بين واشنطن وبكين.. التحول الهادئ في ميزان القوة الناعمة
تاريخ النشر: 2nd, December 2025 GMT
ترجمة: نهى مصطفى
منذ بداية ولايته الثانية، دأب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تفكيك قنوات القوة الناعمة الأمريكية التقليدية، وهي الوسائل التي تستخدمها الولايات المتحدة للتأثير غير العسكري في العالم، مثل الإعلام، الثقافة الشعبية، التعليم، التكنولوجيا، الدبلوماسية وغيرها.
توقفت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) عن العمل، وانشغلت إذاعة صوت أمريكا بمعارك تشريعية وقضائية، وقلصت وزارة الخارجية الأمريكية عدد موظفيها وبرامجها بشكل كبير.
وفي صحيفة نيويورك تايمز، وصف جيمي شيا، المسؤول السابق في حلف الناتو، هذه التغييرات الجذرية بأنها «انتحار القوة الناعمة» للولايات المتحدة.
فسر العديد من الخبراء والمعلقين خسارة الولايات المتحدة على أنها مكسب للصين. وحذر عالم السياسة الراحل جوزيف ناي، الذي طور مفهوم القوة الناعمة، في وقت سابق من هذا العام من أن الصين «مستعدة لملء الفراغ الذي يخلقه ترامب». وبالمثل، زعم يانزونج هوانج، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، أن تصرفات إدارة ترامب «عززت حملة الصين الترويجية».
لكن التنافس بين الولايات المتحدة والصين على القوة الناعمة ليس سعيًا للنفوذ. فكلا البلدين يتبع نهجين مختلفين في بناء القوة الناعمة: فالصين تميل إلى الاعتماد على استقطاب الدول الأخرى ذات المنافع العملية، بينما تضع الولايات المتحدة القيم والمثل في صميم جهودها للتواصل. واعتبرت الدول المتلقية، وخاصةً تلك الواقعة فيما يسمى بالجنوب العالمي، العروض الصينية والأمريكية مكملة لبعضها، فقبلت كليهما بدلًا من أن ترى ضرورةً لاختيار إحداهما على الأخرى.
على مدى السنوات الثلاث الماضية، وخاصة منذ إعادة انتخاب ترامب، تحسن وضع الصين النسبي بلا شك. فمع تراجع الولايات المتحدة، تبدو الصين للعالم شريكًا أكثر سهولة في الوصول والمصداقية.
لكن هذا لم يحولها إلى قائد عالمي في مجال القوة الناعمة. فرغم أن بكين لا تزال تؤكد على عروضها البراجماتية في دبلوماسيتها، إلا أنها قلصت مساعداتها الدولية للدول ذات الدخل المنخفض بدلًا من توسيعها، ولم تظهر سوى مؤشرات قليلة على التدخل لتحل محل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، كما أن الصين لا تهيئ نفسها لشغل دور الولايات المتحدة السابق في الترويج لنموذج حوكمة معين للعالم.
فبينما ينظر إلى بكين بشكل عام بإيجابية، إلا أن هذا التغيير في الموقف يختلف اختلافًا كبيرًا من منطقة إلى أخرى، وحتى الدول التي تحمل وجهات نظر أكثر إيجابية تجاه الصين تنظر إلى أفعالها بمزيج من التقدير والاستياء. قد تكتسب الصين مكانة سلبية من تراجع القوة الناعمة للولايات المتحدة، لكن هذا لا يكفي لضمان نفوذ عالمي أكبر في السنوات القادمة.
تختلف التفسيرات الصينية للقوة الناعمة عن تعريف ناي الأصلي، الذي يشدد على الثقافة والقيم والسياسة الخارجية كمكونات أساسية لقدرة الدولة على التأثير على الآخرين دون إكراه. في الكتابات الصينية، تندمج القوة الثقافية مع القوة المادية، إذ تعتبر بكين نموذجها في التنمية الاقتصادية، والابتكار التكنولوجي، والمساعدة المادية للدول النامية، وليس فقط ثقافتها ومبادئها التقليدية، عوامل قوة ناعمة.
تسعى الصين إلى كسب دعم الدول النامية عبر التأكيد على المنفعة الاقتصادية المتبادلة، وتعريفها لحقوق الإنسان باعتبارها حقوقًا اقتصادية ومعيشية أكثر من كونها حريات سياسية. وتستخدم الدبلوماسية العملية عبر صفقات تجارية، ومشاريع بنية تحتية، وبرامج تدريبية وتعليمية تستقطب آلاف المسؤولين والصحفيين والطلاب إلى أراضيها.
ومع تقليص إدارة ترامب لتمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أصبحت المساعدات الصينية الثنائية الأكبر عالميًا. كما جعلت الرسوم الجمركية الأمريكية المرتفعة الصين الخيار الاقتصادي الأسهل للدول النامية. وإلى جانب ذلك، تبدو الصين أكثر انفتاحًا على الزائرين، إذ تسمح بدخول مواطني عشرات الدول دون تأشيرة، في مقابل القيود المتزايدة في الولايات المتحدة. على الرغم من الفرصة التي وفرتها سياسات ترامب، لا تبدو الصين في طريقها لزيادة مساعداتها الإنمائية. فتعهداتها الأخيرة للدول النامية جاءت أقل مما كانت عليه سابقًا، ولا تظهر سوى إشارات محدودة إلى تغير هذا الاتجاه.
في قمة مايو مع جماعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (33 دولة)، قدّمت بكين تعهدًا بقيمة 9.2 مليار دولار فقط، أي أقل من نصف تعهدها في قمة 2015. وفي سبتمبر، أعلنت عن قروض بقيمة 1.4 مليار دولار لأعضاء منظمة شنجهاي للتعاون (10 دول)، مقارنة بـ 5 مليارات دولار قدّمتها عام 2014. هذه التخفيضات تعكس مراجعة الصين لمبادرة الحزام والطريق، والتركيز على مشاريع «صغيرة وجميلة»، استجابةً لضغوطها الاقتصادية الداخلية وتزايد ديون دول المبادرة. ولا توجد دلائل على أن الصين تسعى لتعويض الفجوات التي خلفتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. فقبل عام 2025 كانت ميزانية مساعداتها الخارجية صغيرة مقارنة بميزانية الولايات المتحدة، ومعظمها يقدم كقروض ميسرة لا كمنح.
وفي العام الجاري، لم تستجب بكين لاحتياجات الدول المتضررة من خفض المساعدات الأمريكية إلا في حالات قليلة؛ مثل زيادة دعمها لمنظمة إزالة الألغام في كمبوديا، وتقديم ضمانات غير رسمية بمساعدات إنسانية لـ نيبال. وهذه الحالات المعزولة لا تمثل تغييرًا جوهريًا في دبلوماسيتها. مع تراجع الولايات المتحدة عن الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان، ظهر فراغ يمكن نظريًا أن تملأه الصين بأجندتها الأيديولوجية.
لكن بكين لا تبدو راغبة أو قادرة على ذلك بشكل كامل، إذ ظل تركيزها في القوة الناعمة أقل ارتباطًا بنشر قيم سياسية مقارنة بالنموذج الأمريكي. ورغم أن المسؤولين الصينيين بدأوا يروجون لمبادئ مثل عدم التدخل ومسارات بديلة للتحديث والديمقراطية عبر الدبلوماسية وبرامج التدريب، فإن رسائلهم لا تقدم رؤية واضحة لدور الصين في النظام العالمي، ولا نموذجًا أيديولوجيًا متماسكًا قابلًا للتصدير. وقد يكون هذا الغموض مقصودًا، لأنه يمنح الصين مرونة ويسمح لها بالظهور كقوة عالمية أقل ادّعاءً للهيمنة مقارنة بالولايات المتحدة.
تركز بكين اليوم على التمييز عن الغرب في خطابها الأيديولوجي، إذ يدين المسؤولون الصينيون الهيمنة الغربية ويقدمون الصين كقوة مسؤولة يمكن الوثوق بها. ففي يوليو، انتقد السفير الصيني في موسكو الولايات المتحدة لتخليها عن النظام العالمي، مقابل تصوير الصين كدولة تفي بوعودها. وفي سبتمبر، دعا شي جين بينج خلال قمة منظمة شنجهاي للتعاون إلى نظام عالمي «أكثر عدالة»، وأعلن مبادرة للحوكمة العالمية تأكيدًا على التعددية القطبية.
وفي حواراتهم مع القادة الأفارقة، يعقد الأكاديميون والدبلوماسيون الصينيون مقارنات بين الصين «غير المتدخلة» والولايات المتحدة «الأكثر تدخلًا». ويُقدَّم النموذج الصيني للتحديث على أنه يحترم الاختلافات الوطنية، بخلاف ما يصور كإملاءات غربية، كما تستفيد الصين من إبراز المظالم تجاه السياسات الأمريكية لتعزيز شعور مشترك يدفع بعض الدول نحوها. وقد توسعت منظمة شنجهاي للتعاون بقيادة الصين من ست دول عام 2001 إلى عشر دول أعضاء اليوم، مع 14 شريكًا في الحوار ومراقبين اثنين، ودول أخرى تنتظر الانضمام.
ومع ذلك، تظل رسائل الصين محدودة؛ فهي لا تتجاوز انتقاد الهيمنة الأمريكية والمطالبة بدور أكبر في مؤسسات الحوكمة الدولية، دون تقديم رؤية بديلة متكاملة لنظام عالمي جديد.
يبدو أن الاضطرابات الأخيرة في الديمقراطية الأمريكية تمنح الصين فرصةً لتعزيز نموذجها الحاكم أمام جمهور دولي أصبح أكثر تقبّلًا. لكن طبيعة هذا النموذج ليست محددة تمامًا. فبحسب دراسة عن ندوات تدريبية لصانعي السياسات الأفارقة، لا يعرض المدرسون والمسؤولون الصينيون نظامهم السياسي كنقيضٍ للغرب، بل يعيدون صياغة المفاهيم الغربية نفسها لتخدم عرضهم. يقدمون الصين بوصفها «نسخة أخرى من الديمقراطية»، ولكن أكثر كفاءة واستجابة للرأي العام.
نادرًا ما يقدم القادة الصينيون في تلك الدورات خطوات عملية لتقليد التجربة الصينية، حتى في المجالات التي تشتهر الصين بالنجاح فيها، مثل الحد من الفقر. ففي ندوة بأديس أبابا، طلب مسؤول إثيوبي نصائح محددة حول كيفية محاكاة نجاح الصين، لكن أحد الخبراء الصينيين قطع النقاش قائلًا: «لسنا هنا لتقديم النصائح».
وغالبًا ما تكون الدروس العملية أوضح في التدريب التقني المرتبط بالزراعة أو نقل التكنولوجيا، لكن مسؤولين وصحفيين أفارقة أكدوا أن التفاصيل المتعلقة بالنموذج التنموي والسياسي الصيني الأوسع تبقى محدودة. وغياب هذه الإرشادات يجعل النموذج الصيني أقرب إلى مثال يعجب به الآخرون، لا نموذج يمكن تطبيقه أو الاقتداء به.
تحقق الصين تقدمًا من نوع آخر، فصعود شعبية منتجات الثقافة الشعبية الصينية، مثل دمى «لابوبو»، وفيلم الرسوم المتحركة «ني تشا 2»، وألعاب فيديو واسعة الانتشار، إضافة إلى التقنيات الصينية الجديدة مثل منصة الذكاء الاصطناعي «ديب سيك»، خلق موجة من الانطباعات الإعلامية حول «كيف أصبحت الصين رائعة». هذا التأثير الثقافي يمكن أن يعزز القرب العاطفي مع قيم الصين ومبادئها، خصوصًا عندما تنجذب الجماهير إلى أعمال تمجد التاريخ الصيني والتقاليد والتكنولوجيا المستقبلية. لكن صادرات مثل «لابوبو» و«ديب سيك» تعبر في الأساس عن قوة تجارية وتكنولوجية، وقد ترفع من جاذبية الصين المادية، دون أن تنجح بالضرورة في نشر رؤيتها السياسية الأوسع.
يصعب قياس القوة الناعمة بدقة، لكن استطلاعات الرأي تُعطي مؤشرات تقريبية. فبعد إعادة انتخاب ترامب، تحسنت صورة الصين نسبيًا، بينما تراجعت صورة الولايات المتحدة بشكل ملحوظ. أظهر استطلاع لمركز بيو في يوليو أن معظم الناس ما زالوا ينظرون إلى الولايات المتحدة نظرة إيجابية أكثر من الصين، لكن الفجوة بينهما تضيق. كما شهدت واشنطن هبوطًا حادًا في شعبيتها، تراجع بلغ 20 نقطة مئوية في كندا وحدها، في حين حققت الصين مكاسب صغيرة. وفي استطلاع آخر شمل خمس دول في أمريكا اللاتينية، فضل المشاركون الصين على الولايات المتحدة كشريك اقتصادي.
لكن تأتي هذه المكاسب وسط تحفظات كبيرة. فصورة الصين ليست متجانسة عالميًا. ففي أفريقيا وأمريكا اللاتينية تنظر إليها بإيجابية عامة، بينما تظل سمعتها سلبية بشدة في آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، حيث تغلب المخاوف من تهديدها الأمني على جاذبيتها الاقتصادية، حتى مع تراجع مكانة الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، فإن تفضيل الصين اقتصاديًا لا يعني الثقة بها كقوة قيادية عالميًا.
ففي استطلاع بيو نفسه، قال 66% من المشاركين في 25 دولة إنهم لا يثقون في أن الصين «ستقوم بالصواب» في الشؤون العالمية. وتظهر هذه الفجوة بين الإعجاب الاقتصادي والشك الأيديولوجي في نقاشات مع صانعي السياسات أيضًا. تندر التقاط الاستياءات والمخاوف الكامنة من النفوذ الاقتصادي الصيني في استطلاعات الرأي، لكنها تظهر بوضوح بطرق أخرى. ففي إثيوبيا، وهي من أكثر الدول تقاربًا مع بكين، عبر طلاب الجامعات الذين التقيتهم عن مزيج من التأييد والقلق تجاه الآثار البعيدة لمشاريع الحزام والطريق. فقد أشار كثيرون إلى مستويات الديون المرتفعة المستحقة للصين، إذ تُعد إثيوبيا ثاني أكبر متلقٍ للقروض الصينية في أفريقيا، وإلى احتمال استحواذ الصين على مشاريع أو قطاعات حيوية إن عجزت البلاد عن السداد. وفي آسيا الوسطى، رغم الميل النسبي نحو الصين، تزايدت الاحتجاجات ضد مشاريعها في البنية التحتية والطاقة خلال العقد الماضي.
ورغم التحسن النسبي في صورة الصين على مستوى القوة الناعمة، إلا أن الحديث عن مكسب حاسم لا يزال سابقًا لأوانه. فبكين، في الوقت الراهن، تبدو متحفظة أكثر من كونها مستعدة لاستغلال تراجع الولايات المتحدة على نحو كامل. فهي تواصل تقديم نفسها بوصفها شريكًا تنمويًا موثوقًا - كما كانت تفعل قبل الولاية الثانية لترامب - لكنها حذرة من ضخ مزيد من الموارد في الخارج. ولا تزال رسالتها الأيديولوجية تعتمد على تأجيج الاستياء من الغرب أكثر من اعتمادها على طرح رؤية دولية بديلة مقنعة أو تقديم دروس سياسية قابلة للتكرار. كما أن شريحة واسعة من الجماهير الأجنبية ما زالت تتعامل بحذر مع الصين، خصوصًا فيما يتعلق بدورها القيادي عالميًا.
ماريا ريبنيكوفا عالمة سياسية أمريكية، تعمل أستاذة مشاركة في قسم الاتصالات العالمية بجامعة جورجيا.
الترجمة عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الوکالة الأمریکیة للتنمیة الدولیة الولایات المتحدة القوة الناعمة الصین على أن الصین عالمی ا أکثر من
إقرأ أيضاً: