لماذا يخاف نتنياهو من عودة تركيا إلى غزة؟
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
"لم تعد تركيا مجرد وسيط مؤقت، بل أصبحت لاعبا رئيسيا وأحد مهندسي النظام الجديد"، هكذا وصف عوديد عيلام، رئيس وحدة مكافحة الإرهاب السابق في الموساد، الدور التركي الذي برز مؤخرا في مفاوضات اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
فتركيا التي انخرطت مبكرا في الأزمة، لم تكن طرفا رئيسيا في المفاوضات التي استمرت على مدار قرابة عامين، برعاية قطرية- مصرية مشتركة.
بيدَ أنها نجحت في صناعة الفارق عندما ألقت بثقلها في المفاوضات، مشاركة مع القاهرة والدوحة، حتى تم التوصل لوقف إطلاق النار، الأمر الذي استحقت عليه إشادات متكررة من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، كان آخرها في كلمته بمؤتمر السلام الذي انعقد في مدينة شرم الشيخ بمصر، حيث ثمَن دور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان في التوصل إلى الاتفاق، الذي تعد تركيا واحدة من الضامنين الأساسيين له.
هذا التناغم الواضح بين واشنطن وأنقرة، ولنكون أكثر دقة بين ترامب وأردوغان، أثار حالة من القلق داخل دولة الاحتلال، حيث أكد عوديد عيلام، أن "أردوغان، بدعم من ترامب، لديه القدرة على تحويل الأزمة إلى فرصة، وقد فعل ذلك مرة أخرى".
كما أن القلق الإسرائيلي يرتبط ارتباطا وثيقا بالدور المتوقع لتركيا في اليوم التالي لوقف الحرب، من حيث ترتيبات الأمن، وإعادة الإعمار، وتأهيل الإدارة الجديدة التي ستتولى شؤون قطاع غزة.
المخاوف الإسرائيلية، عبرت عنها نوا لازيمي، الخبيرة في معهد ميسغاف للأمن القومي بقولها:
"إن إشراك تركيا في اتفاق غزة يعني الاعتراف بتركيا كقوة سنية مؤثرة، وقبول حقيقة مفادها أنه لا يمكن التوصل إلى اتفاقيات إقليمية شاملة، وخاصة بشأن القضية الفلسطينية، من دون مشاركة تركيا".
تدرك تل أبيب أن الانخراط التركي في الملف، سيختلف اختلافا جوهريا عن نظيره الإيراني، الذي لم يحظَ بقبول شعبي في المنطقة، نظرا للخلافات المذهبية التي تمددت خلال العقدين الأخيرين، إضافة إلى السياسات الإيرانية الخاطئة بحق دول المنطقة، مثل سوريا، والعراق، ولبنان، واليمن.
إعلانلكن الأمر جد مختلف مع تركيا، إذ نجحت دبلوماسيتها خلال السنوات الأخيرة في ترميم العلاقات مع دول المنطقة، التي تأثرت إثر ثورات الربيع العربي، ومنذ ذلك الحين عملت أنقرة على تعزيز تلك العلاقة، وكانت أزمة الحرب في غزة فرصة للعمل المشترك الجاد.
من هنا فإن إسرائيل تدرك جيدا أن تركيا لن تعترضها نفس العوائق التي أعاقت إيران. فنجد خبير مكافحة الإرهاب الإسرائيلي، إيلي كارمون، يحذر من أن الوضع "سيكون تهديدا آخر لإسرائيل على المدى البعيد، بالإضافة إلى التهديد السوري".
إن سبر أغوار المخاوف الإسرائيلية لن يكون إلا باستشراف بعض ملامح الإستراتيجية التركية تجاه قطاع غزة، والمنطقة بشكل عام، خلال المرحلة المقبلة.
