أثير – د. سعيد محمد السيابي

العاشر من سبتمبر هو التاريخ الذي رحل فيه اثنان من أشهر الملحنين في مصر والعالم العربي، وبرحيلهما توقفت صفحة بصمات كانت تسجّل باسم الإبداع العربي عموما والمصري خصوصا، فالموسيقيان اللذين لحن الأول منهما نشيد “بلادي بلادي بلادي” والآخر الذي لحن “الأطلال” رحلا بجسيدهما لكن أعمالهما وبصماتهما وعلاماتهما المميزة تعيش بعدهما عمرا آخر.

كلما أتى شهر سبتمبر تستذكر الأوراق الثقافية والفنية خبر الرحيل وكأنه حادث جديد فما تزال الإذاعات العربية ومواقعها تبث هذه الألحان المميزة، وأجيال من المستمعين يتناقلون محبتهم لهذه النتاجات الفنية التي تم إتقانها وتسجيلها مع أصوات كبار المطربين وفي مختلف المناسبات الوطنية والاجتماعية والدينية.

فسيد درويش الملقب “بفنان الشعب” صاحب الاسم الحقيقي السيد درويش البحر، هو ابن الإسكندرية عروس المتوسط، ومنها صدح بأول الأناشيد الغنائية عندما كان يقضي الأوقات مع أصدقائه وأثناء العمل الذي التحق به مبكرًا في أعمال البناء والمقاهي، ثم ذاع صيته لينتقل للتلحين للفرق المسرحية المصرية التي كان تقديم الأغاني والموسيقى جزءا أصيلا من برامجها وإنتاجها، وعشق الجمهور ذلك التمازج بين التمثيل والغناء داخل المسرحيات المقدمة على المسارح وكان يحرص على حضورها، فقدّم درويش ألحانًا لفرقة مسرح نجيب الريحاني، وجورج أبيض، وعلي الكسار، ولحّن الأوبرياتات والأغاني الوطنية والأهازيج والأناشيد الحماسية.

حدث هناك التماس بين منجز سيد درويش الملحن ومحبة الشعب المصري كبيرة، فكان درويش يغني باسمهم وطموحاتهم وأحلامهم وحتى معاناتهم، وشاركهم ما يشعرون به من تقلبات وأحوال تاريخية، فقد عاصر الوجود الإنجليزي في مصر والملكية وناصر الجيش المصري ولحن من أقوال الزعيم المصري الكبير مصطفى كامل النشيد الوطني” بلادي بلادي بلادي.. لكِ حبي وفؤادي” الذي كتب كلماته الشاعر محمد القاضي واعُتمد كنشيد وطني عام 1979م بعد أن أعاد توزيعه الموسيقار محمد عبدالوهاب.

لقد عاش سيد درويش حياة عمرية قصيرة فقد توفي في العاشر من سبتمبر عام ١٩٢٣م عن عمر واحد وثلاثين عاما، فهي حياة قصيرة نسبيا ويعد في أوج الشباب إلا أن ما قدّمه من أعمال وبصمات فنية وضعته في صف الكبار الخالدين فنيا الذين نستذكر إنتاجهم وإخلاصهم ومحبتهم لأوطانهم وشعبهم حتى تظل أسماؤهم تتداول كثيرا متى ما لاحت ذكرى رحيلهم، فالعمر لا يقاس بطول العيش بل بالبصمات التي نتركها على الأرض، فدرويش واحد من أولئك الذين زينوا أسماعنا بلحن الأرض وعذوبته واجتهدوا في العيش ليستمر ذكرهم بين الأجيال المتعاقبة التي حملت لواء الإضافة والتجديد للأصالة الفنية العربية.

كما تأتي وفاة رياض السنباطي في العاشر من سبتمبر عام ١٩٨١م وهو ابن القرية من دمياط ليحمل روحه التواقة التي تشبعت من اجتهاد أبيه الذي كان مقرئًا في الموالد والأعياد الدينية ليكون سندا له وأحد أبرز أعضاء فرقته التي جمعته محبة الإنشاد مع والد المطربة أم كلثوم لتكون هذه المعرفة خيط وصل أقامها الآباء ليجني ثمرها الأبناء، فبمجرد اللقاء والتواصل في القاهرة بين رياض السنباطي وأم كلثوم وانطلاق التعاون الفني واللحني بأغنية “على بلد المحبوب وديني” حتى استمر الاثنان في تقديم الألحان والأغاني لتصل إلى خمسة وتسعين لحنًا.

شارك السنباطي في الكثير من المناسبات المصرية الوطنية والاجتماعية وغنى له كبار المطربين والمطربات كمنيرة المهدية وفايزة أحمد وأسمهان ووردة وميادة الحناوي ونجاة الصغيرة ومحمد عبدالمطلب وطلال مداح وسميرة سعيد وأخيرا عزيزة جلال، فكانت ألحانه تتنقل بين الأغاني العاطفة وأحلى الأغاني العربية. وبفقده خسر اللحن العربي أحد أعمدته المجدد والمميز والمبدع فيما قدمه من مدرسة لحنية استطاعت أن تتجاوز شهرتها حدود مصر لتصل لكل القلوب العربية.

تغييرات كثيرة حدثت في مصر وعالمنا العربي، لكن بقيت ألحان سيد درويش ورياض السنباطي في مكانتها وقيمتها الفنية ولا يختلف عليها اثنان في محبتها والاستذكار لها والإشادة بموهبة حقيقية كانت لها بصماتها ومنجزها الإبداعي، لهذا ترحل الأجساد الفانية وتبقى الأعمال الخالدة ومحبتها التي منحتها الشعوب وتوارثتها الأجيال المتعاقبة، ونقول ونردد ألحان “القلب يعش كل جميل”.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: الفاشر تحتضر ..!

تعيش مدينة الفاشر تحت حصار خانق تفرضه ميليشيا الدعم السريع منذ أكثر من عام، في ظل انهيار تام في الخدمات، وظلال مجاعة باتت تُخيّم على سكانها الذين يتجاوز عددهم مئات الآلاف. ورغم هذه الكارثة الإنسانية، لم يتخذ مجلس الأمن الدولي خطوات عملية ترتقي إلى حجم المأساة.

في يونيو 2024، تبنّى المجلس قراره رقم 2736، الذي طالب بوقف الحصار فورًا، وخفض التصعيد في الفاشر ومحيطها، وضمان حماية المدنيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية. إلا أن هذا القرار بقي حبراً على ورق، بلا أدوات تنفيذية، بينما تتدهور الأوضاع المعيشية في المدينة بوتيرة متسارعة.

وقد أكد الخبير الأممي المعني بحالة حقوق الإنسان في السودان، رضوان نويصر، أمس أن أولويات عمله تتركز في أربعة ملفات أساسية: حماية المدنيين، تسهيل وصول المساعدات، المساءلة، وعدم الإفلات من العقاب، إضافة إلى ضمان حرية عمل المنظمات الإنسانية والحقوقية. وفي لقاء محدود مع الصحفيين،عبّر عن قلقه من استمرار التدهور، مشيرًا إلى غياب أي تطورات ملموسة على الأرض.

في المقابل، صدرت تصريحات متباينة من الحكومة. ففي مؤتمر صحفي بمدينة بورتسودان في يوليو 2025، أعلنت الحكومة السودانية أن رؤيتها الإنسانية تقوم على مبدأ تقديم الدعم للجميع دون تمييز ديني أو عرقي أو جهوي. كما أكدت فتح المعابر والمسارات والمطارات، بما في ذلك المنافذ الخارجة عن سيطرتها – مثل معبر أدري الحدودي مع تشاد – لاستقبال المساعدات، وتم تمديد فتحه لثلاثة أشهر إضافية. وجاء ذلك بالتزامن مع إعلان رسمي بقبول هدنة إنسانية في الفاشر، استجابة لمقترح من الأمم المتحدة لتأمين وصول المساعدات إلى السكان المحاصرين.

من جانبه، أوضح الفريق الركن الصادق إسماعيل، مستشار مجلس السيادة للشؤون الإنسانية، أن ولايتي شمال دارفور وجنوب كردفان من أكثر المناطق تضررًا واحتياجًا، داعيًا المنظمات إلى تكثيف جهودها بعد فتح المسارات. كما أعلنت الحكومة تشكيل لجنة طوارئ وطنية لدعم مفوضية العون الإنساني.

أما المفوضة سلوى آدم بنية فكشفت عن كارثية موجات النزوح الأخيرة، مشيرة إلى فرار نحو 1.3 مليون شخص من مناطق القتال، بينهم أكثر من نصف مليون من مخيم زمزم إلى الفاشر، وعشرات الآلاف من أبو شوك وطويلة إلى داخل الأراضي التشادية.

ورغم هذه الخطوات الرسمية، تبقى الاستجابة على الأرض دون المستوى المطلوب. فلم يُسجّل أي تحرك عسكري فعّال لفك الحصار أو تأمين خطوط الإمداد نحو الفاشر. والجيش السوداني، رغم امتلاكه القدرات البشرية واللوجستية، لم يطلق حتى الآن أي عملية باتجاه المدينة.. علماً بأن آلاف المقاتلين من القوات المشتركة “حركات سلام جوبا” متواجدون في الخرطوم ، بحسب تقرير لقناة “العربية”. ويرى مراقبون أن الحصار كان من الممكن فكّه سريعًا، لو تحركت هذه القوات المجهّزة لجبهة القتال كما حدث في معارك سابقة أثبتت فيها قدرتها على تفكيك تمركزات الميليشيات.

