عدو الحداثة وصديق أمبرتو إيكو.. رحيل الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو
تاريخ النشر: 21st, September 2023 GMT
رحل عن عالمنا مساء أول أمس الثلاثاء الفيلسوف والسياسي الإيطالي جياني فاتيمو عن عمر يناهز 87 عاما بعدما نقل إلى المستشفى خلال الأيام الماضية نتيجة لسوء حالته الصحية.
ويعد الأكاديمي الراحل من أشهر الفلاسفة الإيطاليين ومن أكبر دعاة "الفلسفة التأويلية" على المستوى العالمي، والتي تشير إلى تطور دراسة نظريات تفسير وفن دراسة وفهم النصوص في فقه اللغة والنقد الأدبي، وقد ترجمت كتابات فاتيمو إلى عدد كبير من اللغات، بينها العربية التي ترجم إليها كتابه "نهاية الحداثة".
فاتيمو أكد في كتاباته على تاريخية ومحدودية الحالة الإنسانية ومركزية اللغة والتفسير، ليس فقط في فهم العمل الفني، لكن في كل أشكال الخبرة الأخرى.
نشط صاحب كتاب "مغامرة الاختلاف.. الفلسفة بعد نيتشه وهايدجر" في أحزاب يسارية إيطالية، وانتخب عضوا بالبرلمان الأوروبي في عام 1999 ثم لولاية أخرى عام 2009، وعرف بمواقفه الناقدة بشدة لإسرائيل والداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني.
وكان أحد الموقعين على عريضة نشرت يوم 28 فبراير/شباط 2009، داعيا الاتحاد الأوروبي إلى إزالة حماس من قائمة المنظمات الإرهابية، ومنحها الاعتراف الكامل كصوت مشروع للشعب الفلسطيني.
وفي 22 يوليو/تموز 2014 وردا على الحرب الإسرائيلية على غزة قال إنه يجب "الرد على أولئك الصهاينة، لو كان الأمر بيدي لدعوت إلى اكتتاب عالمي لشراء أسلحة للفلسطينيين لوقف الإسرائيليين الذين يقومون بذبح جماعي لهم".
وفي العام 2013 حرر فاتيمو كتاب "تفكيك الصهيونية.. نقد الميتافيزيقا السياسية" الصادر عن دار بلومزبري البريطانية للنشر، ضمن سلسلة النظرية السياسية والفلسفة المعاصرة، مقدما نقدا سياسيا وفلسفيا للصهيونية.
ويعتبر الكتاب أنه في حين تكيفت القوميات الأخرى مع حقائق القرن الـ21 والمفاهيم المتغيرة للدولة والأمة ظلت الصهيونية إلى حد كبير مقيدة بعقلية القرن الـ19، بما في ذلك تمجيد الدولة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للتعبير عن روح الشعب.
وشارك في الكتاب مفكرون عالميون بارزون، بمن في ذلك الفيلسوف السلوفيني الشهير سلافوي جيجيك، ولوس إيريغاري، وجوديث بتلر، وآخرون، مفككين الأساطير السياسية "الميتافيزيقية" التي تشكل إطار وجود إسرائيل.
ويقدم الكتاب نقدا متعدد الأوجه للأسس اللاهوتية والسياسية للمشروع الصهيوني والنتائج الاقتصادية والجيوسياسية والثقافية لهذه الأسس، ويعد مساهمة كبيرة في المناقشات المحيطة بدولة إسرائيل اليوم.
سيرة فيلسوف إيطاليولد فاتيمو في تورينو بإيطاليا في 4 يناير/كانون الثاني 1936 باسم "جيانتيريسيو"، ودرس الفلسفة على يد الوجودي لويجي باريسون في جامعة تورينو، وتخرج عام 1959.
وفي عام 1963 انتقل إلى هايدلبرغ، ودرس مع الفلاسفة كارل لويث وهابرماس وهانز جورج غادامير بمنحة من مؤسسة ألكسندر فون هومبولت.
وفي تورينو أصبح فاتيمو أستاذا مساعدا في عام 1964 ثم أستاذا متفرغا لعلم الجمال في عام 1969، وأثناء بقائه في المدينة المزدهرة الواقعة شمال غربي إيطاليا أصبح أستاذا للفلسفة النظرية في عام 1982، وكان أستاذا زائرا في عدد من الجامعات الأميركية.
وكان زميله الروائي والفيلسوف الإيطالي أومبرتو إيكو الذي شارك معه الصداقة والاهتمامات، وتخرج في الفلسفة عام 1959 بجامعة تورينو.
كان فاتيمو أيضا من بين رواد التلفزيون الإيطالي مع إيكو، حيث اشتركا معا في عام 1954 وفازا في مسابقة "راي" لتوظيف مسؤولين جدد، وتركا مؤسسة التلفزيون في أواخر الخمسينيات.
وفي بداية الثمانينيات اشتهر باقتراحه المرتبط بالأفق النظري لفكر نيتشه وهايدجر، وأيضا بالنقاش بشأن ما بعد الحداثة بعد أن رأى فيها "فكرا ضعيفا" يتخلى عن الفلسفة.
يبحر كتاب "نهاية الحداثة.. العدمية والتأويل في ثقافة ما بعد الحداثة" -الذي نشر عام 1991- في الموضوعات المعقدة والفلسفية المحيطة بالانتقال من الحداثة إلى ما بعدها، ويستكشف مفهوم العدمية، وهو الإيمان بغياب المعنى أو القيمة المتأصلة في الحياة وكيف أصبح عقلية سائدة في الثقافة المعاصرة.
درس مؤلف "نيتشه.. الفلسفة كنقد ثقافي" علم التأويل ونظرية التفسير والفهم ودورها الحاسم في سياق ما بعد الحداثة، ويجادل الكتاب في أنه مع تآكل المصادر التقليدية للمعنى والسلطة في عالم ما بعد الحداثة يلجأ الأفراد إلى التفسير وإعادة التفسير لفهم وجودهم.
في جوهره، يقدم "نهاية الحداثة" تحليلا ثاقبا للتحولات الفكرية والثقافية التي أدت إلى الشعور بخيبة الأمل وعدم اليقين في عصر ما بعد الحداثة، مع التركيز على أهمية التفسير والتأويل كأدوات للتنقل في هذا المشهد الجديد.
ويحتل جياني فاتيمو مكانتين نادرتين نسبيا باعتباره فيلسوفا بارزا وسياسيا، وباهتمامه بتحولات المسيحية كما في كتابه "المسيحية والحقيقة والإيمان الضعيفة"، و"مستقبل الدين"، وكذلك النقد الفني كما في كتابته "مطالبة الفن بالحقيقة"، وتوجهه السياسي الاشتراكي الديمقراطي.
وقدم فاتيمو للمكتبة الفلسفية والسياسية 19 كتابا، وبلغت مساهماته الأكاديمية مئات الأوراق العلمية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی عام
إقرأ أيضاً:
رحيل بيبي أيقونة اليسار والعجوز الفقير (بورتريه)
لم يكن يتمتع، أثناء رئاسته لبلاده، بالحراسة المشددة كبقية رؤساء العالم.
حظي بمكانة رفيعة في أوروغواي، واعتبر أيقونة اليسار في أمريكا اللاتينية.
يلقب بـ"العجوز الفقير"، حيث كان زاهدا في حياته حتى بعد وصوله إلى كرسي الحكم.
كان رمزا لنهضة اليسار في أمريكا اللاتينية وحافظ على سمعته بالنزاهة والبساطة.
لم يعرف بخطاباته الرنانة، بل بإنجازاته السياسية الملموسة.
خوزيه ألبرتو موخيكا كوردانو، الذي يعرف اختصارا باسم خوزيه موخيكا ويلقب منذ صغره باسم "بيبي"، ولد في عام 1935 بضواحي مونتيفيديو عاصمة أوروغواي لأسرة متواضعة، إذ كانت والدته عاملة في مجال البستنة، بينما كان والده مربي ماشية.
تلقى تعليمه الأساسي والثانوي في مونتيفيديو، ثم التحق بمعهد لدراسة القانون لكنه لم يكمل دراسته، وفضل الانخراط في العمل النضالي والثوري.
انضم في شبابه إلى "الحزب الوطني"، وبعد أن خاب أمله من الحزب انضم إلى جماعة "إصلاح الجامعة"، وفي تلك الفترة شكلت المقاومة طريق موخيكا إلى العمل الثوري، فانضم في شبابه إلى "التوباماروس" وهي جماعة حرب عصابات يسارية عارضت الحكم الديكتاتوري في أوروغواي.
ودفع ثمنا باهظا لمواقفه فقد أطلق عليه الرصاص عدة مرات، وقضى 14 عاما في السجن، معظمها في الحبس الانفرادي، وتحت التعذيب والعزل بينها عامان في قاع بئر.
وفي عام 1985، بعد أسبوعين من تولي الرئيس خوليو ماريا سانغوينيتي منصبه وإعادة تشكيل حكومة ديمقراطية في البلاد، أطلق سراح موخيكا وباقي السجناء السياسيين بموجب عفو عام.
بعد استعادة الديمقراطية، دخل موخيكا المعترك السياسي، وشارك في تأسيس "ائتلاف الجبهة العريضة".
انتخب موخيكا نائبا في مجلس النواب في عام 1995، ثم عضوا في مجلس الشيوخ عام 2000 ، وفي عام 2005 أدى موخيكا اليمين الدستورية زعيما لمجلس الشيوخ وشغل منصب وزير الزراعة في الفترة ما بين 2005 و2008.
ترشح للانتخابات الرئاسية في عام 2009 وتولى الرئاسة في عام 2010 وبقي في منصب رئيس الجمهورية حتى عام 2015.
وعندما اتهمه منتقدوه بالتقصير أثناء فترة رئاسته في مقاضاة العسكريين المسؤولين عن حالات الاختفاء والتعذيب في فترة الديكتاتورية، رد بأنه "قرر عدم تحصيل الديون المستحقة له على سجانيه"، لأنه في نظره "هناك جروح لا تُشفى، وعلى المرء أن يتعلم كيف يواصل حياته".
رغم ماضيه، لم يحكم موخيكا بالانتقام، بل بالمصالحة. كان يردد دائما "أنا لا أكره"، متأملا سنوات سجنه.
عرض موخيكا على المسؤولين عن الشؤون الاجتماعية في حكومته في شتاء عام 2014 بفتح أبواب قصره الرئاسي للأشخاص المشردين في حال عدم اكتفاء مراكز إيواء المشردين في العاصمة.
وصف بـ"أفقر رئيس في العالم" بسبب أسلوب حياته التقشفي وتبرعه بقرابة تسعين في المئة من راتبه الشهري الذي يساوي 12 ألف دولار للجمعيات الخيرية والشركات الناشئة.
كان ينتقد النزعة الاستهلاكية ويدعو إلى البساطة، ويرى أن السعادة الحقيقية في عدم امتلاك الأشياء.
اقتنى خوزيه سيارة "فولكس فاجن بيتيل" صناعة عام 1987، ذات اللون الأزرق الفاتح، وأقام في مزرعة بسيطة في منزل بالقرب من العاصمة مونتفيدو تمتلكه زوجته لوسيا توبولانسكي، عضو مجلس الشيوخ الأروغواني وزميلته في جماعة "توباماروس" اليسارية المسلحة، التي بدورها تبرعت هي الأخرى بجزء من راتبها بهدف تحفيز مشاريع الشباب والمشاركة في الأعمال الخيرية.
أعلن في عام 2024 تشخيص إصابته بسرطان المريء، والذي تم اكتشافه أثناء الفحص البدني، وتفاقمت حالته الصحية بسبب مرض مناعي ذاتي موجود لديه سابقا. وعلى الرغم من مرضه شارك في الحملة الرئاسية الناجحة للمرشح ياماندو أورسي، مرشح "الجبهة العريضة" في الانتخابات العامة عام 2024.
أخبر موخيكا صحيفة "بوسكيدا" أن السرطان قد انتشر إلى كبده وأنه يحتضر، وأنه قرر التخلي عن المزيد من العلاج، وقال يومها: "من الواضح أنني أموت. يستحق المحارب أن يستريح".
بعد خمسة أشهر دخل في حالة حرجة ، ويوم الثلاثاء الماضي توفي موخيكا قبل أسبوع من عيد ميلاده التسعين، بمزرعته على مشارف مونتيفيديو، وأعلنت الحكومة الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام حيث أقيمت جنازته قبل يومين. توفي رمز "المد الوردي" في أمريكا اللاتينية.
واجتمع قادة يساريون من جميع أنحاء أمريكا اللاتينية في القصر التشريعي في أوروغواي لتكريم الرئيس "بيبي" وتقدم الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا مراسم التأبين، واصفا موخيكا بأنه "إنسان عظيم" تغلب على التعذيب والسجن دون مرارة. امتلأت عينا لولا بالدموع وهو يعانق أرملة موخيكا، لوسيا توبولانسكي، وقاد الرئيس ياماندو أورسي، تلميذ موخيكا، مراسم الأوروغواي الرسمية.
كان موخيكا يرتدى الأقحوان، ويجري مقابلات وهو يرتدي "شبشبا". وفي بيته المتواضع التقى بالجميع، من حائزي جوائز نوبل إلى نجوم الروك العالميين إلى قادة العالم.
عندما سئل في مقابلة صحفية عام 2020 عما إذا كان يشعر بأنه مدين باعتذار لشعب أوروغواي لمشاركته في أعمال عنف في الستينيات من القرن العشرين، أجاب "نعم، أنا مدين له بذلك. عندما دعانا الشعب الأوروغوياني للقتال في الشوارع لمواجهة الدكتاتورية، لم نكن هناك كنا في السجن. هذا هو الاعتذار الذي أقدمه له".
لم يكن يحب الرسميات، إذ لم يرتد ربطة عنق في فترة رئاسته، وكان يتحدث بلغة بسيطة وأحيانا فظة، لكن أسلوب حياته المتقشف ورسالته المناهضة للاستهلاك أكسباه شعبية داخل الأوروغواي وخارجها، وخاصة في صفوف الفقراء.
وفي مناسبة أخرى علق على وصفه بأنه "أفقر رئيس في العالم"، وقال "عالمي هو هذا، ليس أفضل ولا أسوأ، إنه عالم آخر"، نعم عالم آخر من البساطة والفخر والنزاهة والتقشف الذي حول رجلا فقيرا إلى أيقونة.