◄ اللواتي: تأثيرات المخاطر الجيوسياسية على الاقتصاد أكثر تعقيدًا من العوامل الأخرى

◄ ضرورة تعزيز استخدامات نماذج الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالمخاطر

إدارة المخاطر ليست خيارًا إداريًا.. وإنما ثقافة وطنية يجب غرسها

◄ السناني: ضرورة تضمين اللوائح التنفيذية للقوانين وإنشاء إدارات للمخاطر

◄ الخالدي: مخاطر الاعتماد على البنى السحابية الخارجية تُهدد الأمن السيبراني

 

الرؤية- سارة العبرية

أجمع خبراء ومختصون على ضرورة تبني منهجيات متكاملة لإدارة المخاطر؛ باعتبارها ركيزة أساسية لتعزيز مرونة الاقتصاد الوطني في مواجهة الأزمات المالية والجيوسياسية.

وقالوا- في تصريحات لـ"الرؤية"- إنَّ التحولات التي يشهدها الاقتصاد العُماني تتطلب ترسيخ ثقافة التخطيط لمواجهة المخاطر، في المؤسسات الحكومية والخاصة على حدٍّ سواء؛ لضمان استدامة النمو وتحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040" وتطلعات المجتمع.

 

وقال الدكتور حيدر بن عبدالرضا اللواتي الكاتب في الشؤون الاقتصادية إن أي اقتصاد يسعى إلى الاستدامة والمرونة في مواجهة الصدمات كما هو الحال في الاقتصاد العُماني، خاصةً بعدما تعرّض لعدة صدمات خلال العقود الأخيرة الماضية؛ بسبب تذبذب أسعار النفط العالمية وتراجعها في بعض الأوقات بصورة كبيرة، إلى جانب الأزمات المالية والمناخية، واشتعال التنافسية بين الدول، إلى جانب تطورات الأوضاع الجيوسياسية. وأضاف اللواتي أن اقتصاد سلطنة عُمان ما يزال يعتمد بصورة كبيرة على مورد واحد وهو النفط، على غرار معظم دول المنطقة، لكنه يواجه في الوقت نفسه تحديات كبيرة في جهود التنويع الاقتصادي.  وشدد على أنه في حالة وضع استراتيجية وطنية واضحة لإدارة المخاطر ضمن السياسات الاقتصادية، فإن القدرة على إدارة هذه المخاطر ستزيد. وبيّن أنه في ظل المخاطر المتعددة في الدول ذات الاقتصاد الريعي، فإن الحاجة ماسَّة لتبني "استراتيجية موحدة ومتكاملة" لإدارة المخاطر والتعامل مع التحديات الآنية والمستقبلية.


 

وذكر اللواتي أن الحكومة طرحت العديد من المبادرات والبرامج في هذا الشأن؛ أبرزها وضع خطة التوازن المالي (2020- 2024) والتي كانت بمثابة إطار عام لإدارة المخاطر المالية؛ بهدف تقليل الاعتماد على النفط، وضبط الإنفاق العام، وتحسين كفاءة الإيرادات غير النفطية، وخفض العجز والدين العام تدريجيًا.

وأضاف أن الحكومة تعمل كذلك على توظيف منهجيات إدارة المخاطر في تحديد ومواجهة التحديات الاقتصادية للتقليل من الآثار السلبية للأزمات الاقتصادية وتحقيق استقرار نسبي من خلال مواجهة التضخم وارتفاع الأسعار، والسيطرة على تقلبات سعر الصرف، والحد من الركود الاقتصادي، إلى جانب تغيير السياسات الحكومية أو الضريبية، ومواجهة اضطرابات سلاسل الإمداد، وانخفاض القوة الشرائية في المجتمع.

التحديات الاقتصادية

وأكد اللواتي أن منهجيات إدارة المخاطر توفّر إطارًا مُنظَّمًا لمواجهة التحديات الاقتصادية بتقليل آثارها وتعزيز قدرة الأفراد والمؤسسات على التكيّف والاستمرار، مشيرًا إلى أنه لا يمكن حصرها في حلول فورية؛ بل من خلال أدوات للتخطيط الاستباقي والتفاعل الذكي مع المتغيرات.

وردًا على سؤال عما إذا كانت المؤسسات العُمانية تمتلك القدرة على التنبؤ بالمخاطر العالمية مثل الأزمات الجيوسياسية أو التضخم العالمي وانعكاساتها على الاقتصاد المحلي، قال اللواتي إن جميع الأجهزة المعنية بالدولة مُدركة لتأثيرات المخاطر العالمية على الاقتصاد المحلي نتيجةً لعدد من التجارب السابقة التي مرت بها الدولة خلال العقود الخمسة الماضية؛ سواءً تلك التي تتعلق بتراجع أسعار النفط العالمية وتأثيراتها السلبية على المالية العامة، أو الصعوبات التي تنجم عن ذلك في الالتزام بالدفوعات المالية للمؤسسات في الداخل والخارج، أو فيما يرتبط بموضوع الكوارث البيئية والمناخية، وأخيرًا التحديات ذات الصلة بانتشار الأوبئة المرضية مثل "كوفيد-19".

وأشار إلى "أن الاقتصاد العُماني يعتمد بدرجة كبيرة على النفط والغاز، وهذا يسهّل توقع بعض الصدمات مثل تراجع أسعار النفط، لكنه يجعل التنبؤ بالمخاطر الجيوسياسية أو التضخم العالمي أكثر تعقيدًا". غير أنه استدرك بالقول إن هناك تطورًا في تدريب الكوادر العُمانية بمجالات التحليل الاقتصادي والاستشراف الاستراتيجي، وفي الوقت نفسه ما تزال الحاجة قائمة لتعزيز استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل السيناريوهات في التنبؤ بالمخاطر.

ترسيخ إدارة المخاطر

ويرى اللواتي "أن من المناسب إنشاء شبكات بحثية مشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات الأكاديمية؛ لزيادة دقة التنبؤ بالمخاطر العالمية، والعمل على الاستدامة الاقتصادية والسيادة الوطنية في زمن الاضطرابات العالمية". وقال إن إدارة المخاطر ليست خيارًا إداريًا؛ بل ثقافة وطنية يجب أن تتجذر في كل مؤسسة تُسهم في بناء الاقتصاد العُماني. فنحن نشاهد يوميا عالم تتسارع فيه الأزمات الجيوسياسية، والتقلبات الاقتصادية، وتغير المناخ، وتصبح القدرة على التنبؤ بالمخاطر والتعامل معها بمرونة من أهم عناصر التنافسية الوطنية.

وتابع بالقول إن تجاهل المخاطر أو الاكتفاء بردود الأفعال بعد وقوعها يعني خسارة فرص، وزيادة في كلفة التصحيح، وتراجعًا في ثقة المستثمرين والأسواق، داعيًا الجهات الحكومية للاهتمام بإدارة المخاطر وجعلها جزءًا من التخطيط الاستراتيجي وليس مجرد إجراء رقابي.

ويقترح اللواتي أن تؤسس الحكومة مراكز وطنية متخصصة في استشراف المستقبل وتحليل السيناريوهات في مختلف القطاعات، مع الاعتماد على البيانات والتحليل الكمي في صنع القرار بدلًا من التقديرات الحدسية.

القانون المالي

من جانبه، أكد المحامي نصر بن حمود السناني أهمية دمج إدارة المخاطر عمليًّا في تطبيق القانون المالي، وذلك من خلال نهج متكامل يبدأ بتحديد المخاطر المالية والرقابية الرئيسية التي تواجه الجهات الحكومية والخزانة العامة للدولة؛ مثل: تقلب الإيرادات، والالتزامات المحتملة، والإنفاق الزائد، والاحتيال، أو ضعف الرقابة الداخلية، بحيث تُدرج هذه الجوانب في اللوائح التنفيذية والأنظمة الداخلية للجهات المعنية. وقال إنه يجب تضمين متطلبات إدارة المخاطر في اللوائح التنفيذية للقانون؛ حيث يُمكن للوزير من خلال اللوائح أن يُلزم الجهات المنضوية تحت مظلة القانون، بوضع إطار لإدارة المخاطر، وتعيين لجنة أو مسؤول مختص، وإجراء تحليل سنوي للمخاطر، وإعداد خطة استجابة ومراجعة دورية لتأثيرها، إضافة إلى تضمين تقارير عن المخاطر المالية ضمن الحسابات الختامية أو الموازنة العامة.


 

ويرى السناني أن ربط الميزانية والتخطيط المالي بتحليل المخاطر يُعد خطوة أساسية، بحيث تُلزم الجهات عند إعداد ميزانياتها التقديرية بإرفاق تحليل للمخاطر المحتملة التي قد تؤثر على الإيرادات أو النفقات، مما يساعد الوزارة أو المجلس المالي في مراجعة الخطط من منظور أكثر واقعية. وأضاف أن دمج الضوابط والرقابة الداخلية مع إدارة المخاطر يتسق مع توصيات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ إذ يمكن إنشاء وحدات متخصصة لإدارة المخاطر تتعاون مع التدقيق الداخلي وتعد تقارير دورية للمسؤولين عن الإنفاق حول مستوى المخاطر والإجراءات المتخذة.

وتابع القول إن الرقابة الفعّالة تتطلب مراقبة مستمرة وإعداد تقارير دورية عن المخاطر وتأثيرها، مشيرًا إلى أن القانون المالي يمنح الوزارة صلاحية إصدار تعليمات لتنظيم الرقابة والتحقق من الإيرادات والمصروفات؛ بما في ذلك توجيه الجهات لإعداد تقرير سنوي عن المخاطر المالية يتضمن التقييم وخطط التخفيف والنتائج المحققة. ويؤكد السناني أهمية تثقيف وبناء قدرات العاملين في الجهات الحكومية على مفاهيم تحليل وإدارة المخاطر، وتزويدهم بالأنظمة التقنية ومؤشرات الأداء اللازمة لرصد المخاطر في الوقت المناسب.

ويقترح السناني ربط المكافآت ونتائج الأداء بمدى فعالية إدارة المخاطر، بما يضمن التشجيع على تبني ثقافة وقائية تسهم في تقليل المفاجآت المالية وتعزيز الانضباط المؤسسي، في حين تضمن المراجعة المستقلة من قبل وحدات التدقيق الداخلي أو الأجهزة الرقابية الوطنية تقييم فعالية الأطر المعتمدة وتحسينها بشكل مستمر استنادًا إلى التجارب السابقة والمستجدات المستقبلية.

ويشدد المحامي نصر بن حمود السناني على أن تحقيق مُستهدفات رؤية "عُمان 2040" يتطلب ترسيخ ثقافة التخطيط بالمخاطر لدى القيادات وصُنَّاع القرار، من خلال دمج تقييم المخاطر في جميع مراحل صياغة السياسات والمشروعات الحكومية، وتدريب القيادات على تحليل السيناريوهات والتعامل مع الأزمات بمرونة واحترافية، إضافة إلى ربط إدارة المخاطر بالتخطيط الاستراتيجي والأداء المؤسسي لضمان استدامة النتائج. ويدعو السناني إلى إنشاء هيئة أو وحدة وطنية للمخاطر تتولى تنسيق الجهود بين مختلف الجهات، وتوحيد المعايير، وتعزيز الشفافية عبر الإفصاح الدوري عن المخاطر والتحديات التي تواجه مؤسسات الدولة، واستخدام الأنظمة الرقمية والتحليل الاستباقي لرصد أي مؤشرات قد تؤثر في الاستقرار المالي أو الإداري للدولة.

ويؤكد السناني أن تبنّي نهج مؤسسي لإدارة المخاطر لا يُعد مجرد وسيلة لمواجهة الأزمات؛ بل هو أداة استراتيجية للتخطيط الواعي وصنع القرار الرشيد؛ بما يُسهم في رفع كفاءة الإنفاق العام وتحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات وتعزيز الثقة في مؤسسات الدولة. وحث على ترسيخ ثقافة إدارة المخاطر في أنظمة الجهات الحكومية والخاصة من خلال تطوير القدرات البشرية، ووضع سياسات واضحة، وتبادل الخبرات بين القطاعات، مشيرًا إلى أن ذلك يمثل خطوة أساسية نحو بناء اقتصاد وطني مرن وقادر على التكيّف مع المتغيرات وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

التحول الرقمي

من جهته، تحدث صالح بن عبيد الخالدي مستشار وقيادي في قطاع التقنية والاتصالات، عن ماهية المخاطر الجديدة في الاقتصاد الرقمي، قائلًا إنها تشمل الأمن السيبراني والجرائم المالية مثل ارتفاع هجمات الفدية، واختراقات سلاسل التوريد، والهجمات على أنظمة التشغيل الصناعية في قطاعات حيوية كالمياه والطاقة والموانئ، إضافة إلى مخاطر البيانات والخصوصية الناتجة عن تسرب البيانات الحسّاسة وضعف تصنيفها وحوكمتها وتحديات الامتثال لتشريعات حماية البيانات وتوطينها.


 

وأضاف الخالدي أن مخاطر الاعتماد المُركّز على البنى السحابية، تتزايد نتيجة تركّز الخدمات لدى مزوّدين محدودين؛ مما يُسبِّب مخاطر نظامية، إلى جانب فجوة المهارات والتحوّل التكنولوجي التي تتجلى في نقص الكفاءات ومقاومة التغيير والتحول الشكلي الذي يضيف تكاليف دون قيمة حقيقية، وتشمل أيضًا مخاطر الخوارزميات؛ مثل: التحيّز، والقرارات غير القابلة للتفسير، وتضارب المسؤوليات القانونية عند استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، فضلًا عن الفجوة الرقمية للمؤسسات الصغيرة بسبب ارتفاع الكلفة النسبية للامتثال والأمن، ما يُهدِّد تنافسية الشركات الصغيرة والمتوسطة.

ويشير الخالدي إلى أن الذكاء الاصطناعي والتحليلات التنبؤية يقدمان حلولًا متقدمة في هذا السياق؛ إذ يتيحان الإنذار المبكر والمراقبة الآنية من خلال نماذج ترصد الاختلالات والهجمات في الزمن الحقيقي عبر الشبكات والأنظمة الصناعية، كما تسهم نظم مكافحة الاحتيال والامتثال في التعرف على أنماط الاحتيال المالي وغسل الأموال ومخاطر الطرف الثالث عبر خوارزميات التعلُّم الآلي.

وأوضح الخالدي أن التحليلات الاقتصادية الكليّة تساعد على تتبع المؤشرات عالية التواتر، مثل: المعاملات والشحن والاستهلاك والأخبار، لإنتاج لوحات خطر مدعومة بتنبؤات قصيرة ومتوسطة الأجل. وذكر أن لوحات الخطر (Risk Dashboards) التي تُستخدم لمراقبة المؤشرات الاقتصادية أو التشغيلية لا تكتفي بعرض البيانات الحالية فقط؛ بل تكون مدعومة بتحليلات تنبؤية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتقدير ما قد يحدث خلال الفترات المقبلة، مثل توقع تقلبات الأسواق، أو احتمالات حدوث أزمات مالية، أو تغيّرات في الطلب والاستهلاك خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني

بالنظر إلى التطورات المتسارعة في المشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي، تبدو اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند خطوة تحمل طابعًا استراتيجيًا واسع التأثير، ليس فقط من حيث تعزيز التبادل التجاري، بل من حيث إعادة صياغة الدور الاقتصادي لسلطنة عمان على مدى السنوات المقبلة. فالمؤشرات الأولية القائمة اليوم تُظهر أن التعاون بين البلدين آخذ في النمو بوتيرة ثابتة، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية خلال العام المالي 2024-2025 ما يقارب 10.61 مليار دولار، وهو رقم يعكس علاقة اقتصادية راسخة قابلة للتوسع بمجرد تفعيل الاتفاقية المرتقبة. ويأتي ذلك في وقت تتطلع فيه سلطنة عُمان إلى اقتصاد أكثر تنوعًا، وأكثر قدرة على المنافسة، وأكثر انفتاحًا على الأسواق الآسيوية والعالمية.

وإذا ما نظرنا إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فإن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لعُمان يمنحها نقطة قوة محورية. فالموانئ العُمانية مثل صلالة والدقم وصحار لا تُعد بوابات بحرية عادية، بل منصات إقليمية ذات قدرة عالية على خدمة التجارة الدولية وربط آسيا بأفريقيا والخليج وأوروبا. وفي حال اكتملت اتفاقية CEPA، فإن هذه الموانئ لن تكون مجرد نقاط عبور للسلع العُمانية أو الهندية، وإنما محاور لوجستية تجذب الاستثمارات الصناعية والخدمية، وتدعم حركة إعادة التصدير، وتُسهم في بناء منظومة اقتصادية تُضاعف القيمة المضافة داخل سلطنة عُمان. ومن شأن هذه المنظومة أن تُعيد تشكيل قطاعات واسعة تتعلق بالنقل والتخزين والخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية، الأمر الذي ينعكس على توسيع فرص العمل وتحسين نوعية الأنشطة الاقتصادية.

ومع أن الاتفاقية تفتح آفاقًا واسعة أمام التجارة في الاتجاهين، إلا أن الجانب الأكثر أهمية لسلطنة عمان يكمن في تعزيز الصناعات المحلية. إذ تستهدف عُمان ضمن رؤيتها 2040 بناء اقتصاد متنوع قائم على الصناعة والتكنولوجيا والخدمات المتقدمة، وليس اقتصادًا يعتمد على سلعة واحدة. ومع الحصول على نفاذ تفضيلي إلى سوق تتجاوز قوامها 1.4 مليار نسمة، فإن مجالات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألمنيوم، الأسمنت، الرخام، المنتجات الزراعية، والمنتجات التقليدية العُمانية يمكن أن تشهد توسعًا نوعيًا في صادراتها. هذه الأسواق الضخمة لا تستوعب المنتجات فحسب، بل تحفّز أيضًا الصناعات المحلية على رفع مستويات الجودة، وتحسين سلاسل الإنتاج، وزيادة الطاقة التشغيلية، وإيجاد مساحات أكبر للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تطمح إلى التصدير.

ومن زاوية مستقبلية، يمكن اعتماد سيناريويهن لتقدير أثر الاتفاقية على حجم التجارة الثنائية: سيناريو متحفظ يفترض نموًا سنويًا بمتوسط 8%، وسيناريو تفاؤلي يفترض نمواً بمتوسط 12%، وذلك مقارنة بمعدل النمو الطبيعي للتجارة الذي يدور حول 3%. وبناء على هذه الحسابات، يمكن أن يرتفع حجم التجارة الثنائية من 10.6 مليار دولار اليوم إلى ما يقارب 15.6 مليار دولار خلال خمس سنوات في السيناريو المتحفظ، وإلى ما يتجاوز 18.7 مليار دولار في السيناريو المتفائل. ومع استمرار النمو لعشر سنوات، يمكن أن يصل الحجم التجاري بين البلدين إلى نحو 23 مليار دولار في السيناريو المتحفظ، فيما قد يصل إلى قرابة 33 مليار دولار في السيناريو التفاؤلي. وهذه القفزات المحتملة لا تأتي فقط من زيادة حجم المبادلات التقليدية، بل من توسع في الصناعات التحويلية، والاستثمار في خطوط إنتاج جديدة تستهدف السوقين معًا.

ومن شأن هذه التحولات أن تُعيد تشكيل الاقتصاد العُماني ليصبح أكثر مرونة في مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر قدرة على النمو الذاتي من خلال الإنتاج المحلي والصناعات الوطنية. ومع ازدياد النشاط اللوجستي، وتوسع المناطق الحرة، وتجدد الاستثمارات الصناعية، سيكون لعُمان موقع جديد على خارطة التجارة العالمية، موقع يعكس قدرتها على استغلال مواردها الجغرافية والبشرية والاقتصادية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام. وإذا ما وُظفت هذه الفرص بالشكل الصحيح - عبر التخطيط، وإدارة الموارد بكفاءة، وتطوير التشريعات، وتحفيز الكفاءات الوطنية - فإن السنوات العشر المقبلة قد تشهد تحولًا جذريًا في شكل الاقتصاد العُماني وحجمه.

بينما تتعمق سلطنة عُمان في توسيع شراكاتها الدولية، تمثّل اتفاقية التجارة الحرة مع الهند نقطة تحول قادرة على إطلاق موجة جديدة من النشاط الاقتصادي الذي يترابط فيه التصنيع بالتجارة، ويُكمل فيه الاستثمار اللوجستيات، ويتقاطع فيه النمو الصناعي مع توسع أسواق التصدير. فالعلاقة مع الهند ليست علاقة تجارية عابرة، بل علاقة راسخة تستند إلى تاريخ طويل من التبادل والتداخل الاقتصادي والثقافي، ما يجعل الاتفاقية القادمة امتدادًا طبيعيًا لمسار مشترك يتطور باستمرار. ويُتوقع أن تشكل الاتفاقية حافزًا لعدد من القطاعات التي كانت تتطلع إلى الوصول إلى أسواق أكبر، وفي مقدمتها القطاعات الصناعية التحويلية التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة في سلطنة عُمان، وتستهدف خلق قيمة مضافة قبل التصدير.

ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيو-اقتصادية عميقة تتجه فيها دول عديدة إلى تعزيز الاندماج الإقليمي والانفتاح على آسيا، ما يجعل توقيع الاتفاقية مع الهند خطوة تجسد فهمًا استراتيجيًا لموازين القوى الاقتصادية الجديدة. فالهند اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وضمن أكبر خمس اقتصادات عالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ وبالتالي، فإن تأسيس شراكة اقتصادية شاملة معها يضع عُمان ضمن شبكة اقتصادية صاعدة ستعيد تشكيل مسارات التجارة خلال العقود المقبلة. ومن خلال هذه الشبكة، يمكن لسلطنة عمان أن تعمّق دورها كمركز إقليمي للتجارة والخدمات الصناعية، وأن تستفيد من الطلب الهائل في الهند على المواد الخام والمنتجات الصناعية والسلع الاستهلاكية.

وإذا ما نظرنا إلى تأثير الاتفاقية على الشركات الصغيرة والمتوسطة في عُمان، سنجد أن CEPA قد تكون فرصة تاريخية لهذه الفئة من الشركات لتوسيع آفاق أعمالها. فالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الاقتصاد الوطني، وتحتاج إلى بيئة تجارية تدعم منتجاتها وتمكنها من الوصول إلى أسواق جديدة. ومع تيسير الإجراءات الجمركية، وتخفيض الرسوم، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق، يمكن لهذه الشركات أن تجد في السوق الهندية منفذًا واسعًا لتسويق منتجاتها، سواء في قطاعات الأغذية، أو المنسوجات، أو المنتجات العطرية، أو الصناعات التقليدية. وهذه النقلة يمكن أن تُسهم في خلق ثقافة تصدير أقوى، وترسيخ روح المبادرة، وتعزيز الابتكار داخل الشركات العمانية.

أما على مستوى الأمن الغذائي، فإن الهند ـ باعتبارها قوة زراعية ضخمة ـ يمكن أن تكون شريكًا استراتيجيًا لسلطنة عمان في تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة. ومع تسهيل الاستيراد عبر CEPA، يمكن لعُمان أن تؤمن سلة غذائية متنوعة بأسعار تنافسية، ما يرفع من مستوى الاستقرار الغذائي ويعزز من قدرة السوق المحلي على مواجهة تقلبات الأسعار العالمية. وفي المقابل، يمكن للمنتجات العمانية الفريدة - مثل التمور واللبان ومنتجات الرخام - أن تجد طريقها إلى منافذ البيع الهندية بطريقة أكثر سلاسة، وهو ما يشكل مكسبًا اقتصاديًا وثقافيًا في آن واحد. ومع توسع المبادلات التجارية وتحسن كفاءة سلاسل الإمداد، ستصبح عُمان مركزًا لوجستيًا أكثر جاذبية للشركات العالمية التي تبحث عن نقطة ارتكاز بين آسيا وأفريقيا والخليج. ويمثل هذا التحول فرصة كبيرة للقطاع الخاص العماني الذي يمكنه استثمار هذا الموقع عبر إنشاء مراكز تخزين وتوزيع حديثة، وتطوير شبكات نقل، وإطلاق خدمات لوجستية متقدمة تدعم التجارة العابرة للقارات. وهذا التحسين في أداء الموانئ والمناطق الحرة سيؤدي إلى دوران اقتصادي أسرع داخل سلطنة عمان، ويُعزّز إيرادات الدولة من الأنشطة المرتبطة بالنقل والموانئ والجمارك والخدمات المساندة.

وفي ضوء هذه المعطيات المتداخلة، ومع ما تحمله المؤشرات الاقتصادية من دلالات واضحة على اقتراب مرحلة جديدة في العلاقات العمانية الهندية، تبدو سلطنة عمان أمام منعطف تاريخي يمكن أن يغيّر مسار اقتصادها خلال العقد المقبل. فكل الأرقام، وكل التوجهات، وكل السيناريوهات المستقبلية تشير إلى أن تفعيل اتفاقية CEPA لن يكون مجرد حدث اقتصادي عابر، بل نقطة انطلاق نحو دورة نمو أكثر نضجًا وجرأة وتنوعًا. ومن المتوقع، إذا ما سارت الأمور وفق الإيقاع الذي ترسمه اليوم المعطيات، أن تتضاعف التجارة الثنائية خلال سنوات قليلة، وأن تتجاوز حاجز 20 مليار دولار في منتصف العقد القادم، وربما تقترب من 30 مليار دولار خلال عشر سنوات، في حال استفادت سلطنة عمان إلى أقصى حد من مزايا التموضع الجغرافي والتكامل الصناعي مع الهند.

ولا تقف التوقعات عند حدود التجارة وحدها، بل تمتد إلى الصناعات التحويلية التي يُرجّح أن تشهد توسعًا ملحوظًا، خاصة تلك المعتمدة على المعادن والبتروكيماويات والمواد البنائية، إلى جانب فرص متنامية في الصناعات الخضراء والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصناعية. ومع بروز الموانئ العُمانية كمراكز توزيع إقليمية، يتوقع أن تتسارع حركة الاستثمار في المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة، بما يعيد تشكيل الخريطة اللوجستية في المنطقة، ويجعل من سلطنة عمان محطة رئيسية في سلاسل الإمداد بين آسيا والخليج وأفريقيا.

وعلى مستوى سوق العمل، تشير التقديرات المستقبلية إلى إمكانية خلق الوظائف النوعية التي يمكن أن تمنح الشباب العُماني فرصًا غير مسبوقة للاندماج في قطاعات صناعية وتقنية جديدة، وترفع من مستوى المهارات الوطنية، وتدعم مسار التوطين في القطاع الخاص. ومع اتساع رقعة التصنيع والتصدير، ستنشأ احتياجات موازية في قطاع الخدمات والتعليم والتقنية، ما ينتج دورة اقتصادية متكاملة ترفد بعضها بعضًا، وتُرسي قواعد نمو متواصل ومستقر.

أما على المدى الطويل، فإن تفعيل الاتفاقية قد يمهد لمرحلة يصبح فيها الاقتصاد العُماني أكثر قدرة على مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر استعدادًا لاستيعاب التحولات التقنية والبيئية والاقتصادية. ومع استمرار التنويع، وتوسّع الصادرات، وتعاظم دور سلطنة عمان كمركز لوجستي محوري، يمكن لعُمان أن تنتقل من موقع المنافس الإقليمي إلى موقع اللاعب الفاعل في التجارة الدولية. وقد نشهد خلال عشر سنوات اقتصادصا عمانيًا متجددًا، واسع القاعدة الإنتاجية، متصلًا بشبكات التجارة العالمية، ومتقدمًا بخطى ثابتة نحو تحقيق رؤية عُمان 2040 بوصفها رؤية طموحة لاقتصاد مرن، مبتكر، ومستدام.

من الناحية النوعية، يشير هذا النمو إلى زيادة الصادرات غير النفطية، حيث من المتوقع أن تستفيد قطاعات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألومنيوم، الأسمنت، الرخام، اللبان، والتمور من تحسن سلاسل التوريد وفتح الأسواق الهندية. النمو في هذه القطاعات، الذي بدأ يظهر بالفعل في بيانات 2025، يعكس قدرة الاقتصاد العُماني على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. عمليا، إذا ارتفعت الصادرات غير النفطية بمعدل يتراوح بين 6% و12% سنويا نتيجة النفاذ إلى السوق الهندي وتحسين اللوجستيات، فإن هذا سيترجم إلى زيادة ملموسة في حصيلة التبادل التجاري الكلي.

تحقيق السيناريو التفاؤلي يتطلب مجموعة من العوامل التمكينية، أبرزها تسريع عمليات التصديق والتوقيع والتنفيذ للاتفاقية مع وضع آلية متابعة مشتركة لضمان تطبيق بنود التفضيل الجمركي وإزالة العوائق الإجرائية. كما يشمل تطوير البنية التحتية اللوجستية للموانئ والمناطق الحرة ومرافق التخزين والتبريد وطرق الربط الداخلي لالتقاط الطلب المتزايد.

كذلك، تعد الحوافز الاستثمارية للقطاعات ذات القيمة المضافة وبرامج التدريب الفنيّة من العناصر الأساسية لضمان استدامة النمو الصناعي. إضافة إلى ذلك، فإن إقامة تحالفات تجارية وشراكات تسويقية مع موزعين هنود يسهم في تسهيل النفاذ إلى الأسواق الهندية على مستوى المدن والمناطق، بينما تتيح حزم الدعم للصادرات الصغيرة والمتوسطة وصول المنتجات العُمانية إلى رفوف السوق الهندي بفعالية وجودة تنافسية.

بشكل عام، تشير هذه التقديرات إلى أن تفعيل CEPA يشكل فرصة استراتيجية لعُمان لتعزيز التجارة الثنائية، تنويع الاقتصاد، جذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل واسعة، ما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتقليل الاعتماد على النفط، مع تعزيز قدرة سلطنة عمان على تأدية دور متنامٍ في التجارة الإقليمية والدولية.

مقالات مشابهة

  • انطلاق “قمة إسطنبول الاقتصادية” بنسختها التاسعة
  • شراكة بين "RIQ" و"سويس ري" لتعزيز حلول الذكاء الاصطناعي
  • «قمة بريدج» تستقطب خبراء الذكاء الصوتي العالميين لتعزيز شراكات الابتكار
  • خطوات الوطن الاقتصادية فوق صخب الظنون
  • اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني
  • شراكة بين «آر آي كيو» و«سويس ري» لتعزيز الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي
  • مجلس النواب يشارك في مائدة خبراء لتعزيز «المساواة» بين الجنسين
  • وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي تبحث مع مدير عام منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) الجهود المشتركة لتعزيز الأمن الغذائي في إطار البرنامج القُطري للمنظمة وتفعيل الأكاديمية الإقليمية للقي
  • «هيئة الرقابة» تطلق منصة رقمية لتعزيز الشفافية المالية
  • الفجوة بين المؤشرات الاقتصادية والواقع الفعلي للناس