وجعٌ يكشف ما أُخفي
تاريخ النشر: 24th, November 2025 GMT
حمود بن سعيد البطاشي
لا تمرُّ الأوطان من دون لحظاتٍ تطرق فيها الفاجعة أبواب القلوب، لكنها، في كثير من الأحيان، تأتي لتكشف ما تراكم خلف الأسوار الصامتة من قضايا مؤجلة وهموم لا تُقال. فاجعة أسرة العامرات التي رحلت عن دنيانا في مشهد موجع لا ينسى، كانت واحدة من تلك اللحظات التي وقفت أمامها عُمان كلها- من شمالها إلى جنوبها- حزينة، متأملة، ومصغية لرسالة لا يمكن تجاهلها.
إن رحيل أسرة كاملة تحت ظروف إنسانية مؤلمة ليس مجرد حادث عابر يُطوى في سجلات الوقت؛ بل جرحٌ يمسُّ الضمير الوطني، لأنه فتح بابًا على حقيقة ثقيلة؛ حقيقة أن بعض أبناء هذا الوطن يعيشون على حافة الحاجة، وأن غياب العمل والاستقرار الوظيفي ليس مجرد أزمة اقتصادية، بل مشكلة تمسّ الكرامة، وتؤثر على أمن الأسر وسلامة المجتمع بأكمله.
فالمتوفّى- رحمه الله- كان أحد أولئك الذين خرجوا من سوق العمل ليجدوا أنفسهم في دائرة الضيق دون مورد ثابت، شأنه شأن آلاف من المسرّحين والباحثين عن عمل الذين يحاولون يوميًا الحفاظ على توازن حياتهم وسط التزاماتٍ ومعيشةٍ تزداد صعوبة. ومن هنا، فإن دوافع الحادثة المؤلمة ليست محصورة في تفاصيلها المباشرة، بل تمتد إلى خلفية اقتصادية واجتماعية تشكّل بيئة خصبة لمثل هذه الانكسارات الإنسانية.
إنَّ الحديث عن هذا الواقع ليس تهجُّمًا، ولا ادعاءً على جهةٍ ما؛ بل محاولةٌ لقراءة الوجع الذي كشف المستور، والتفكير في المعالجات التي تمنع تكرار مثل هذه المآسي؛ فالأمن الاجتماعي يبدأ من شعور الإنسان بأن له وظيفة، وراتبًا، وسقفًا يحمي أبناءه من تقلبات الحياة. وحين ينهار هذا الأساس، تصبح الأسرة أكثر عرضة للانكسار، ويصبح الوطن أمام مسؤولية مضاعفة لحماية أفراده.
لقد بيّن هذا الحدث المؤلم أن البطالة ليست رقمًا في تقرير، ولا حالة فردية؛ بل قضية وطنية تتداخل مع الصحة النفسية، والاستقرار الأسري، وقدرة الإنسان على اتخاذ قرارات آمنة. ومن المؤسف أن بعض التفاصيل الصغيرة، حين تجتمع في حياة إنسانٍ مُنهك، قد تتحول إلى سلسلة من الأحداث التي تكتب نهاية مأساوية لم يكن أحد يتوقعها.
نحن اليوم أمام لحظة مراجعة حقيقية، ليس للوم أحد؛ بل لتقويم المسار. فالواجب الوطني والإنساني يستوجب أن نعيد النظر في ملف المُسرَّحين، وأن نبتكر حلولًا أكثر عدالة وسرعة وفاعلية. من الضروري أن توجد برامج احتواء سريعة، ودعم مؤقت يقي الأسر من السقوط، وبدائل حقيقية تُمكّن الإنسان من العودة إلى سوق العمل بكرامة. كما إن تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي أصبح ضرورة لا رفاهية. فالدول التي تقودها رؤية إنسانية تجعل الإنسان محور التنمية، لا تترك أبناءها في مواجهة الحاجة وحدهم، ولا تسمح بأن تتحول الضغوط الاقتصادية إلى خطر يهدد الأرواح.
ومع حجم الألم، لا يمكن إغفال ما أظهره العُمانيون من تكاتف وتراحم عظيمين. فقد بدا واضحًا، كما هي عادتهم، أنهم أسرة واحدة لا تتردد في الوقوف مع من يمر بمحنة. لكن التعاطف- على عظمته- لا يكفي إنْ لم يصحبه إصلاح يعالج الأسباب الجذرية، ويمنع تكرار المأساة في بيتٍ آخر.
دموع العامرات رسالةٌ، وصمت البيت الخالي رسالةٌ، وصورة الأطفال الراحلين رسالةٌ… وكلها تقول لنا إن هذا الوطن يحتاج إلى قرارات تنطلق من الوجع، لا من الأوراق. وأن حماية الأسرة العُمانية هي خط الدفاع الأول عن استقرار المجتمع.
رحم الله الأسرة الرحيمة، وجعل من مصابها نورًا يهدي إلى الإصلاح، ودافعًا حقيقيًا لمراجعة السياسات، وفتح أبواب جديدة للأمل، حتى لا ينكسر قلبٌ آخر بسبب حاجةٍ كان يمكن أن تُسد، أو فرصة كان يمكن أن تُمنح، أو إنسان كان يمكن أن يُنقذ.
فهذا الوجع… لم يأتِ ليبكينا فقط؛ بل ليكشف ما أُخفي، ويذكّرنا بأن الإنسان هو أثمن ما في هذا الوطن.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كاتب إيطالي: هكذا يمكن حماية المنشآت الحيوية في أعماق البحار
قال الكاتب باولو ماوري في مقال نشره موقع إنسايد أوفر الإيطالي إن بحار العالم تحولت إلى ساحات حروب هجينة تعتمد على عمليات تخريب يصعب تعقبها، مما يفرض توسيع مفهوم الأمن القومي ليشمل حماية البنى الإستراتيجية في أعماق المحيطات.
وأوضح أن أعماق البحار باتت تضم بنية تحتية حيوية تشمل كابلات الاتصالات، وأنابيب نقل الطاقة، وعمليات التعدين البحري، وفي المستقبل مراكز بيانات وموائل بيولوجية، وكلها بنى تحتية حيوية معرضة للهجمات مما يستلزم حلولا فعالة لحمايتها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ميديا بارت: لاجئة سورية تتقدم بشكوى ضد الشرطة الألمانيةlist 2 of 2من هو رحمن الله لكنوال المشتبه به في إطلاق النار قرب البيت الأبيض؟end of listويرى الكاتب أن الحل الأمثل يكمن في الجمع بين الذكاء الاصطناعي والمسيّرات البحرية، لتوفير حماية مستمرة داخل بيئة يصعب مراقبتها، مع ضمان القدرة على التدخل السريع في مواجهة أي محاولة تخريبية.
حرب الكابلات البحريةقال ماوري -وهو صحفي وخبير في شؤون الدفاع والسياسة- إن حوادث تعطيل كابلات الاتصالات البحرية شهدت ارتفاعا ملحوظا في السنوات الأخيرة.
ووفقا لما نقله الكاتب عن منتدى الاتصالات البحرية، بلغ عدد الحوادث التي طالت الكابلات في عام 2024 نحو 46 حادثة، مقارنة بعدد يتراوح بين 15 و33 حادثة سنويا خلال الأعوام التسعة السابقة.
وتتركز معظم الحوادث في شمال أوروبا وبحر البلطيق، حيث يوجد احتكاك يومي بين روسيا وقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حسب المقال.
ولفت الكاتب إلى أن الصين أدركت أهمية "حرب الكابلات"، إذ سجلت براءات اختراع لتقنيات بسيطة قادرة على قطع الكابلات البحرية، يمكن تشغيلها من سفن الشحن التجارية.
وفي إيطاليا، أطلقت الحكومة حملة منذ 2022 لمراقبة البنى الإستراتيجية تحت البحر باستخدام قوات البحرية الإيطالية، وفق الكاتب الذي يعمل مع إنسايد أوفر ويتعاون مع المجلة الرسمية للقوات الجوية الإيطالية.
صعوبة المراقبة والحمايةولفت الكاتب إلى أن مراقبة المنشآت الحيوية في الأعماق تمثل تحديا بالغا، نظرا لكثرتها واتساع انتشارها، إذ توجد مئات الآلاف من الكيلومترات من الكابلات والأنابيب الممتدة.
إعلانويصعّب ذلك حمايتها بالأساليب التقليدية أو حراستها مثل القواعد العسكرية أو الحدود البرّية، فلا يمكن -مثلا- استخدام طوربيد لتدمير مسيرة مائية معادية خوفا من أن يؤدي ذلك لإتلاف البنية التحتية نفسها.
وبالتالي -يتابع الكاتب- ينبغي أن تكون أساليب الدفاع دقيقة ومرنة، تقلل الخسائر، وتمنع الهجمات دون الإضرار بالكابلات.
المسيّرات والذكاء الاصطناعيويرى الكاتب أن الحل الأمثل لمراقبة وحماية البُنى التحتية الحيوية في أعماق البحار يكمن في دمج تقنيتين ثوريتين: الطائرات المسيّرة تحت الماء والذكاء الاصطناعي.
ويعتمد هذا النموذج على هيكل هرمي على رأسه سفن حربية سطحية تقود أساطيل من المسيّرات البحرية المزودة بذكاء اصطناعي، قادرة على إجراء دوريات تلقائية، وتحديد التهديدات ومهاجمتها، مع الإبقاء على مستوى معيّن من التحكّم البشري، وفق الكاتب.
وأشار المقال أيضا إلى إمكانية اعتماد مركبات كبيرة غير مأهولة لتوجيه أسراب صغيرة للمراقبة أو الهجوم، مع تدريبها عبر الذكاء الاصطناعي للبقاء في وضع السكون إلى حين ظهور تهديد، مما يقلل استهلاك الطاقة ويطيل مدة التشغيل.