الحفاظ على القطاعأول ملامح الإستراتيجية التركية، التي تتصادم مع المخططات الإسرائيلية، هو ضرورة الحفاظ على قطاع غزة بسكانه ومقاومته، حتى وإن تم نزع أو تجميد أو تسليم سلاحها في أسوأ السيناريوهات.
فتركيا تنظر إلى هذه المقاومة على أنها خط دفاع متقدم، ليس عن فلسطين فحسب بل عن الأناضول أيضا، حيث شبهها أردوغان قبل نحو عام ونصفٍ بـ "قواي ملليه"، أو حركة المقاومة الوطنية التي كانت طليعة حرب الاستقلال التي خاضها الأتراك عقب الحرب العالمية الأولى.
لذا لم يكن من المنتظر أن تسمح أنقرة بانفراط عقد هذه المقاومة، لكن إزاء حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضد سكان القطاع، كان لا بد من التعامل مع الواقع بالعمل على إيقاف المذبحة، ولو على حساب تجميد المقاومة الآن.
وقد مرت تركيا بظروف مشابهة في سوريا، عندما اضطرت إلى الانخراط في مسار أستانا واتفاقية خفض التصعيد؛ حفاظا على الأوضاع "السيئة" التي وصلت إليها الثورة السورية آنذاك، أملا في عدم الانجرار إلى مزيد من الخسائر الإستراتيجية التي كان من الممكن أن تقود إلى فقدان إدلب آخر معاقل الثورة، واضطرار قرابة أربعة ملايين سوري إلى الهجرة إلى المجهول.
تجميد الأوضاع في الشمال السوري، سمح للثورة بإعادة تنظيم صفوفها من جديد، وانتهاز فرصة التغيرات الإقليمية العميقة لبدء عملية التحرير وإسقاط نظام الأسد.
من هنا تخشى تل أبيب أن أنقرة قد لا تكون معنية- حال وجودها في القطاع- بتفكيك البنية التحتية للمقاومة، بل قد تفعل العكس، مثلما فعلته من قبل في سوريا مع قوات الثورة.
كما أن إبقاء تركيا سكان القطاع، والحيلولة دون تهجيرهم، يمثل أيضا ضربة للمخطط الإسرائيلي الرامي إلى تهجير السكان والسماح ببدء حركة الاستيطان.
عودة تركيةإذا سارت الأمور كما هو مخطط لها، فإن تركيا ستشارك بقوات في القوة الدولية التي ستعنى بتنفيذ المهام في قطاع غزة.
ووجود قوات تركية لأول مرة بعد أكثر من مائة عام، هو آخر ما كانت تتخيله إسرائيل، فبحسب تقديرات إيلي كارمون، فإن تركيا "دولة أقوى عسكريا بكثير من إيران".
ويذكّر كارمون بأن النظام التركي "يحارب إسرائيل اقتصاديا، ويمنع السفن من الرسو في موانئه، ويمنع الطائرات العسكرية من المرور، ويقاطع إسرائيل في كافة المجالات، ويحاول توحيد القوى العربية ضدها، ويعرقل أنشطة إسرائيل في التنقيب عن الغاز، ويوقع اتفاقية مع ليبيا لإغلاق المنطقة الاقتصادية الإسرائيلية".
إعلانإضافة إلى ما ذكره "كارمون" فإن العالم تابع مؤخرا كيف حال أردوغان بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو وبين مشاركته في مؤتمر السلام، بعدما أصر الرئيس التركي على عدم هبوط طائرته في شرم الشيخ، وهدد بإلغاء مشاركته، إذا شارك نتنياهو، ولم تنتهِ الأزمة إلا بعد إلغاء المشاركة كما كان مقررا من ذي قبل.
هذا التوتر الحاد في علاقة الدولتين، لا تحتمل معه إسرائيل رؤية قوات تركية في حدودها الجنوبية، والتي ستمثل خطوة إستراتيجية مضادة من قبل أردوغان، الذي كان يحذر قبل أكثر من عام من اقتراب أي قوات إسرائيلية من حدود بلاده.
