حق العودة يضيع.. صوت يتردد صداه في أزقة مخيم عين الحلوة
تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT
عين الحلوة- على أحد جدران مخيم عين الحلوة كُتب شعار "القدس عاصمة فلسطين الأبدية"، وفي زاوية أخرى منه أطفال يحملون بنادق بلاستيكية ويريدون تحرير فلسطين والعودة إليها ولكن الاشتباكات الأخيرة في المخيم -والتي تعد الأعنف والأطول مدة- دفعت الناس للتساؤل والخوف على "حق العودة".
تلاحقنا نظرات الناس في كل خطوة نخطوها داخل المخيم ولسان حالهم يقول أو يسأل: هل هناك مؤامرة تستهدف تهجيرهم وتدمير مخيمهم؟ فأينما تيمم وجهك في محاور الاشتباكات لا ترى سوى الدمار، شقق محروقة ومدمرة ومحلات يحاول أصحابها إخراج ما تيسر منها لأنها لم تعد صالحة لا للبيع ولا للشراء.
أعادت الاشتباكات -التي اندلعت في مخيم عين الحلوة بين حركة فتح و"تجمع الشباب المسلم"- للفلسطينيين المخاوف من تصفية قضيتهم وشطب حق العودة الذي نص عليه القرار الدولي 194، على اعتبار أن المخيم هو عاصمة الشتات الفلسطيني ويمثل رمزية معنوية لهذا الحق والعودة إلى فلسطين، هم يتحملون مرارة النكبة ومعاناة اللجوء منذ 7 عقود ونيف على أمل تحقيق حلم أجدادهم وآبائهم الذي تحول إلى وصايا لا تموت.
إلى فلسطين مشياإحدى السيدات التي أرادت أن تكسر هذا الصمت القاتل في المخيم هي أم أحمد حوراني التي قالت إنها مستعدة للسفر مشيا إلى فلسطين، متمنية أن "تموت في بلادها".
وتابعت "نحن لا نخاف لأننا اختبرنا حروبا كثيرة وصمدنا وواجهنا"، وختمت "أخاف أن أخسر حقي في العودة إلى فلسطين".
وفي السياق نفسه، يجزم محمد مجذوب -وهو أحد سكان المخيم- أن "هناك مؤامرة لشطب حق العودة، لأول مرة في المخيم تستمر الاشتباكات لشهرين متتالين والناس لم يعودوا مطمئنين لمصيرهم داخل المخيم، أغلبية سكان المخيم نزحوا عنه خوفا على حياتهم".
وتابع أن "حق العودة يتضاءل، والمعارك الأخيرة تهدف إلى تدمير المخيم وليس تسليم المطلوبين، والكل يساهم بهذا الموضوع أكبر من الميدان وقياداته".
ويذهب الحاج محمد طه من بلدة صفورية بمخيم عين الحلوة أكثر من التحليلات السطحية ليشير إلى أن "صفقة القرن الأميركية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب جاءت لتكشف بوضوح عن المخطط المشبوه الهادف إلى شطب حق العودة من خلال إسقاط صفة "لاجئ" على صغار السن الذين ولدوا خارج فلسطين، وحصرها بكبار السن الذين رحلوا في معظمهم، متسائلا: كيف لا نخاف بعد ذلك على شطب حق العودة وفرض التوطين؟".
ويؤكد الشاب يحيى ميعاري من بلدة عكبرة أن جيل ما بعد النكبة ولد في لبنان ولم ير فلسطين ولكنه حفظها عن ظهر قلب من آبائه وأجداده، ولكن في وجدانه لا يزال يصر على العودة ويتحمل صعوبات الحياة، ويعيش الحرمان من أجل تحقيق هذا الهدف، مشددا على أنه لا يمكن لأي جيل فلسطيني التنازل عن هذا الحق أو القبول بالتفاوض عليه.
وتزامن وجودنا في مخيم عين الحلوة مع انتشار القوى الأمنية المشتركة والتي تتألف من كافة الفصائل الفلسطينية، والتي تهدف لتثبيت وقف إطلاق النار وتثبيت الهدنة وطمأنة سكان المخيم.
