ليس من المستغرب أن تكون الاعتبارات الاقتصادية من بين العوامل الرئيسية في تشكيل حقبة جديدة في العلاقة التركية السعودية، وهي بطبيعتها متعددة الأوجه، ومن الاجتماعات المتبادلة رفيعة المستوى إلى الاتفاقيات الموقعة، أصبح من الواضح أن أنقرة والرياض تبذلان جهودًا قوية لتعزيز علاقاتهما الاقتصادية، مع وضع التقارب الأخير بينهما على مسار أكثر استدامة، ومع ذلك، من أجل فهم أهمية هذه الصفقات والالتزامات من الجانبين، من الضروري النظر إلى التحديات والفرص المتاحة لتركيا والمملكة في طريقهما نحو تعزيز العلاقات الاقتصادية.

وعندما تهدف الدول إلى إعادة بناء العلاقات بعد سنوات من التوتر، يقوم رؤساء الدول بزيارات متبادلة لبعضهم البعض، ترافقهم وفود تجارية كبيرة... وعلى الرغم من أن الكثير من التركيز ينصب على ما تقوله القيادات خلال تلك الزيارات، إلا أن المهمة الأكثر أهمية تقع على عاتق رجال الأعمال وراء الكواليس الذين يقودون العلاقات المستعادة حديثًا.

وبعد أيام قليلة من اجتماع وزيري التجارة التركي والسعودي، على هامش القمة الوزارية لمجموعة العشرين، اتفقت أنقرة والرياض على تنفيذ “خطة قوية” لزيادة التجارة الثنائية، وخاصة الاستثمارات المتبادلة في قطاعات متنوعة. ومن المنتظر أن يتم التوقيع على مذكرة تفاهم في هذا الصدد خلال الأيام المقبلة لتعزيز التعاون في استراتيجيات التصدير والشراكات القطاعية.

إذا تم بناء الثقة المتبادلة وتحولت مذكرات التفاهم هذه إلى اتفاقيات قائمة على المشاريع وصفقات شراكة ملموسة، فمن المرجح أن نشهد علاقة اقتصادية مزدهرة بين تركيا والمملكة العربية السعودية، ووقع البلدان أيضًا اتفاقًا بشأن تعزيز التعاون في مجال استخراج المعادن الحيوية، وهو متابعة لسلسلة من الصفقات التي تم التوصل إليها بشأن التعاون في مجال الطاقة والنفط خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى المملكة.

وتتمثل إحدى المهام، وربما الأكثر أهمية، بالنسبة للجانبين في استعادة الثقة والحفاظ عليها بين المستثمرين الذين استمتعوا بتعاون اقتصادي مستقر خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.. واجه المستثمرون ورجال الأعمال والشركات السعوديون والأتراك أوقاتًا عصيبة عندما توترت العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة. 

ومن الجانب التركي، أثر الحظر غير الرسمي الذي فرضته المملكة على الصادرات والشركات التركية منذ عام 2018 وحتى تطبيع العلاقات سلبًا على حجم التجارة...... ولم يمنع هذا الشركات التركية من تقديم عطاءات لمناقصات حكومية سعودية كبيرة فحسب، بل تسبب أيضًا في مخاوف بشأن عدم اليقين بشأن الاستثمار في البلاد على المدى الطويل.

ومن الجانب السعودي، فقد رجال الأعمال والشركات في المملكة الثقة في نظرائهم الأتراك، الذين فشلوا في المضي قدمًا في المشاريع المخطط لها بسبب الضغوط التي واجهتها الحكومة من المعارضة، التي انتقدت بشدة الاستثمارات الخليجية في تركيا، قبل الانتخابات...... وحصلت الحكومة على خمس سنوات أخرى في السلطة.... ومع ذلك، فهذه فترة قصيرة بالنسبة للمشاريع الكبرى التي تهدف إلى البقاء في تركيا على المدى الطويل.

إن القدرة على التنبؤات السياسية أو الاقتصادية، هي الشغل الشاغل للمستثمرين من كلا الجانبين، لأن تجربة الماضي السلبية لها بصمة في العلاقات..... لذا، فإن بناء الثقة على المدى الطويل هو المهمة الأكثر أهمية في الوقت الحالي.

والآن بعد أن انتهت الانتخابات لصالح الحكومة التركية، ورفع الجانب السعودي الحصار غير الرسمي، يمكن للجانبين التركيز على الاستراتيجيات التي من شأنها بناء ثقة المستثمرين والحفاظ عليها.... وفي البيئة الاقتصادية غير المؤكدة اليوم، فإن إعادة بناء الثقة بين المستثمرين الأتراك والسعوديين أمر بالغ الأهمية لتحقيق النجاح على المدى الطويل. 

تتطلب ثقة المستثمر الاتساق والمصداقية والشفافية...... ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن ذلك يتطلب أيضًا الاستقرار الاقتصادي والسياسي.... وتتعزز الثقة عندما يتبنى البلدان سياسات بعضهما البعض بشكل كامل، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي.... وفي هذا الصدد، من المهم فهم التوقعات والمتطلبات من كلا الجانبين لتحقيق المنفعة المتبادلة وطريق واضح للنمو.... والنقطة الأهم هنا هي أن عملية بناء الثقة بين المستثمرين من الجانبين يجب أن تحظى بدعم القيادتين في تركيا والمملكة العربية السعودية.

هناك بالتأكيد مزايا لعلاقة اقتصادية تركية سعودية قوية..... وكجزء من رؤيتها لعام 2030، تسعى الرياض إلى التعاون الاجتماعي والاقتصادي، ويبدو أن تركيا تمثل سوقًا مهمًا.... إن تركيا والمملكة العربية السعودية قوتان  ناشئتنا يتمتعان بمزايا تنافسية كبيرة، فضلًا عن أنظمة اقتصادية متكاملة توفر أساسًا متينًا لتوسيع العلاقات الاستثمارية والتجارية..... وبينما تهتم أنقرة بإيجاد أسواق تصدير جديدة وزيادة الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد التركي، تريد المملكة تقليل اعتمادها على الهيدروكربونات، وتنويع اقتصادها من خلال الاستثمارات في الداخل والخارج.

وفي هذا الصدد، توفر احتياطيات المملكة العربية السعودية أرضية صلبة لشراكة استثمارية تآزرية عبر قطاعات متعددة لإنشاء ونقل المعرفة والخبرة الصناعية..... تعتبر التنمية الصناعية ضرورية للتنويع الاقتصادي في المملكة، حيث أطلقت مشاريع متعددة في محاولة لتلبية المتطلبات الحالية والمستقبلية.... وهذا يوفر العديد من الفرص الاستثمارية للأتراك.

وتستعد أنقرة والرياض الآن لعقد منتدى اقتصادي خليجي تركي في نوفمبر المقبل في إسطنبول، والذي سيكون الأول من نوعه الذي يركز على فرص الاستثمار في التجارة والطاقة والأمن الغذائي والبنية التحتية.... ويعد تحسين التعاون الاقتصادي أمرا حاسما لتعزيز العلاقات الثنائية.

ولكن لكي يحدث ذلك، فلا بد من التركيز بشكل أكبر على استراتيجيات بناء الثقة والتوقعات بين المستثمرين، وهي المحركات الرئيسية لتعزيز العلاقات الاقتصادية كجزء من أهداف طويلة الأجل.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: احمد ياسر تركيا السعودية ايران الامن الغذائي العلاقات التركية السعودية المملکة العربیة السعودیة على المدى الطویل بین المستثمرین الأکثر أهمیة بناء الثقة

إقرأ أيضاً:

أحمد الأشعل يكتب: لماذا مصر؟ ولماذا الآن؟

لماذا تُستهدف مصر؟ ولماذا الآن بالذات؟ سؤال يتكرر كلما ارتفعت حدة الحملات ضد الدولة المصرية، وكلما بدا واضحًا أن هناك من لا يريد لمصر أن تنهض أو تستعيد دورها التاريخي والمركزي في المنطقة. وفي الحقيقة، فإن استهداف مصر لم يكن يومًا جديدًا، لكنه يشتد حين تتقدم الدولة خطوة للأمام، ويتراجع حين تتعثر أو تتباطأ. واللحظة التي نعيشها الآن هي لحظة صعود مصري حقيقي، لا على مستوى البنية التحتية فقط، بل على مستوى الإرادة الوطنية والقرار السياسي المستقل، وفي لحظات كهذه، تظهر الأيادي التي تعبث، والأصوات التي تهاجم، والحملات التي تتخفى وراء شعارات زائفة.

مصر اليوم تسترد دورها  بثبات. تخرج من دوائر الفوضى والانقسام، وتتجه نحو البناء والانضباط. مدن جديدة ترتفع من الرمال، شبكات طرق وموانئ وشرايين طاقة تقطع الصحراء، وجيش يُعاد بناؤه وتحديثه، واقتصاد يحاول أن يفك أسره من سنوات طويلة من التبعية والعجز. هذه التحركات تزعج كثيرين، داخليًا وخارجيًا. لأن مصر حين تبني وتنهض، لا تفعل ذلك بمعزل عن محيطها، بل تهدد تلقائيًا مشاريع الآخرين، وتعيد ترتيب أولويات الإقليم، وتفرض على اللاعبين الكبار أن يعيدوا حساباتهم.

وفي التوقيت نفسه، تعيش المنطقة واحدة من أكثر مراحلها اضطرابًا وإعادة التشكيل. الحدود لا تزال مرسومة بالدم، والقضايا العالقة تُدفع قسرًا نحو نهايات يراد لها أن تكون أمرًا واقعًا. ومن بين كل دول المنطقة، تبدو مصر وحدها الدولة التي استطاعت أن تحافظ على كيانها، ومؤسساتها، وجيشها، بل وتعيد صياغة علاقتها بشعبها في اتجاه جديد. ولذلك، لا غرابة أن تكون على رأس قائمة الدول المستهدفة، لأن وجود مصر قوية ومستقرة يعني بالضرورة أن مشاريع التوسع والهيمنة لا يمكن تمريرها، وأن فكرة “الفراغ العربي” لم تعد قائمة.

ثم جاء المشهد الفلسطيني ليزيد الأمور تعقيدًا. فمع تفجر الحرب في غزة، وارتكاب إسرائيل لمذابح غير مسبوقة، عادت القضية الفلسطينية إلى صدر المشهد العربي والدولي. ومصر، بطبيعتها الجغرافية ودورها السياسي، لا يمكنها أن تقف على الهامش. لكنها أيضًا لا يمكن أن تنزلق إلى فخاخ تم رسمها بعناية. مصر رفضت أن تكون جزءًا من مخطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. رفضت أن تُستخدم معبرًا لقتل القضية الفلسطينية تحت عنوان “المساعدة الإنسانية”. وتمسكت بموقفها الثابت: لا لتصفية القضية، لا لتغيير الطبيعة الديموغرافية لغزة، ولا لمشاريع الوطن البديل. هذه المواقف لم تعجب كثيرين، وبدأت حملة ممنهجة لتشويه صورة مصر، واتهامها زورًا بالتقصير أو التواطؤ، بينما الحقيقة أن مصر وحدها التي تتعامل مع الموقف بحسابات دقيقة ومسؤولية تاريخية.

لكن في زمن الحروب الجديدة، لم يعد العدو يطرق الأبواب بالدبابات، بل يدخل من نوافذ الإعلام، ومواقع التواصل، والمحتوى المموَّل. تُصنع حملات التشويه ببراعة، وتُزرع الشائعات باحتراف، ويُصوَّر كل تقدم على أنه فشل، وكل إنجاز على أنه وهم. يُستهدف وعي المواطن، ويُدفع الناس دفعًا إلى الشك واليأس والانسحاب من المشهد. كل هذا يحدث لأن مصر بدأت تقول “لا”، وتخط طريقها وفقًا لأولوياتها، لا وفقًا لأوامر تأتي من الخارج.

تتعقد المشهد أكثر إذا وضعنا ذلك في سياق عالمي مشحون. فالعالم كله يعيش حالة من الفوضى غير المعلنة. القوى الكبرى تتصارع من خلف الستار، الأزمات الاقتصادية تطحن الجميع، وسباق السيطرة على الموارد والمواقع الإستراتيجية بلغ ذروته. في وسط هذا الجنون، تظل مصر قطعة أساسية في لوحة الشطرنج الدولية. دولة بحجمها وسكانها وموقعها لا يمكن تجاهلها، لكنها أيضًا لا يمكن السماح لها بأن تكون مستقلة بالكامل دون ثمن. ومن هنا، يأتي الضغط، تارة من مؤسسات مالية، وتارة من تقارير دولية، وتارة من “ناشطين” و”صحفيين” و”حقوقيين” يظهرون فجأة كلما قررت الدولة أن تمضي في مسارها دون استئذان.

إذًا، لماذا مصر الآن؟ لأن مصر ترفض الانحناء. لأنها تُعيد تعريف دورها في محيطها العربي والإفريقي. لأنها تقود مبادرات تنموية حقيقية وليست شعارات. لأنها توازن بين علاقاتها شرقًا وغربًا دون أن تُستَتبَع. لأنها تتحدث عن الصناعة والزراعة والموانئ والمناطق اللوجستية، لا عن الفوضى والحروب. لأن مصر ببساطة تختار أن تكون دولة ذات سيادة، تدير شؤونها من داخلها لا من سفارات أو عواصم أجنبية.

إن من يهاجمون مصر اليوم لا يفعلون ذلك حبًا في الشعوب، ولا دفاعًا عن حقوق الإنسان، بل لأنهم يدركون أن عودة مصر إلى مكانها الطبيعي تعني أن اللعبة ستتغير، وأن شعوبًا أخرى ستطالب بما طالبت به مصر: بالكرامة، والاستقلال، والتنمية، وبأن تكون شريكًا لا تابعًا. لهذا، تُستهدف مصر. ولأنها تختار النهوض الآن، يُفتح عليها النار الآن.

ورغم كل هذا، فإن الشعب المصري الذي عبر محنًا لا تُحصى، يظل هو الرهان الحقيقي. لأنه يمتلك حسًا تاريخيًا يعرف متى تكون الحرب حربًا على الوطن، ومتى تكون الأزمات مفتعلة، ومتى تكون الأكاذيب أكبر من أن تُصدق. الشعب المصري لا يخون تاريخه، ولا يبيع بلده، ولا يترك دولته وحيدة في وجه العاصفة. ولهذا، فإن مصر ستظل، رغم كل شيء، قادرة على الصمود، لأنها لم تقرر فقط أن تبقى… بل قررت أن تتقدم، وهذا هو السبب الحقيقي وراء استهدافها.

طباعة شارك الدولة المصرية المشهد الفلسطيني غزة إسرائيل

مقالات مشابهة

  • ليبيا وتونس تعززان العلاقات الاقتصادية.. مذكرة تفاهم بين غرفتي زليتن وصفاقس
  • ريكسوس أبحر جدة يولي شركة "بريزن" مسؤولية العلاقات العامة استعدادًا لإطلاقه في المملكة العربية السعودية
  • سفير فلسطين لدى المملكة: الاتفاقيات الموقعة بين السعودية وبلادنا رسالة واضحة للعالم
  • صور.. إصدار أول رخصة بناء باشتراطات "العمارة السعودية" في الأحساء
  • إصدار أول رخصة بناء وفق العمارة السعودية بالأحساء
  • عاجل: صور.. إصدار أول رخصة بناء باشتراطات "العمارة السعودية" في الأحساء
  • أحمد ياسر يكتب: مصر.. التاريخ والعنوان
  • مدير الأمن العام: المملكة حريصة على بناء منظومة متكاملة لمكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (رصف الدخان)
  • أحمد الأشعل يكتب: لماذا مصر؟ ولماذا الآن؟