إضافة إلى ذلك فإن بعض التقديرات الإسرائيلية تذهب إلى أنه "إذا أصبح الأتراك جزءا من قوة عسكرية داخل غزة، وشاركت شركات البناء التركية في إعادة بناء القطاع، فإن حماس ستظل عنصرا خطيرا داخل غزة". وذلك على حد رؤية إيلي كارمون.
تعاون إقليمي جديدالتعاون مع دول الجوار يعد واحدا من أهم المقاربات التي وظفتها تركيا للتعامل مع أزمة الحرب في غزة.
فلم تتصرف تركيا بشكل منفرد بل عبر التعاون المشترك بين الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، الذي انبثق عنه لجنة وزارية من عدة دول عربية وإسلامية.
هذا التعاون كللته تركيا بالتنسيق الثلاثي مع مصر، وقطر بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار، حيث نجح هذا التنسيق في حمل إدارة ترامب على إنهاء الحرب، والبدء بمرحلة إعادة الإعمار، بحسب تأكيد الرئيس الأميركي في قمة شرم الشيخ.
فبحسب عوديد عيلام فإنه "على مدى العقد الماضي، لم تعمل تركيا على تعزيز قوتها البحرية بالغواصات المتطورة وحاملات الطائرات الخفيفة والأسلحة البحرية القادرة على الهجوم فحسب، بل عملت أيضا على زيادة تعاونها مع دول أخرى في الشرق الأوسط".
لكن ما يثير القلق في تل أبيب أن هذه التحركات التركية، تأتي "في وقت يشهد تزايد التعاون الأمني بين تركيا ومصر".
فالتقارب التركي- المصري، الذي تعزز مؤخرا بالمناورات البحرية المشتركة، يعد من النتائج الجيوستراتيجية المهمة لطوفان الأقصى، إذ طوت الدولتان سريعا صفحة الخلافات الماضية، وسرعان ما انخرطتا في عمل منسق لمواجهة التهديدات الإسرائيلية التي تجاوزت غزة إلى دول الإقليم.
ومن هنا، فإن المتوقع أن تسعى أنقرة إلى تعزيز هذا التعاون الإقليمي- خاصة مع مصر- واعتماده إستراتيجية ثابتة للتعامل مع غزة فيما بعد الحرب، فيما ستسعى تل أبيب إلى إفساد هذا التعاون والحيلولة دون استمراره.
ما بعد غزةالجهد الذي بذلته تركيا في إيقاف الحرب في غزة، والذي لاقى استحسان ترامب، وشكر أردوغان بسببه عدة مرات آخرها أمام الحضور في مؤتمر شرم الشيخ، ستعمل أنقرة على توظيفه لبناء إستراتيجية تعالج مخاوفها الأمنية، وتعزز حضورها الإقليمي.
وستكون سوريا هي الساحة الأبرز لتحقيق ذلك، إذ ستعمل تركيا على إنهاء تهديدات قوات سوريا الديمقراطية، إما سلما وإما حربا، خلال بقية المهلة الممنوحة لتلك القوات، وهي نهاية العام الحالي.
إذ تتوقع أنقرة أن ترفع واشنطن يدها عن قوات قسَد، خاصة أن ترامب لا يزال يحتاج أردوغان للتوسط لإنهاء الحرب في أوكرانيا، نظرا لعلاقته المتميزة بطرفي الأزمة.
إنهاء هذا الملف الأمني الشائك سيسهم في تعافي الدولة السورية أمنيا ودفاعيا، الأمر الذي سينعكس على ملف السويداء إيجابيا لصالح دمشق.
هذه السيناريوهات لا تريدها إسرائيل، التي تدرك أن تعافي الدولة السورية، وبناء قدراتها الأمنية والدفاعية بمساعدة من تركيا، سيمثلان تهديدا مباشرا لها، في ظل التعاون التركي- السوري المستمر.