ويقول قائد هذه القوى اللواء محمود العجوري إن "هذه خطوة أولى إيجابية على أن تليها خطوة إخلاء المدارس بالتزامن خلال 48 ساعة، على أن يعود الأمن والاستقرار للمخيم وعودة أهلنا إلى المخيم".
وتابع العجوري للجزيرة نت أن "المخاوف من تجدد الاشتباكات لأن هناك أشخاصا لا يريدون لهذا المخيم الاستقرار، لكن كل القوى الوطنية والتيارات الإسلامية مصرة على تثبيت الاستقرار".
ولكن لكي نكتشف عما كان إذا يتحدث سكان المخيم والخوف الذي ينتابهم والقلق على حق العودة كان علينا الوصول إلى خطوط التماس بين المتقاتلين، فكان لافتا حجم الدمار الكبير في هذه الأحياء والسلاح الثقيل الذي استخدمت في الاشتباكات والتي خلفت 27 قتيلا وأكثر من 200 جريح.
وفي حي حطين -الذي شهد معارك ضارية استخدمت فيها الصواريخ- يقول فضل دحابرة الذي دمر واحترق منزله ومنزل ولده إنه "يسكن في المخيم منذ 1994، لم نشهد اشتباكات بهذا الحجم والضراوة، كانت حربا بكل ما للكلمة من معنى، فمنزلي ومنزل ولدي دمرا واحترقا بالكامل وتحول المنزلان إلى أطلال".
وختم بأن "ما نريده هو عودة الهدوء والسلام إلى مخيمنا وأن نسكن منازلنا بأمان ونعود كما كنا في السابق الصديق يحب صديقه والجار يزور جاره".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: مخیم عین الحلوة سکان المخیم إلى فلسطین فی المخیم
إقرأ أيضاً:
فلسطين.. وهم «الدولتين» وعبء العدالة المعلّقة
سيظلّ الضمير العربي يعيش أزماته الوجودية أمام ما يجري في فلسطين؛ بل لعلّه لن يفعل سوى ذلك، وهو أن يمتحن نفسه بالألم كلّما انفتح الجرح في جسد القضية، ثم يستسلم لحالات من الإحباط الجماعي. إنّها حالة تتقادم، لتنشط في سياقات بعينها، ثم تموت، وما بين الانفعال والذبول تتجلّى مأساتنا الكبرى: أن نظلّ أسرى أحزاننا المؤقّتة، أحزان مشحونة بالعجز رغم بلاغة الجرح وفداحة الألم.
وهنا يظلّ السؤال معلّقًا، وهو: كيف تَعْبُر الشعوب من لحظة التَّعاطُف إلى فِعلٍ مُنتِج؟ وكيف نُحوِّل رصيد الغَضب إزاءَ ما يَحِلّ بنا في فِلسطين إلى طاقةٍ مَعرفيّة تُسهِم في تَفكيكِ الأَزْمة من جُذورِها، لا الخضوع لإغواء مَفاهيم «الأُمّة، والأُخوّة...» وبقيّة المُونولوجِ المُتعبِ بالتأمُّلاتِ الحَرِجة؟
وقد يُسارع القارئ إلى القول إنّ كلّ الحلول قد فشلت، ولم يبقَ سوى المقاومة. ولن نقول بخطأ هذه الرؤية، ولكننا نشير إلى أنّها، في كثير من السياقات، تُعَبّر عن هشاشة الوعي، عن إرادة في مساندة غير فعّالة للمعذّبين في غزة؛ إذ تأتي غالبًا من ضميرٍ مشنوقٍ بالجزع السلبي، لا من عقلٍ يُجيد تدبير البدائل أو تخيّل الممكن. فرفع شعار المقاومة كخيار وحيد دون الاستعداد لتحمّل كلفته، لا يُعدّ بطولة، بل تنصّلًا مقنّعًا بالعاطفة. فالأسهل لديك أن تناصر المقاومة دون النظر في إنسانها ومعاناته، بينما لا تحتمل تغيّر أسعار السلع في مراكز التسوّق، وتجزع إن مُسّ نمط رفاهك الاستهلاكي. فكيف يستقيم ذلك؟
