ثورة 14 أكتوبر.. دروس من الماضي ونظرة إلى الواقع المرتهن ومستقبل الجنوب
تاريخ النشر: 18th, October 2025 GMT
تمر ذكرى ثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة، لا كمجرد مناسبة وطنية عابرة نستعيد فيها صفحات من تاريخ الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، بل كحالة وجودية حيّة تستنهض الذاكرة الوطنية في زمنٍ تتنازع فيه الإرادات وتُختبر فيه الهويات.
فهذه الثورة التي فجّرها الأحرار عام 1963 لم تكن انفجارًا لحظةً من الغضب فحسب، بل كانت ثمرة وعي جمعي وإرادة تحررية توحدت فيها الإرادة الوطنية اليمنية متجاوزة الحدود الشطريه تحت راية واحدة ، هدفها إنهاء الاستعمار وبناء وطنٍ مستقل .
لقد كانت ثورة الرابع عشر من أكتوبر مدرسة في الإيمان والوطنية، ومعاني التضحية والإصرار والحرية.
فالشعب اليمني قدّم آلاف الشهداء في سبيل الله والحرية والاستقلال، مؤكدًا أن الاستقلال لا يُمنح بل يُنتزع، وأن الكرامة لا تُشترى بل تُصان بالدماء والعزيمة وهذا بحد ذاته من الإيمان والحكمة اليمانية.
كانت الثورة الرابع عشر من أكتوبر – في جوهرها – فعل إرادة نابعًا من داخل شعب الإيمان والحكمة، لم يستند إلى وصاية خارجية ولا إلى دعم من قوى أجنبية، بل إلى إيمان صادق بأن الحرية حق أصيل للشعوب، وأن الوطن لن ينهض إلا بإرادة أبنائه ووحدة صفهم وهذا تجسيد عملي تطبيقي للإيمان والحكمة.
غير أن قراءة الماضي المجيد لا تكتمل دون مواجهة الحاضر بكل ما فيه من تعقيد ومرارة .
فهل بقي من يحمل هذا الروحية من أحفاد الثوار ليجسدها في مواجهة تحديات الحاضر.
فاليوم يقف الجنوب اليمني أمام واقعٍ مختلف، واقعٍ مرتهن بتقاطعات إقليمية ودولية جعلت من قضيته ساحةً لتصفية الحسابات، ومن قراره الوطني رهينة لأطراف خارجية.
تحوّل اليمني من أرضٍ موحدة التحرر إلى ساحة صراعٍ بالوكالة، تتنازعها مشاريع متناقضة تتكئ على تحالفات ظرفية ومصالح آنية. وتبدو الخريطة السياسية والعسكرية فيه شديدة التداخل والانقسام، حتى غدت قضية جنوب اليمن نفسها تتآكل تحت وطأة التشتت والارتهان.
تعمّق الأزمة لا يقتصر على السياسة وحدها، بل يمتد إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية في المحافظات الجنوبية والشرقية لليمن الخاضعه للتدخل الخارجي . فمعاناة الناس اليومية، من انقطاع الخدمات وتدهور المعيشة وغياب الأمن، باتت تمثل الوجه الأكثر قسوة للواقع المرتهن. المواطن ، الذي قدّم التضحيات الكبرى بالأمس، يجد نفسه اليوم أسيرًا لحالة من الإحباط والخذلان، يعيش في وطنٍ يفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة، في حين تتقاذف القوى المتصارعة شعارات التحرير والسيادة دون أن تترجمها إلى واقع ملموس. وهنا تكمن المفارقة الموجعة: الجنوب اليمني الذي تحرر من الاستعمار العسكري بالأمس، يبدو اليوم مكبلًا بأشكال جديدة من التبعية والهيمنة.
ومع كل ذلك، لا تزال روح ثورة أكتوبر قادرة على أن تكون منطلقًا لبناء مستقبل أفضل، لاخوتنا في الجنوب اليمني شرط أن تُستعاد مضامينها الحقيقية التي رسمها آباؤنا بدمائهم الزكية والطاهرة من كل دنس الخيانة والارتهان لأي قوى محلية أو خارجية.
إن دروس تلك الثورة واضحة وجلية: وابرزها الوحدة التي هي أساس القوة، والتضحية التي شرط الكرامة، والحرية الاستقلال لا يتحقق إلا بإرادة حرة تنبع من الذات الإيمانية والوطنية لا من الخارج.
ومن هنا، فإن الخطوة الأولى نحو مستقبلٍ أفضل تتمثل في إعادة بناء المشروع الوطني اليمني الجامع، الذي ينبغي أن يكون مرسوم في ذاكرة كل وطني غيور على شعبه ووطنه.
وأن يتم تجاوز الحسابات الفئوية والمناطقية، ويرتكز على حوار داخلي شامل بين كل مكونات اليمنية، من أجل صياغة رؤية واضحة لمستقبل يمن الإيمان والحكمة، تحدد طبيعته السياسية الوفاء لتضحية الآباء بإيمان وحكمة كما جسدوها هم.
كما أن استعادة القرار المستقل تظل الركيزة الأهم لأي مشروع تحرري حقيقي. فاليمن لا يمكن أن يحقق كرامته ما دام قراره السياسي والعسكري مرهونًا بإملاءات الآخرين.
المطلوب اليوم هو الانتقال من موقع “الأداة” في صراعات الآخرين إلى موقع صناعة المصير لأحفاد الثوار.
وهذا لن يتحقق إلا بالتحرر من التبعية السياسية، وبإرساء علاقات قائمة على الندية والمصلحة المتبادلة، لا على الاستقواء بالقوى الإقليمية.
وحتى يكون لهذا المشروع مصداقية، يجب أن يرتبط بحياة الناس واحتياجاتهم الواقعية.
فالقضية الوطنية ليست شعارًا يرفع فوق الجوع والمعاناة، بل مسؤولية تتجسد في تحسين حياة المواطن، وتوفير الأمن والكرامة، وبناء مؤسسات قادرة على تلبية حاجاته الأساسية.
فالشعب الذي يُترك فريسة للفقر والمرض والبطالة لن يكون قادرًا على الدفاع عن قضيته، ولن يحمل راية التحرر ما لم يشعر أن هذا التحرر يعني له شيئًا في واقعه اليومي.
إن إحياء ذكرى ثورة 14 أكتوبر يجب أن يكون مناسبة للتفكير العميق لا للاحتفال العابر، محطة للمراجعة لا للتغني بالماضي. فهذه الثورة العظيمة لم تُكتب لتبقى في الكتب، بل لتكون نبراسًا يضيء طريق الحاضر والمستقبل.
إنها تذكير دائم بأن الجنوب لا يُبنى بالارتهان، ولا يُستعاد بالانقسام، وأن المجد الحقيقي لا يتحقق إلا بوحدة الصف واستقلال القرار، وبالإيمان بأن المستقبل لا يُهدى، بل يُصنع بوعي الشعوب وصمودها.
في النهاية، تبقى ثورة أكتوبر نداءً مفتوحًا لأبناء الشعب اليمني جميعًا: أن يتجاوزوا خلافاتهم، ويستعيدوا روح الأحرار الذين صنعوا المجد .
فمستقبل الشعب اليمني لن يُكتب إلا بأيديهم، ولن يكون جديرًا بتضحيات الماضي إلا إذا حرروا إرادتهم من قيود الحاضر، وبنوا وطنًا يليق بدماء الشهداء، ويكرم آلام المظلومين، ويرفع راية الحرية عالية كما رفعها أبطال أكتوبر قبل أكثر من ستين عامًا.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
أسئلة اليوم التالي ومستقبل السودان: معطى القبيلة وفخ القبلية1
أسئلة اليوم التالي ومستقبل السودان: معطى القبيلة وفخ القبلية
محمد الأمين عبد النبي
تفرض حرب الخامس عشر من أبريل 2023 على السودان أسئلة كبرى تتجاوز حدود الميدان العسكري إلى جوهر الدولة ومصيرها. فالحرب، بما أحدثته من انهيارات بنيوية وتحولات اجتماعية وسياسية، فتحت الباب لمراجعة شاملة تطال المؤسسة العسكرية، قوات الدعم السريع، الحركات المسلحة، الإسلامويين، الاقتصاد الوطني، المجتمع المدني، الأحزاب، النقابات، البنى القبلية، والكيانات الدينية، وصولًا إلى سؤال طبيعة الدولة ونظام الحكم والعدالة والوحدة الوطنية.
إن الوعي بهذه الأسئلة، والغوص في عمقها، وتناولها بتفكير استراتيجي بعيد عن الانفعال والسطحية، يشكّل الخطوة الأولى نحو تأسيس مشروع وطني وعقد اجتماعي جديد يعيد توجيه البوصلة السودانية. وتهدف هذه السلسلة إلى إبتدار حوار فكري رشيد، يستنهض طاقات العلماء والمفكرين والسياسيين وقيادات المجتمع، لاستعادة العقل النقدي السوداني وإطلاق رؤى مبتكرة تعيد بناء الدولة السودانية، وتؤسس لمستقبل لا يُدار فيه الوطن بردود الأفعال، بل بعقلانية ومسؤولية واستبصار.
مما لاشك فيه؛ انه حين تصمت البنادق في السودان لا ينتهي الصراع. فالحرب التي دمّرت المدن والقرى وشرّدت الملايين، فتحت في الوقت نفسه بوابات أعمق من ميدان القتال. إنها بوابات الهوية، وسؤال الشرعية، فقد تجاوزت الحرب حدود السياسة، واتسعت لتشمل النسيج الاجتماعي بأسره، فأعادت طرح سؤال جوهري: هل يستطيع السودان إعادة بناء ذاته دون الوقوع مجدداً في فخ القبلية؟ وهل يمكن للقبيلة أن تظل مكوّناً اجتماعياً طبيعياً ضمن دولة حديثة من دون أن تتحول إلى أداة صراع أو بوابة للسلطة من جديد؟.
السياق التاريخي:
تاريخياً، شكّلت القبيلة في السودان إطاراً للتنظيم الاجتماعي والتكافل الأهلي، فقد كانت الضامن للأمن والحقوق، ورافعة للتماسك الاجتماعي. فلم تكن طارئة على المشهد السوداني، بل رافقت الدولة منذ تأسيسها، عطفاً على ضعف بنية دولة ما بعد الاستعمار وتراجعها على حد قول الامام الصادق المهدي: “مؤسسات الدولة التي ورثناها من العهد الإمبريالي لم تكن ناضجة كما يجب وولاءات المواطنين الأولية الاثنية والقبلية والطائفية لم تتراجع بالقدر الكافي لصالح الولاء القومي، وفي ظل الحكم الوطني من عام 1956 في السودان تراجع نضج مؤسسات الدولة وبرزت الولاءات الاولية بصورة اضعفت الانتماء القومي هذه العوامل جعلت الشروط المطلوبة لنجاح الدولة الوطنية تتقاصر على المستويات المطلوبة، مفهوم الدولة الوطنية نفسه غير مؤصل بالقدر الكافي مما فتح المجال لولاءات فوق قطرية، الاهتمام بإنضاج مؤسسات الدولة الحديثة وبلورة الولاء القومي الذي يعلو على الولاءات الأولية ويكرس الولاء للدولة الوطنية من شروط نجاح التجربة الديمقراطية”.
في الحكومات الوطنية الأولى، لعبت الانتماءات الجهوية والقبلية دوراً خفياً في تشكيل التحالفات السياسية، وفي توزيع المناصب، وفي تحديد موازين القوة داخل الأحزاب التقليدية والذي يرجع بالاساس الي ضعف الدولة المركزية وعدم قدرتها على بسط نفوذها على الأطراف، مما جعل الاعتماد على الزعامات القبلية جزءًا من آليات الحكم في الريف، وأدخل القبيلة مبكراً في حسابات السلطة. ومع تعاقب الأنظمة العسكرية برزت القبلية بصورة أكثر وضوحاً، حيث استخدمت السلطة المركزية شيوخ القبائل في ضبط الأطراف، وفض النزاعات، وجذب الولاءات، مقابل الامتيازات.
التحول الأكبر جاء في عهد الإنقاذ، إذ أدخلت القبلية في بنية الدولة ذاتها، من خلال المحاصصة الجهوية، وتسليح جماعات قبلية، وإنشاء إدارات أهلية موازية، ما أدى إلى عسكرة المجتمع وتعميق الانقسامات. وقد أرجع الدكتور الشفيع خضر تجليات المازق المأساوي في السودان الي الانظمة الديكتاتورية والشمولية وتحديداً نظام الإنقاذ ليتراجع المواطن الي رحاب القبيلة والعشيرة للتعبير عن مطالبه السياسية بحثاً عن الامن والامان هذا النزوح نحو القبيلة ظل يقف حجر عثرة أمام نمو وتطور القومية السودانية ذات المحتوى الفسيفسائي الغني بتنوعه وتعدده.
أما التجارب الديمقراطية القصيرة، فقد عجزت عن تجاوز هذه البنية، وظلت مضطرة إلى مراعاة التوازنات الجهوية والقبلية في التحالفات البرلمانية، مما قيّد قدرة الدولة على التحول إلى مؤسسات حديثة قائمة على المواطنة. وهكذا تراكمت القبلية عبر العقود، حتى أصبحت عاملاً بنيوياً في إدارة الدولة، وسبباً رئيساً لتعثر مشروع بناء دولة وطنية عادلة وموحدة.
الحرب الحالية ومضاعفة التركة :
برزت تراكمات هذا التاريخ بصورة سافرة في الحرب الحالية وما رافقها من انهيار مؤسسي، أعادا للقبيلة دوراً مضاعفاً، فتقدمت لتشكّل سلطة أهلية موازية، وبديلاً مؤقتاً للدولة المنهارة. ولم يعد الانتماء القبلي مجرد رابطة اجتماعية، بل أصبح معياراً لتحديد فرص النجاة، والحصول على الخدمات، وفرض الحماية، والتمثيل السياسي. وصار تعريف الفرد يقوم على أسئلة الانتماء: من أنت؟ ومع من تقف؟ وضد من؟. هذا التحول استجابة قسرية لواقع طاحونة العنف؛ حيث دفعت الحاجة إلى الأمان المجتمعات إلى الاحتماء بانتماءاتها الأولية. ولكن هذا المسار، مهما بدا منطقياً في سياق الحرب، يحمل خطراً بالغاً: فحين تُختزل الهوية في بندقية، والانتماء في خندق، يصبح بناء السلام صعباً ما لم يُنزَع السلاح من القبائل، وما لم تُعاد صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة على أسس مدنية.
إستغلال الانتماء القبلي وتأكل الدولة:
تختلف القبيلة في ذاتها عن القبلية، فالقبيلة معطى اجتماعي وثقافي طبيعي، أما القبلية فهي استغلال الانتماء القبلي لتحقيق النفوذ، وتوزيع المناصب، والتحشيد، والضغط على الدولة. فالخطر يبدأ عندما يتحول الانتماء القبلي من رابطة اجتماعية إلى مدخل للسلطة أو معيار للشرعية. وعندها تصبح القبيلة “جماعة وظيفية” تُستخدم لخدمة مصالح سياسية محددة. هذا المسار تعمق خلال نظام الانقاذ، إذ اعتمد على القبيلة بوصفها جزءاً من شبكات النفوذ، ودمج التوازنات القبلية في التعيينات الحكومية، بل أسس ميليشيات مسلّحة تُعرِّف نفسها وفق انتماء قبلي محدّد. وأصبحت بعض الوفود القبلية تتوجه إلى الخرطوم للمطالبة بنصيبها من السلطة، تحت ذريعة أن القبيلة لا ترى نفسها ممثلة في الحكومة.
هذه الديناميكية لم تكن تعبيراً عن قوة القبيلة بقدر ما كانت تعبيراً عن ضعف الدولة، وعن تسييس متعمد للانتماءات الأولية، باستخدم مفهوم تقاسم السلطة والثروة بطريقة تعزز الولاءات بدلاً من معالجة المظالم، فزاد من تعقيد المشهد السياسي، وعمّق الانقسامات، وفتح الباب أمام عسكرة القبائل. ففي الحرب الدائرة اليوم، بلغت القبلية مستوى غير مسبوق من التسييس والعسكرة، إذ أعادت تشكيل خارطة الولاءات على أسس اجتماعية وهوياتية حادة، سواء من خلال الاصطفاف المسلح، أو عبر حواضن الدعم اللوجستي والاجتماعي لهذا الطرف أو ذاك. ومع توسع رقعة الحرب، وجد المواطنون أنفسهم أمام فراغ أمني كامل، ما دفع كثيراً من المجتمعات إلى الاحتماء بانتماءاتها القبلية، ليس فقط بوصفها هوية ثقافية، بل باعتبارها ملاذًا للبقاء ووسيلة للحماية، وبرزت في سرديات العدو القبلي والثأر التاريخي، وتم توظيفها في حملات التعبئة والتحشيد، كما لعب الخطاب الإعلامي الموجَّه دوراً في إعادة إنتاج ثنائية “نحن” و”هم”، بما عمّق الانقسام الاجتماعي، وأضعف قدرة المجتمع على بناء جبهة سلمية موحدة في وجه الحرب، ورغم أن هذه التعبئة لم تحقق إجماعاً كاملاً، فإنها نجحت في استقطاب بعض المكونات القبلية، مما أسهم في تعميق الانقسامات الإثنية والجهوية بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث. الخطورة تكمن في إن عسكرة القبيلة لا تهدد فقط النسيج الاجتماعي، بل تهدد بقاء الدولة نفسها، لأن الولاءات المسلحة عادة أقوى من الولاءات السياسية، ولأن السلاح يُنشئ واقعاً تتراجع فيه سلطة القانون.
القبيلة وفخ القبلية:
لا يمكن فهم التحول القبلي في السودان بمعزل عن جذوره الاجتماعية. فالأزمة الحالية نتاج عقود من التهميش للمناطق الطرفية، التفاوت الاقتصادي الحاد، غياب التنمية، ضعف المؤسسات السياسية، انسحاب الدولة من الريف وغياب مشروع وطني متفق عليه، هذه العوامل خلقت فراغاً مثالياً لنشوء ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بـ”الجماعات الوظيفية” التي تعمل في سياق الانهيار بوصفها بدائل للدولة، تقوم بأدوار أمنية أو اقتصادية أو سياسية.
بالتاكيد ليس المطلوب، ولا الممكن، إلغاء القبيلة، فهي مكون أصيل من النسيج الاجتماعي، ورافعة ثقافية وتاريخية لها وظائف مستمرة في فض النزاعات، وحفظ التقاليد، وتنظيم التضامن الاجتماعي. لكن المطلوب هو إعادة تعريف دورها بحيث تبقى مؤسسة اجتماعية، لا أداة سياسية، وهذا يستدعي مقاربة جديدة لإعادة بناء العقد الاجتماعي ومعالجة آثار العسكرة العميقة التي أصابت المجتمع. فالإشكال لا يكمن في القبيلة نفسها، بل في القبلية السياسية التي توزع المناصب وتحدد الشرعية وتُحرك الصراع وتُؤسس للتمييز وتعيد إنتاج الاستقطاب. أما القبيلة فهي جزء من النظام الاجتماعي، ولا ينبغي أن تكون نقيضاً للدولة أو بديلاً عنها.
أفق الحل الممكن:
لتحويل القبيلة من عنصر صراع إلى عنصر استقرار، ووضع علاقتها مع الدولة في إطارها الصحيح، يحتاج السودان في اليوم التالي للحرب إلى مشروع وطني شامل، ومن أبرز مداخله :
1.تحييد القبيلة سياسياً دون تهميشها اجتماعياً عبر وضع هياكل داخلية، وبرامج للتكافل والتنمية، مع منع تحويلها إلى قنوات للمحاصصة السياسية.
2.تفكيك عسكرة الهوية بنزع السلاح من الجماعات ذات الولاء القبلي، ودمج أفرادها في مؤسسات وطنية.
3.اجراء مصالحات قبلية تمهّد لمصالحة وطنية لأن النزاعات القبلية إذا تُركت دون معالجة ستظل تفجّر أي اتفاق سياسي لاحق.
4.تمكين القبائل في التنمية المحلية وفق نظام فدرالي حقيقي عبر مؤسسات مجتمعية قوية، ومشاريع خدمات تُعيد للقبيلة دورها الاجتماعي الطبيعي.
5.عقد مؤتمر الادارة الاهلية لتاطير دورها في البناء الوطني وتعزيز اعراف القلد والأجادويد وتطوير مفاهيم الفزع والنفير وتطوير العرف بما يضمن حكم القانون وبما يحقق السلام والتعايش والتسامح.
6.إشراك المجتمع الاهلي في مائدة الحوار المستديرة للإسهام في الاجابة على اسئلة التأسيس المصيرية وإعادة صياغة العقد الاجتماعي والمشروع الوطني القائم على أساس الحقوق والواجبات المتساوية، وارساء قواعد المشاركة العادلة في السلطة والثروة التي تحترم التعددية وتمنع احتكار السلطة عبر الانتماءات الضيقة.
ختاماً: الحرب الحالية تطرح سؤالاً وجودياً: كيف نبني وطنًا لا تُقسمه الولاءات الأولية، ولا تحكمه العصبيات، ولا تتوزّع مؤسساته وفق خارطة القبائل؟، القبيلة ستبقى جزءاً أصيلاً من الذاكرة والهوية، لكن القبلية يجب أن تنتهي. فالمطلوب بناء دولة قوية وعادلة، تستوعب الانتماءات دون أن تخضع لها، وتمنح المواطنة مكانتها كهوية جامعة، وترسم مستقبلاً لا تُدار فيه السياسة بالبندقية، ولا تُحدَّد فيه الحقوق بالانتماء القبلي. فالسودان لا يحتاج إلى وقف الحرب فقط، بل يحتاج إلى وعي حقيقي بضرورة عقد اجتماعي جديد يبنى على العدالة والمواطنة وسيادة حكم القانون.