وأخيرايقول شاي غال معبرا عن مخاوف النخبة الإسرائيلية:
" المرحلة القادمة ليست عسكرية بل معرفية، تفرض إسرائيل الواقع قبل أن تُعيد الدوحة وأنقرة صياغته بلغة حماس. فإذا سمح لهما بالجلوس على الطاولة، فسيُصبح توقفها هزيمة؛ وإذا استُبعدتا، فقد ينشأ نظام جديد: نصر ساحق، وسيادة بلا وسطاء، وردع دائم".
إعلانلكنهما جلستا خلال المرحلة الأولى من الاتفاق، فيما تظل التحديات قائمة فيما هو آتٍ من مراحل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات شرم الشیخ الحرب فی قطاع غزة تل أبیب
إقرأ أيضاً:
رسالة غير مسبوقة من نتنياهو إلى إسرائيل
لم تتحدث إسرائيل عن "الحرب" في غزة منذ أسابيع عديدة. فهناك وقف لإطلاق النار قائم، أليس كذلك؟
حقيقة أن أكثر من 350 فلسطينيا، بينهم أكثر من 130 طفلا، قد قتلوا خلال ما يسمى "وقف إطلاق النار" ليست ذات أهمية، تماما كما أن حقيقة أن إسرائيل هي التي قتلتهم لا تعني شيئا. الفلسطينيون يموتون لأن هذا ما وُجد الفلسطينيون ليفعلوه. لا يوجد ما يستحق النقاش.
لكن طلب العفو الذي قدمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مسألة مختلفة تماما. فهو كل ما يبدو أن الناس في إسرائيل يتحدثون عنه، على كل جانب من جوانب الانقسام السياسي.
أولئك الذين يستشيطون غضبا من نتنياهو يشيرون إلى أن ما قدمه ليس حتى "طلب عفو". فالرئيس الإسرائيلي- حاليا إسحاق هرتسوغ، وهو رئيس سابق للمعارضة ضد نتنياهو- لديه السلطة القانونية للعفو عن "الجناة". لكن الجناة هم أشخاص أدينوا في المحكمة بخرق القانون. أما نتنياهو فما يزال يحاكَم.
لم يمنَح في تاريخ إسرائيل سوى عفو واحد قبل الإدانة (بل قبل المحاكمة فعليا). وقد منح لعناصر من جهاز الشاباك الذين اقتحموا في عام 1984 حافلة اختطفها فلسطينيون، وقاموا بضرب اثنين من المختطِفين حتى الموت.
التحقيق الداخلي فيما عرف لاحقا بقضية "الباص 300″ كان تحقيقا ملفقا رتبته قيادة الشاباك. وبعد عامين، جرى التوصل إلى صفقة غير مسبوقة، لم تقتصر على العفو عن عناصر الشاباك المتهمين، لكن غير المدانين بعمليات قتل خارج القانون، بل سمحت أيضا لقادة الشاباك الذين تلاعبوا بالتحقيق في الحادثة بالاستقالة دون توجيه أي لائحة اتهام ضدهم. وقد استشهد حينها بـ"ظروف أمنية خاصة". ما يفعله نتنياهو اليوم هو أنه يطلب، في الأساس، تطبيق تلك الظروف نفسها.
ومع ذلك، فهو لا يطلب مجرد عفو. إنه يطلب من الرئيس (الذي يشغل منصبا بروتوكوليا إلى حد كبير) إيقاف المحاكمة بدعوى "الوحدة الوطنية" و"التطورات المذهلة" المتوقعة (وفق رؤية نتنياهو) في الشرق الأوسط. وبالنسبة لمؤيديه المخلصين، ما كان ينبغي للمحاكمة أن تبدأ أصلا. لقد دافعوا عن منحه حصانة من الملاحقة القضائية وعن إعلان بطلان المحاكمة؛ بسبب "ضعف" لوائح الاتهام الموجهة إليه.
