الوعي والثقافة المجزأة
تاريخ النشر: 3rd, December 2025 GMT
صبحي حسن
هناك سؤال يثار حول ماهية الثقافة وما الفارق بينها وبين العلم والوعي؛ فهي مصاحبة للإنسان وملازمته منذ ولادته وحتى آخر يوم من حياته لا ينفك عنها، أشبه بالطعام لبقاء حياته.
والثقافة لغةً تعني الحذق والفهم، مشتقة من ثقف أي الفطنة والفهم والذكاء وسرعة التعلم، وتأتي بمعنى تسوية المعوج من الشيء، وبمعنى الظفر كما في قوله تعالى "فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" (الأنفال: 57)، فالمثقف هو الشخص الذي يُعلم نفسه ويطورها ويرقى بفكره.
تتكون الثقافة من عنصرين، مادي ملموس كالآثار والمخطوطات، وغير مادي كالقيم والعادات والمعتقدات، وكلاهما يحتاج الى العلم بهما وتعلمهما، لذا فالثقافة مكتسبة وليست كامنة، يقول الله تعالى " وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (النحل: 78).
وهناك نوعان من الثقافة، تلقائية عامة يحصلها الإنسان من خلال بيئته ومنزله واختلاطه بالآخرين، وخاصة تحمل عمقا يتحلى بها بعض الأفراد من قبيل المهن التخصصية، ومجالات أخرى تحتاج إلى بذل مجهود ودراسة.
هناك غموض في بعض المجالات التي تحتاج إلى تمحيص ومراجعة، يتم إدخالها عنوة على أنها ثقافة كالطرب والطعام والمهرجانات والموسيقى والرقص، بينما يفترض أن تكون محصورة على كل ما يتم به تقويم الإنسان وتطويره فكريا وماديا ومعنويا.
العلم من جهة أخرى نقيض الجهل، هو إدراك الشيء على حقيقته، بحيث يؤدى إلى طريق ومنهج لبناء وتنظيم المعرفة العامة، ويتضمن الحقائق والمفاهيم والقوانين من نتاج البحث والتجربة، فهو كل علم ينتفع به، ليصار بعد ذلك إلى تفسير الظواهر والاحداث والتنبؤ بها.
عليه يمكننا القول بأن كل إنسان في الحقيقة مثقف، سواء أكانت ثقافته تلقائية أم تخصصية، ولا شك أن هناك تباينا وتفاوتا بين الإثنين في مدى العمق والإحاطة والاحتراف.
من الأمور التي باتت من الطقوس اليومية الشائعة بين الناس على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم وانتماءاتهم، مطالعة الأخبار والمعلومات وكل ما هو جديد، ساعد على ذلك ظهور وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة استخدامها، أصابت مختلف شرائح المجتمع من الطفل حتى الشيخ.
ما يلفت النظر هو عدم وجود سقف محدد لتلك الممارسات بحيث باتت تأخذ وتبتلع جُلّ أوقاتنا، وولَّدت نوعا من التوتر والإنشداد عندما نكون بعيدين عنها، فلا حرمة للأوقات، وان كانت في دور العبادة، أو في التجمعات الاجتماعية، او حتى أمام مرأى من الناس والأهل.
ولكثرة ما نعيشه من هذه الكثبان الهائلة من المعطيات التي دُفـنّا فيها، نسينا الهدف، هل هو لاكتساب العلم أم الثقافة، أم أنه مجرد للتسلية وتمضية وقت؛ فهناك حاجة لتحديد سقف لكل ما نقوم به، بترشيد الإبحار وسط هذا التيار الجارف. نعيش تشويشا ذهنيا من مطارق المعلومات، وبات من الأهمية بمكان تصفية أذهاننا من هذا الغبار، بممارسة حِمية نستعيد من خلالها لياقتها ورشاقتها وصفاءها الفطري، ولا يكون ذلك إلا عن طريق ممارسات صحية واعية، وعمل مضني على النفس لتهذيبها وتشذيبها.
مفردة الوعي، محل حديثنا، تعني اليقظة والإدراك الذاتي، والقدرة على استيعاب وفهم المحيط الخارجي والذات الداخلية، كما تعني الانتباه والاستجابة للمنبهات. إنه ليس إحساسا أو شعورا يربطك بالعالم الخارجي أو الداخلي فحسب، بل القدرة على فهم الأفكار والمشاعر والسلوكيات بشكل موضوعي، وكيفية تأثيرها، فهو الحضور والانتباه. العلم والثقافة هما المواد الأولية ومحركات باعثة للوعي، فإذا لم يؤديا دورهما، فانهما سوف لن يزيدا منسوب رقينا وتكاملنا الانساني، أشبه بالمعلومات التي تدخل من أذن وتخرج من اخرى.
الثقافة المجزأة هي أن ناخذ بعض المعلومات والأخبار نخرجها من سياقها، ثم نقدمها جاهزة ساخنة على طبق من التشتت، هذا ما تقدمه لنا مواقع التواصل الاجتماعي. أما العلم فانه يعطينا نظرة سطحية للأمور والأشياء، بينما الوعي يمثل عمق النظر لفهم الأشياء واستنباط ما يصلح منها.
الدراسة وطلب العلم لم يعدّا من الأمور التي تستهوي الكثيرين، فقد أصبحت من الطقوس الإجبارية وروتين لابد أن يمر به كل شخص على هذه الارض على اختلاف الجغرافيا واللغة، نقوم بهما تلقائيا بمجرد أن يبلغ الطفل سن الرابعة أو السادسة، حتى الرابعة والعشرين من العمر، رغم أهميتهما القصوى، والسبب لأننا أضعنا الهدف ضمنيا، وان كان الظاهر هو الثقافة والعلم.
وبتقديري فان الدراسة سواء أكانت كلاسيكية ام جامعية، ما هي في الواقع الا لفتح الشهية، لابد ان يتبعها الطبق الرئيسي حتى تكتمل الوجبة، وأعني بذلك الثقافة الكاملة التي تعتمد على القراءة المركزة، والبحث والتطوير المستمر. كم نحن غارقون بالروتين والأعمال التي نتقنها ونحبها وتستهوينا، يقول الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور "الوعي يجعلنا غرباء في عالمنا؛ فالجهل يوفر لنا مأوى ومألوفية" وفي حديث عن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء".
الثقافة والعلم فعل تشاركي بين أفراد المجتمع وليس فعل أناني فردي محض، متاح للجميع يغرف منهما ما يشاء، مهمتهما النهائية ان يخرجا الانسان من شرنقة العزلة الفكرية الذاتية، بحيث يجعلاه ينخرط فى المجتمع بشكل فعال عن بصيرة ووعي. يقول الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغو "متاعب الوعي تكمن في أنه يفتح الباب للأسئلة الصعبة، والمشاكل التي قد تكون محيرة، ولكنها أيضا فرصة للتعمق في الذات واكتشاف إمكانيات جديدة".. إنها مسؤولية وأمانة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
هل هناك انهيار وشيك في سوق العمل الأميركي؟
أشار تقرير لمجلة إيكونوميست المتخصصة إلى أن القلق المحيط بسوق العمل الأميركي -رغم وجاهة بعض مؤشراته- قد لا يكون انعكاسا دقيقا للواقع الاقتصادي الفعلي، فبينما تتسارع مكاسب أسواق الأسهم بفعل موجة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي يزداد شعور الأميركيين بأنهم "خارج اللعبة"، وأن النمو يسير في اتجاه لا يستفيد منه المواطن العادي، وهو ما يجعل التباعد الملحوظ بين خلق الوظائف والنمو الإجمالي مصدرا للانزعاج.
وفي هذا الجو المتوتر عمد مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى خفض أسعار الفائدة في اجتماعين متتاليين، في خطوة وصفها رئيس المجلس جيروم باول بأنها "إدارة للمخاطر"، في حين يدفع عضو المجلس كريستوفر وولر باتجاه تخفيضات أسرع في اجتماع 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري دعما لسوق يرى أنه بدأ يضعف.
ومع ذلك، تشدد المجلة على أن نبرة الكآبة المنتشرة قد تكون مبالغا فيها، وأن كثيرا من المخاوف لا تعكس صورة البيانات الكاملة.
عقد من المكاسب يسبق موجة القلق الحاليةوتذكّر "إيكونوميست" بأن العمال الأميركيين عاشوا خلال العقد الماضي واحدة من أكثر الفترات قوة في تاريخ سوق العمل، إذ بقيت البطالة قرب أدنى مستوياتها منذ نصف قرن، باستثناء أشهر جائحة كورونا التي شكلت اضطرابا استثنائيا.
وخلال تلك الفترة ارتفعت الأجور بوتيرة مكنت الأسر الأميركية -خاصة الأقل دخلا- من تحقيق مكاسب حقيقية غير مسبوقة، إذ تشير البيانات إلى ارتفاع الأجور الحقيقية لأدنى الفئات دخلا بنسبة 19% منذ 2015، مقابل 11% فقط للفئات الأعلى دخلا، في تحوّل نادر قلب اتجاهات التفاوت لصالح الطبقات الدنيا.
لكن، ورغم هذه المكاسب فإن التضخم يبقى عند 3%، وهو مستوى أعلى من هدف الفدرالي البالغ 2% منذ نحو 5 سنوات، مما يعزز شعور الأسواق بأن السياسة النقدية لا تزال في موقع الدفاع أمام مخاطر تباطؤ غير محسوم.
ترى "إيكونوميست" أن مصدر القلق يتوزع على 3 مسارات متشابكة:
إعلان مؤشرات تتراجع ببطء ولكن بثباتفعدد الوظائف الشاغرة ينخفض بصورة تدريجية منذ عامين تقريبا، والبطالة ترتفع هامشيا.
وتنبه المجلة إلى أن سوق العمل يميل إلى التدهور بسرعة إذا تجاوز عتبة معينة، مما يجعل صانعي السياسات يفضلون التحرك مبكرا تفاديا لانحدار يصعب إيقافه.
خطط واسعة لتسريح موظفينرغم عدم ظهور انهيار في بيانات التوظيف الحكومية فإن شركات كبرى مثل أمازون وفيرايزون أعلنت خططا لتسريح عشرات الآلاف من الموظفين.
ويؤكد مؤشر تسريح الموظفين لدى شركة تشالنجر جراي آند كريسماس أن هناك قفزة إلى أعلى مستوى خلال أكثر من عقد باستثناء الجائحة، في حين تكشف إشعارات قانون وارن -التي تُلزم الشركات الكبيرة بإعلان نوايا التسريح مسبقا- عن ارتفاع إضافي، وهو ما يعزز الانطباع بأن الشركات تتحرك قبل أن تظهر البيانات الرسمية التراجع الفعلي.
تشاؤم شعبيثقة المستهلك الأميركي "شبه منهارة" منذ موجة التضخم بعد الجائحة كما تقول "إيكونوميست"، وزاد الوضع سوءا خلال الأشهر الأخيرة، إذ أصبح الأميركيون يقدرون احتمالية إيجاد وظيفة خلال 3 أشهر بأقل من النصف، وهو مستوى أقل تشاؤما حتى مما كان عليه الوضع في ذروة الجائحة.
لكن البيانات العميقة تروي قصة مختلفة تماما
تقدم "إيكونوميست" قراءة مضادة تجعل المخاوف أقل صلابة:
البطالة لا تزال منخفضة تاريخيافمعدل البطالة عند 4.4% يبقى أقل بكثير من متوسط ما شوهد خلال 3 أرباع الفترة الممتدة منذ 1948، وبالإضافة إلى ذلك فإن معدل التوظيف بين الفئة العمرية 25-54 عاما يستقر عند نحو 80%، وهو تقريبا أعلى مستوى تاريخي لهذه الفئة.
وتشير التعديلات الأخيرة لبيانات الوظائف إلى أن المخاوف التي ظهرت في الصيف لم تكن دقيقة، إذ أضيفت في سبتمبر/أيلول 119 ألف وظيفة جديدة، مقابل توقعات لم تتجاوز 50 ألفا.
ويعتمد المستثمرون على "قاعدة سام" (Sahm rule) لرصد احتمالات الركود المبكر، صحيح أنها لامست "منطقة الخطر" لفترة وجيزة في أغسطس/آب 2024، لكن البيانات الأحدث تُظهر تباطؤا تدريجيا لا يقترب من العتبة التي تُعد مؤشرا على ركود وشيك.
الزخم الاقتصادي لا يزال قويا للغايةتقديرات "ناو كاست" للتنبؤات الاقتصادية لدى فرع الفدرالي في أتلانتا تتوقع نموا قويا خلال الربع الثالث.
وأسواق الأسهم محلقة، وأسواق الدين تُسعّر احتمالات متدنية جدا للتعثر، أما الأجور فتبقى في مسار صلب، مما يجعل انهيارا مفاجئا في سوق العمل "غير منطقي اقتصاديا ما دام الاقتصاد الكلي في مساره".
ضباب ترامب يخف تدريجياوتذكر "إيكونوميست" أن جزءا من التردد في التوظيف يعود إلى حالة عدم اليقين التي خلفتها سياسات الرئيس دونالد ترامب من رسوم جمركية مشوشة إلى تغييرات واسعة في قواعد التأشيرات والترحيل، وهي حالة بدأت تتراجع حدتها تدريجيا، مما يعزز استعداد الشركات لإعادة التوظيف اعتمادا على صورة أوضح للسياسات في 2026.
وعلى الرغم من التوتر في الأسواق والشعور الشعبي بالفزع من سوق وظائف منهارة فإن المجلة ترى أن الطفرة الممتدة لعقد كامل في سوق العمل الأميركي لا تزال تملك المزيد من الزخم، وأن المؤشرات العميقة لا تدعم سيناريو الانهيار الوشيك.
إعلان