وما يعمّق المأساة أن الفاشر أصبحت على حافة مجاعة حقيقية. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة بتاريخ 8 يوليو 2025، فإن 38% من الأطفال دون سن الخامسة في المدينة يعانون من سوء تغذية حاد، بينما يعاني 11% منهم من حالات حرجة تهدد حياتهم. وقد وصف والي شمال دارفور، الحافظ بخيت، الأوضاع بأنها “لا تُطاق”، موضحًا أن السكان يعتمدون على “الأمباز” – بقايا الفول السوداني المخصص عادةً لعلف الحيوانات – كغذاء رئيسي، في ظل غياب تام للسلع الأساسية، حيث تجاوز سعر ربع جوال الدخن نصف مليون جنيه سوداني.

وفي تطور لافت، أعلن مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، استعداده للانفتاح على تحالف “صمود”، بل وحتى مع ميليشيا الدعم السريع إذا أبدت التزامًا إيجابيًا، قائلاً: “الجميع سودانيون ويجب أن نتحرك معًا نحو السلام”. وهو خطاب يعكس مرونة تكتيكية وربما سعيًا لبناء تفاهمات جديدة لتخفيف التوتر على الأرض، رغم الانتهاكات الجسيمة التي ما تزال ترتكبها الميليشيا في الفاشر، حسب تقارير محلية ودولية موثقة.

لذلك على المجتمع الدولي، وفي مقدمته مجلس الأمن، أن يتحمل مسؤوليته في تحويل قراراته إلى أدوات تنفيذية فعالة، تتضمن الضغط الجاد على ميليشيا الدعم السريع، وتفعيل آليات الإسقاط الجوي العاجل للمساعدات، وفرض وقف إطلاق النار الإنساني الذي وافقت عليه الحكومة السودانية.

كما أن على الحكومة السودانية أن تتحمل مسؤولياتها كاملة، بتحريك قواتها نحو الفاشر، وتأمين الطرق والمطار، وفرض واقع ميداني جديد يُنهي الحصار.

فما يحدث في الفاشر ليس مجرد أزمة إنسانية، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة السودانية على حماية مواطنيها، واختبار لمدى جدية المجتمع الدولي في الوقوف إلى جانب المدنيين في مناطق النزاع.

بحسب ما نراه من#وجه_الحقيقة لقد تجاوزت المأساة حدود الاحتمال، وبات الصمت شكلًا من أشكال التواطؤ. وإذا لم تُتخذ خطوات حقيقية خلال الأيام القادمة، فقد تسقط الفاشر ليس فقط تحت الحصار، بل في ذاكرة العالم كنقطة سوداء على جبين الإنسانية.
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
الأربعاء 30 يوليو 2025م [email protected]

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • إدارة الإعلام والاتصال في وزارة الدفاع لـ سانا: تقوم وحدات الجيش العربي السوري في هذه اللحظات بتنفيذ ضربات دقيقة تستهدف مصادر النيران التي استخدمتها قوات “قسد” في قصف قرية الكيارية ومحيطها بريف منبج، وقد تمكنت قواتنا من رصد راجمة صواريخ ومدفع
  • طرح البوسترات الفردية لأبطال فيلم درويش
  • طرح البوسترات الفردية لأبطال فيلم «درويش»
  • طرح البوستر التشويقي لـ دينا الشربيني في فيلم «درويش» قبل عرضه
  • المجالي يكتب : من هو معالي ابو الحسن يوسف العيسوي
  • د. عبدالله الغذامي يكتب: مثل شجرة سقطت في غابة
  • وزارة الخارجية السورية: الوفد التقني للوزارة الذي يزور ليبيا الشقيقة بهدف تسوية الأوضاع القانونية للمواطنين السوريين، يعلن عن قيامه بتقديم مجموعة من الخدمات القنصلية العاجلة للأخوة المواطنين تسييراً لأوضاعهم وذلك ريثما يتم افتتاح سفارة الجمهورية العربية ا
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الفاشر تحتضر ..!
  • “إلى أين؟”.. عرض ليبي يُجسّد القلق الوجودي ضمن مهرجان المونودراما العربي في جرش 39 اللجنة الإعلامية لمهرجان جرش بحضور ممثل عن السفارة الليبية في عمان، وجمع غفير من عشاق المسرح، وضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان المونودراما المسرحي، قدّمت ا
  • د. هاني العدوان يكتب ..