إعلانالآن، في خضم حرب لا تنتهي (بإشعال وإدارة من نتنياهو)، يزعم مؤيدوه أن وجوده ضروري بدوام كامل على رأس القيادة. وهم يصفون محاكمته بأنها انتقام شخصي من الجهاز القضائي الإسرائيلي، ونتيجة لـ"الإصلاح القانوني والقضائي الحاسم" الذي بدأ نتنياهو بتنفيذه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بوقت طويل.
هؤلاء المؤيدون، سواء في البرلمان أو الإعلام، يعتبرون الضجة المثارة ردا على طلب نتنياهو تجسيدا كاملا لكراهية "الدولة العميقة" الإسرائيلية لنتنياهو ولإسرائيل عموما. وقد جاءت ردودهم على طلب نتنياهو بحماسة تراوحت بين:
موقف وزيرة حماية البيئة، عيديت سيلمان، التي حذرت من أنه إذا لم يوقف هرتسوغ المحاكمة، فسيضطر دونالد ترامب للتدخل "ضد المؤسسة القضائية الإسرائيلية"، وموقف محامي نتنياهو الشخصي، عميت حداد، الذي أصر على أن المحاكمة يجب أن تتوقف كي يتمكن نتنياهو من "مواصلة مهمة شفاء الأمة" وقيادة إسرائيل عبر أزمتها الحالية.
بين المعسكرين، يقف "التوفيقيون" الأبديون، أولئك الذين يقولون في كل منعطف إن الحقيقة لا يمكن إيجادها إلا في المنتصف. هؤلاء، المعروفون في إسرائيل باسم التيار الوسطي سيئ السمعة، يدعون إلى صفقة ادعاء أو أي تسوية كبرى أخرى. معظمهم يريد صفقة سياسية تقضي بخروج نتنياهو من الحياة السياسية مقابل تجنبه الإدانة.
آخرون لا يهتمون كثيرا بطبيعة الحل بقدر ما يهتمون بإطار السردية العامة، فيدعون إلى مقاربة "معتدلة" تمتنع عن اتهام نتنياهو بالفساد، وتركز بدلا من ذلك على مسؤوليته عن أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لا سيما السلوك المختل للجيش الإسرائيلي والسلطات الحكومية الأخرى.
في كل الأحوال، السردية المطلوبة هي سردية الوحدة، والوحدة لا تتحقق -في نظرهم- إلا إذا وافق "الجانبان" على أن ينتهيا بأقل من 100% مما أراداه في البداية.
القاسم المشترك بين هذه المقاربات التي تبدو متناقضة هو أنها جميعا مركزة بالكامل على نتنياهو. خذ الوسطية الإسرائيلية مثالا: فقد أصدر نتنياهو رسالة غير مسبوقة، تدعو عمليا إلى تعليق الأعراف المؤسسية والقانون لصالحه. وكانت المبررات في أحسن الأحوال غامضة.
قد يفترض المرء أن دعاة "الاعتدال" سيقابلون طلب نتنياهو بالرفض القاطع. ومع ذلك، ما إن نشر نتنياهو الرسالة، حتى سارع هؤلاء الوسطيون إلى قبولها بوصفها شرعية، وبدؤوا بمحاولة تحديد صيغتهم التوفيقية بالاستناد إليها.
الأمر نفسه ينطبق على الليبراليين. فقد ألقى الأميركيان ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر خطابين في أكبر مظاهرة نظمت قبل بدء سريان وقف إطلاق النار، أمام حشد من مئة ألف شخص. كان هؤلاء المحتجون يرون أنفسهم خصوما شرسين لنتنياهو، وقد اختزلوا خلافهم معه في قضية واحدة: فشله (وانعدام رغبته) في إعادة الرهائن. وعندما ذكر كوشنر اسم نتنياهو، أطلق الحشد صيحات استهجان.
ولثلاثة أيام كاملة، وهي مدة أطول بكثير من قدرة الإسرائيليين التقليدية على متابعة حدث مثل إعدام موثق لفلسطينيين، انشغل الإعلام الإسرائيلي بالكامل بسؤال واحد: هل كان إطلاق صيحات الاستهجان مناسبا؟ أم كان غير لائق لأنه رئيس الوزراء؟ هل أثبتت الصيحات أن الاحتجاجات ضده تقوم فقط على كراهية شخصه (وكراهية مؤيديه بالتبعية)؟ هل نتنياهو هو تجسيد الشر الذي ينبغي استقباله بالاستهجان مهما كان البروتوكول؟
إعلانخلال تلك الأيام، كان الفلسطينيون يقتلون بالعشرات ثم بالمئات. وكانت البنية التحتية الإسرائيلية تتداعى، وكذلك الاقتصاد الإسرائيلي. ومع ذلك، كان كل ما أراده الليبراليون الإسرائيليون مناقشته هو نتنياهو، ورد الفعل على نتنياهو، وكيفية التموضع بالنسبة إلى نتنياهو.
بالنسبة لمؤيدي نتنياهو، لا أحد سواه. فهو "رجلهم"، الذي يمثلهم في مواجهة النخب التي تعتقد أن البلاد ملك لها بحكم المكانة. هو وحده، بجرأته ودهائه، من نقل المعركة إلى أعداء إسرائيل وأخضعهم. وهو من كسر النموذج الذي وضع إسرائيل تحت رحمة العالم. إسرائيل اليوم تفعل ما تشاء، وتلك الرغبات -كما يرون- لا يحق لأحد تحديدها سوى إسرائيل نفسها.
إنه شخص فريد، ولا ينبغي لأي قاعدة أو قانون أن ينطبق عليه؛ لأنه يحمل مهمة تاريخية وينقذ الشعب اليهودي. وحتى لو لم يفعل كل ذلك، يقول مؤيدوه العلنيون (مرددين في الواقع ما يفكر به مؤيدوه السريون)، فلماذا ينبغي التصويت لأي شخص آخر؟
لكن في الجوهر، لا يختلف هؤلاء عنه كثيرا. فلم يطرح أي زعيم "معارضة" يهودي رؤية تختلف عن تلك التي حققها نتنياهو بالفعل. فجميعهم يؤيدون حق إسرائيل في تدمير حماس، وفي مهاجمة أي "عدو" آخر متى شاءت إسرائيل. وجميعهم يستبعدون النواب الفلسطينيين في الكنيست من اجتماعات التنسيق، ويتحدثون عن "حكومة صهيونية" ستحل محل نتنياهو.
قد يلومون نتنياهو على تراجع مكانة إسرائيل الدولية، لكنْ لا أحد منهم يعترف بمسؤولية إسرائيل عن تدمير غزة، ناهيك عن الإبادة الجماعية.
أما "زعيما المعارضة" اللذان شغلا منصب رئيس الوزراء، فقد توليا المنصب مجتمعين لما لا يتجاوز 18 شهرا. في حين شغل نتنياهو المنصب لما يقرب من عقدين كاملين. صحيح أنه قد يكون وَقِحا بعض الشيء أو مختلا قليلا، لكنه ما زال -في نظر مؤيديه- الأدرى بإدارة الأمور من أي وريث محتمل يقدم نفسه على الساحة.
الخلاصة بسيطة: نتنياهو ليس فقط أكثر الساسة فاعلية في إسرائيل، بل هو السياسي الوحيد فيها. وإذا دُعي إلى انتخابات خلال الأشهر المقبلة ولم يكن قد أدين بعد، فيمكن توقع أن يخرج زعيما لأكبر حزب، وأن يعود رئيسا للوزراء. في الأصل، كانت عبارة "لا مثلَه" تقال عن الله. أما لدى الإسرائيليين، بكل أطيافهم السياسية، فلا أحد لديهم سوى نتنياهو.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline