لم يعد الذكاء الاصطناعي ذلك الابتكار الغامض الذي يدور في فلك المختبرات أو في عالم الخيال العلمي، بل أصبح اليوم واقعاً ملموساً يُعيد تشكيل ملامح الحياة المهنية حول العالم. ففي الوقت الذي كان فيه يُنظر إليه كأداة مساعدة للإنسان في أداء المهام المعقدة، تحوّل اليوم إلى منافس حقيقي في مجالات كانت تُعتبر حتى وقت قريب حكراً على البشر.

تقرير جديد صادر عن شركة OpenAI، المطور الأشهر في عالم الذكاء الاصطناعي، كشف عن صدمة في سوق العمل، بعد أن أظهر اختبار حديث أطلق عليه اسم GDPval أن 44 مهنة باتت مهددة فعلياً بالاستبدال بواسطة النماذج الذكية الحديثة.

الاختبار الذي أقلق العالم

يعتمد اختبار GDPval على مقارنة أداء الذكاء الاصطناعي مع أداء محترفين من تسعة قطاعات اقتصادية رئيسية في الولايات المتحدة، من بينها المحاسبة، المبيعات، الإعلام، البرمجة، والخدمات اللوجستية.

والنتائج، بحسب التقرير، كانت مقلقة إلى حد بعيد؛ إذ تمكنت نماذج الذكاء الاصطناعي مثل GPT-5 وClaude Opus 4.1 من تحقيق أداء فاق البشر في أكثر من نصف الوظائف التي خضعت للاختبار، ما يطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل سوق العمل والتوازن بين الإنسان والآلة.

المحاسبون في الصدارة.. مهنة تتلاشى بهدوء

احتلت مهنة المحاسبة والتأجير المركز الأول ضمن أكثر الوظائف عرضة للاستبدال، بعد أن أظهر الذكاء الاصطناعي تفوقاً بنسبة 81٪ في أداء المهام بدقة وسرعة غير مسبوقة.

فمن تحليل البيانات المالية إلى إعداد التقارير المعقدة، أصبحت الخوارزميات قادرة على إنجاز ما يحتاج فريق كامل من المحاسبين إلى ساعات طويلة لتنفيذه، ما يهدد آلاف الوظائف في هذا القطاع الذي كان يوصف يوماً بأنه الأكثر أماناً واستقراراً.

مديرو المبيعات.. قرارات أسرع وتحليل أعمق

جاء مديرو المبيعات في المرتبة الثانية بنسبة 79٪، إذ أظهرت النماذج الذكية قدرة استثنائية على تحليل سلوك المستهلكين وتوقع اتجاهات السوق واتخاذ قرارات تسويقية دقيقة بلحظة واحدة.

ما كان يحتاج إلى اجتماعات واستراتيجيات طويلة بات يتم بضغطة زر، لتتحول أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى “مدير تسويق افتراضي” يتقن قراءة الأرقام والمشاعر في آن واحد.

العاملون في الشحن والمخزون.. دقة لا تعرف الخطأ

في قطاع الشحن والاستلام وإدارة المخزون، تفوق الذكاء الاصطناعي على البشر بنسبة 76٪، خصوصاً في المهام التي تتطلب التنظيم الدقيق وإدارة البيانات اللوجستية.
فبين أنظمة تتنبأ بنقص المواد وتعيد جدولة النقل تلقائياً، لم يعد العامل البشري قادراً على مجاراة هذا المستوى من الدقة والسرعة في بيئة تعتمد على الوقت والتكلفة.

المحررون.. صدمة أهل الكلمة

النتيجة الأكثر إثارة كانت في مجال التحرير والصحافة، حيث تمكن الذكاء الاصطناعي من التفوق بنسبة 75٪، بعد أن أظهر قدرته على إعادة الصياغة وتوليد النصوص والتحليل بأسلوب لغوي متقن، ما جعل الصحفيين والمحررين في مواجهة تحدٍ غير مسبوق.
فهل يمكن أن يكتب الذكاء الاصطناعي بعمق المشاعر الإنسانية أو بحسٍّ وطني وإنساني؟ سؤال يطرحه كثيرون اليوم في أروقة الإعلام العالمي.

مطور البرمجيات.. المبرمج الذي صنع منافسه

أما المفارقة الكبرى فكانت في مهنة تطوير البرمجيات نفسها، إذ تفوق الذكاء الاصطناعي على مطوري البرامج بنسبة 70٪.
فالنماذج الحديثة باتت قادرة على كتابة الأكواد وتصحيحها وتطوير حلول تقنية متقدمة في وقت قياسي، وهو ما دفع البعض لوصف الذكاء الاصطناعي بأنه “المبرمج الذي أبدع نفسه”.

مهن أخرى على الطريق.. وأخرى في مأمن نسبي

القائمة لم تتوقف عند هذه الوظائف الخمس. فالتقرير أشار إلى مهن أخرى معرضة بدرجات متفاوتة مثل: المحققون الخاصون، ومديرو العمليات، والمستشارون الماليون، والمحامون، والمحللون، والمخرجون، والممرضون، والصحفيون.
في المقابل، بدت بعض المهن أكثر أماناً، وعلى رأسها تلك التي تعتمد على التفاعل البشري أو الإبداع البصري مثل المهندسين الصناعيين ومحرري الفيديو، إذ لم تتجاوز نسبة تفوق الذكاء الاصطناعي أمامهم 17٪ فقط.

بين القلق والأمل.. هل يسرق الذكاء الاصطناعي وظائفنا أم يمنحنا وقتاً للحياة؟

رغم القلق المتزايد من أن الذكاء الاصطناعي قد يتحول إلى “آلة استبدال بشرية”، تحاول OpenAI طمأنة العالم مؤكدة أن الهدف ليس القضاء على الوظائف بل تعزيز الإنتاجية البشرية.
فبفضل هذه التقنيات، يمكن للإنسان أن ينجز أعمالاً أعقد في وقت أقل، وأن يركّز على الإبداع والتفكير الاستراتيجي بدلاً من المهام الروتينية.

سباق العقول مستمر

بينما تتسارع خطوات الذكاء الاصطناعي نحو الهيمنة على قطاعات العمل، يبقى السؤال الأعمق... هل نحن أمام ثورة تُعيد تعريف معنى “العمل” نفسه؟

من الواضح أن المستقبل لن يكون صراعاً بين الإنسان والآلة، بل شراكة ذكية بينهما، حيث يظل الإبداع الإنساني هو الشرارة التي لا يمكن لأي خوارزمية أن تُقلّدها مهما بلغت من ذكاء.

وفي النهاية، يبقى الذكاء الاصطناعي مرآة تعكس عقل الإنسان... لكنها قد تتفوق عليه يوماً إن لم يُحسن استخدامها.

طباعة شارك الذكاء الاصطناعي البرمجيات المحررون الشحن المبيعات

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الذكاء الاصطناعي البرمجيات المحررون الشحن المبيعات الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

خطورة أداء العبادات التي تتضمن المشقة على الكبار والمرضى

العبادات.. قالت دار الإفتاء المصرية إن الإسلام يحافظ على وحدة المجتمع بكلِّ تنوُّعاتِه، خاصةً في أداء العبادات، وإذا كان أداء الكبار لهذه العبادات قد يتضمَّنُ مشقَّةً وكُلفَةً فإنَّ الرَّسول ﷺ نبَّهَ إلى خطورةِ الأفعال التي تؤدِّي إلى حرمانهم من نَيْلِ ثواب حضور الجماعات وتحوُل دونَ اجتماعهم لأداء هذه العبادات، مثل الإطالة في الصلاة، التي ترهق الكبار والمرضى والضعفاء.

أداء العبادات:

قال ﷺ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» أخرجه البخاري.

العبادات والطاعة:

تُعَدُّ الطاعة والانقياد لله سبحانه وتعالى واتباع أوامره من الأمور اللَّازمة لشخصية المسلم؛ فالمسلم يدرك أنه مخلوقٌ لله جلَّ وعلا، وأن مقتضى العبودية لله أداء ما افترضه الله عليه، واجتناب ما نهى عنه، والتقرُّب إليه بشتَّى أنواع العبادات والفضائل.

فضل الطاعة لله تعالى:

ووقيام المسلم بطاعة الله سبحانه وتعالى وأداء واجبات العبادة؛ هو سبيله إلى التَّحرُّر من العبودية لغير الله، وحينئذٍ يتحقَّق بالمعنى الحقيقي للحرَّية، فلا يتحكَّم فيه شيءٌ من المخلوقات أو الشَّهوات أو نفسه؛ لأنه لا يخضع لغير الله.
والإنسان في هذا المسعى إنما يمارس جهادًا عظيمًا مع نفسه؛ ليردعها عن الخضوع للشهوات والتعلق بالله الواحد لا شريك له، وعلى قدر هذه المشقة التي يكابدها الإنسان في التحقق بفضيلة الطاعة والانقياد والخضوع لله؛ يكون الجزاء العظيم من الله عز وجل، يقول الإمام الغزالي: [وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي، كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي، والمعاصي كلها في تركها تعبٌ، وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس، وهي غايةُ التعب] اهـ.

وبيَّن الله تعالى أن طاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم سبيل الفوز الحقيقي؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: 53].

العبات في السنة النبوية الشريفة:

وأثنى الله تعالى على من يطيع رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وجعل طاعة الرسول من طاعة الله؛ قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: 80]، كما أكَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المعنى حين قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، إِلَّا مَنْ أَبَى». قالوا: يا رسول الله، ومَنْ يأْبَى؟! قال: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» رواه البخاري.

والطاعة بين الناس تكون في المعروف والخير، فلا يجوز لأحد أن يطيع غيره في معصية لله عز وجل؛ فعن سيدنا عليٍّ رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، وأمَّرَ عليهم رجلًا من الأنصار، وأمَرَهُمْ أن يطيعوه، فغضب عليهم، وقال: أليس قد أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: قد عزمتُ عليكم لما جمعتم حطبًا، وأوقدتم نارًا، ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبًا، فأوقدوا نارًا، فلما هَمُّوا بالدخول، فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِرارًا من النار؛ أفندخلها؟! فبينما هم كذلك، إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فَذُكِرَ للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» رواه البخاري.

العبادات وطاعة الله تعالى:

وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ۞ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [الشعراء: 151-152]، ولكن إذا تمَّ الإكراهُ على المعصية بصورةٍ جديَّةٍ وغلب على ظنِّ المكرَه أن المكرِهَ سيقوم بتنفيذ تهديده، فإنه يرخَّص للمرء أن يفعل المعصية في أدنى درجاتها؛ تخلُّصًا من إكراه المكرِه، واستثنى الشَّرع من ذلك الإكراه على القتل والزنا، لأنه ليست نفس أوْلى من نفس، فلا يجوز للإنسان أن يطيع من يكرهه في ارتكاب فعل القتل أو الزنا حتى لو غلب على ظنه أو تأكَّد أن المكرِه سيزهِق روحَه، فلا يجوز له أن يضحي بغيره من أجل أن ينقذَ نفسه؛ لأنه ليس أولى من غيره.

الآثار المترتبة على الطاعة وأداء العبادات

وللطاعة وأداء العبادات آثارٌ إيجابيَّةٌ كثيرة في المجتمع المسلم؛ فطاعة الله ورسوله تمنح المسلمين الفوز والفلاح والنجاة في الآخرة فضلًا عن الدنيا، وتأتي بعد ذلك طاعة أولي الأمر فيما لا يخالف ما أمر الله ورسولُه به؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]، فبهذه الطَّاعة تنتظم أمور المجتمع المسلم، ويتحقق الحفاظ على قوَّة المجتمع وتماسكه، ولا يقع في الفوضى والاضطراب الذي يشوِّش الأفكار ويقسم المجتمع ويثير العداوة والبغضاء بين أفراده.

ومن ذلك أيضًا طاعة القوانين واحترام النظام العام في المجتمع؛ فإن ذلك يؤدي إلى انتظام سير شؤون الحياة وتحقيق الغاية من وضع هذه القوانين والنُّظُم، ووصول الحقوق إلى مستحقيها، وعدم الإضرار بالأبرياء، وكذلك طاعة العلماء والمتخصصين في مجالاتهم يحقق للمجتمع أمنه وأمانه، حين يحصل المريض على دوائه من الطبيب، والسائل على جوابه من أهل الاختصاص في مجال سؤاله، فلا يكون لادِّعاء العلم مجال في المجتمع المسلم؛ فلا تنتشر الخرافة، ولا يسود الجهل.

مقالات مشابهة

  • وزير العمل: الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مستقبل الوظائف
  • كيف يتحول الذكاء الاصطناعي إلى خطر يهدد المستخدمين؟.. متخصص يجيب
  • ما الذي يشغل بال الأردنيين؟ تقرير عالمي يجيب
  • رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (3 من 3)
  • خطورة أداء العبادات التي تتضمن المشقة على الكبار والمرضى
  • من هو جيل عمرو الذي يهدد جيل زيد في المغرب؟
  • قمة مستخدمي شيري 2025.. تعاون الإنسان والآلة لرسم مستقبل التنقل الذكي
  • العلماء يحذرون: عقل الإنسان يفقد توازنه بعد منتصف الليل
  • على حافة التصعيد .. سباق الصمت بين واشنطن وبكين