السلام التي يروج لها تنطلق من فكرة أن الفلسطينيين مجرد رقم في معادلة أمن إسرائيل، وأن الدولة الفلسطينية ليست ضرورة سياسية أو حقًا تاريخيًا؛ بل عبئًا يجب تجاوزه. إنها خطة بلا أرض، وبلا سيادة، وبلا كرامة، تُبقي الاحتلال قائمًا وتمنح إسرائيل شرعية أبدية للضم والتمدد. بهذا المعنى، فإن «السلام» عند ترامب ليس سوى غطاء لغسل الدماء وتجميل وجه الاحتلال في زمن لم يعد يحتمل الأقنعة.

ترامب الذي طالما قدّم نفسه باعتباره "صانع الصفقات"، عاد اليوم ليعلن أن الصفقات لا تتم إلا من موقع القوة. لكنه يتجاهل أن "السلام بالقوة" ليس سلامًا؛ بل استسلامًا مفروضًا على الشعوب المقهورة. حين يتحدث عن "منع تكرار 7 أكتوبر"، فهو لا يقصد منع الأسباب التي أدت إلى ذلك التاريخ من حصار واحتلال وتجويع؛ بل يقصد منع رد الفعل الفلسطيني المقاوم. إن خطابه محاولة لتأبيد الوضع القائم، وضمان تفوق إسرائيل المطلق في وجه أي مقاومة محتملة.

من منظور أوسع، فإن خطاب ترامب يعبّر عن ذهنية استعمارية متجددة ترى في المنطقة العربية مجرد ساحة اختبار للسلاح الأمريكي، ومجالًا لتثبيت الهيمنة الغربية باسم "الأمن الإسرائيلي". فالحديث عن أسلحة “لم يحلم بها أحد” هو تذكير متعالٍ بأن القوة الغربية ما زالت تملك زمام التفوق، وأن إسرائيل هي أداتها الميدانية في فرض هذا التفوق. إنها عودة إلى منطق الحرب الباردة، ولكن بثوب ديني وسياسي جديد، عنوانه حماية إسرائيل بدلًا من “مواجهة الشيوعية”.

كلمات ترامب لا يمكن فصلها عن المشهد الدامي في غزة؛ حيث تستمر آلة الحرب الإسرائيلية في قصف المدنيين وتدمير البنى التحتية، تحت رعاية سياسية وعسكرية أمريكية صريحة. فحين يعلن ترامب افتخاره بأنه زوّد إسرائيل بالسلاح، فهو في الحقيقة يشارك في الجريمة، لأنه يعترف بأن تلك الأسلحة استخدمت بالفعل، وأنها كانت سببًا في قتل آلاف الأبرياء.

في نهاية المطاف، يكشف خطاب ترامب أنَّ ما يجمع الولايات المتحدة وإسرائيل ليس مجرد تحالف سياسي، بل وحدة فكرية تقوم على عبادة القوة واحتقار العدالة الدولية. لقد سقطت كل الأقنعة، ولم يعد هناك حديث عن "قيم الديمقراطية" أو "حقوق الإنسان"؛ ما تبقّى هو منطق القوة العارية الذي يريد أن يجعل من الاحتلال قدرًا مقدسًا لا يُمسّ.

إنَّ ترامب لم يقل شيئًا جديدًا، لكنه قال ما كانت الإدارات الأمريكية تخفيه منذ عقود: أن واشنطن هي الراعي الأكبر للاحتلال، وأن إسرائيل ليست سوى الواجهة العسكرية لمشروع الهيمنة الغربية في المنطقة.

فهل لا زال يراهن أحد على إحلال سلام حين تسكت البندقية؟!

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

واشنطن تضغط على أوروبا للمشاركة في "القوة الدولية" في غزة

أفادت مصادر مطلعة لموقع "أكسيوس" أن مسؤولين أمريكيين أبلغوا دبلوماسيين أوروبيين بأن الانسحاب الكامل للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة مرهون بإرسال الدول الأوروبية جنودا لدعم "قوة الاستقرار الدولية" أو دعم الدول المساهمة فيها.

وذكر دبلوماسي أوروبي مطلع على المحادثات أن الولايات المتحدة نقلت رسالة واضحة في الأيام الأخيرة مفادها: "إذا لم تكونوا مستعدين للذهاب إلى غزة، فلا تشتكوا من بقاء الجيش الإسرائيلي".

وتقوم الإدارة الأمريكية بإطلاع دول غربية سرا، ومن بينها ألمانيا وإيطاليا، على تفاصيل القوة والمجلس ودعوتها للمشاركة.

ووفق الدبلوماسي الأوروبي فقد أبلغت الدول الأوروبية بأن نشر القوة سيبدأ بمجرد تشكيل مجلس السلام، لكن من دون تحديد جدول زمني بعد.

وتخطط إدارة الرئيس دونالد ترامب لتعيين جنرال أمريكي برتبة لواء لقيادة القوة الدولية المقترحة في غزة، وفقا لمسؤولين أمريكيين وإسرائيليين.

وعلى الرغم من توليها القيادة، شدد مسؤولون أمريكيون على أنه لن يتم نشر قوات أمريكية على الأرض في القطاع.

وتشمل خطة ترامب الانتقال إلى "المرحلة الثانية" بعد إقرار وقف إطلاق النار، وهي المرحلة التي تتضمن انسحابا إسرائيليا أوسع، وانتشار قوة دولية، وتشكيل هيكل حوكمة جديد بقيادة الرئيس ترامب، باسم "مجلس السلام".

وقد صادق مجلس الأمن الدولي مؤخرا على كل من القوة والمجلس. ومن المتوقع أن يعلن ترامب عن مجلس السلام لغزة في مطلع عام 2026.

وكان سفير الأمم المتحدة، مايك والتز، قد أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومسؤولين آخرين هذا الأسبوع بهذه التفاصيل، مشددا على أن وجود جنرال أميركي على رأس القوة من شأنه أن يمنح إسرائيل الثقة في أنها ستعمل وفق معايير مناسبة.

ويقول مسؤولون أمريكيون إنهم حاليا في المراحل الأخيرة من تشكيل قوة الاستقرار الدولية و"مجلس السلام" في لغزة.

مقالات مشابهة

  • هذا موعد انتشار القوة الدولية في غزة.. هل ستقاتل حماس؟
  • رئيس منظمة السياسات الأمريكية في إفريقيا: لدينا شكوك جدية في قدرة اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا على الصمود
  • فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
  • واشنطن تضغط على أوروبا للمشاركة في "القوة الدولية" في غزة
  • واشنطن تضغط على أوروبا للمشاركة في "القوة الدولية" في غزة
  • البيت الأبيض يتحدث عن المرحلة الثانية من خطة السلام في غزة
  • البيت الأبيض يتحدث عن المرحلة الثانية من خطة السلام.. تخطيط هادئ
  • الولايات المتحدة وأوكرانيا يجتمعان اليوم لمناقشة خطة سلام عاجلة بعد مهلة دونالد ترامب لزيلينسكي
  • ترامب يتحدث عن تحسن الاقتصاد والمواطن الأمريكي ما زال عالقًا تحت ضغط الأسعار
  • تقدير إسرائيلي.. تنسيق قطر مع أمريكا بشأن غزة يُضيّق الحيز الاستراتيجي للاحتلال