وهذه المقالة القصيرة لا تدّعي قدرتها على معالجة أزمة المعنى في المساندة العربية لقضيتنا الفلسطينية، لكنها تطمح إلى طرح جملة من الأسئلة المؤجّلة، وهي: كيف يمكننا العرب أن نُفعّل أدواتنا المعرفية لصالح موقفٍ أكثر عقلانية ورصانة وفاعلية؟ أن نبحث في موقفٍ يُسهم لا في تخفيف الألم فقط، بل في دفع المعاناة بعيدًا عن أهلنا في غزة؟
لذا، تنطرح أمامنا جملة تساؤلات: فهل الحلّ في الهتاف، أم في النظر إلى القضية في أفقها الإنساني، والدفع في اتجاه ربطها بالضمائر الحية من كل لون ودين؟
إنها أسئلة مهمة لمقالنا هذا، فقد كنّا قد كتبنا عن بعض الأصوات الفرنسية التي وقفت إلى جانب الحق الفلسطيني، أمثال: جان جينيه، وجيل دولوز، وريجيه دوبريه. وهؤلاء كلهم لا يساندون قضيتنا إلا لأنها قضية إنسانية أولًا وأخيرًا. لقد رأوا في فلسطين معيارًا أخلاقيًا لإنسانيتهم هم، قبل العرب والمسلمين.
وامتدادًا لتصحيح النظر في هذا «الآخر»، فإننا نضع أمام القارئ بعض ملامح كتاب صدر مؤخرًا في فرنسا بعنوان «فلسطين 2025: نحو الحل النهائي؟»، عن دار فانتاسك للنشر، ضمن سلسلة فكرية تحمل اسم «عكس التيار». وتشتهر هذه الدار بإصداراتها الناقدة للتيار السياسي الفرنسي والأوروبي، فقد صدرت عنها مؤلفات ذات قيمة عالية.
ويأتي هذا الكتاب في توقيت تشتعل فيه الساحة السياسية والفكرية في فرنسا حول دور وموقف باريس من القضية الفلسطينية، ويقدّم الكتاب نصًا مكثّفًا طارحًا جملة من الأسئلة الحرجة حول المسار الأخلاقي والسياسي للغرب، وبالدقة يتناول مسألة «حل الدولتين». أما مؤلف الكتاب، فهو جاك دوك، الكاتب الفرنسي الذي يُعدّ أحد المثقفين النقديين الذين يكتبون بروح عالية من التمرّد، ويعملون على تفكيك الخطاب السياسي الغربي. والمؤلف هنا لا يقدّم في كتابه حلولًا تقنية أو وصفات دبلوماسية، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، مُفكّكًا ما يسميه «وهم الواقعية» في السياسة الدولية، ومُظهرًا كيف تحوّل ما يُروّج له كـ«حل نهائي» إلى أداة ناعمة لتجميل الهزيمة وإدامة السيطرة تحت غطاء إنساني زائف.
ودوك، الذي لا يرى في «حلّ الدولتين» تسوية عادلة مستحيلة التنفيذ فحسب، يَعدّها وصفة دبلوماسية ميّتة تُستخدم للهروب من مواجهة الأزمة الفلسطينية باعتبارها مسألة أخلاقية أولًا. لذا فإنه يرى أنّ الدولة التي يُروَّج لها أمام الفلسطينيين ليست وعدًا بالتحرر، بل عرضًا مشروطًا للبقاء، وحبسًا لهم في جزرٍ جغرافية محاطة بالجدران، ما يُفرغ فكرة الاستقلال من معناها. ويصف المؤلف القول بحل الدولتين بالخديعة، لأنه لن يحقق سلامًا، بل سيظل غلافًا تفاوضيًا يُعيد تعريف الفلسطيني، لا كصاحب حق، بل ككائن يُمتحَن سلوكه قبل أن تُمنح له حقوقه.
وتمضي حُجّة دوك إلى ما هو أبعد من نقد التسوية، حين يُبرز أن دعاة «حل الدولتين» - سواء في الغرب أو في مَن يُردّد صداهم عربيًا - لا يؤمنون فعلًا بحق العودة، بل يتجاوزونه بصمتٍ متواطئ، يُعيد ترسيم الفلسطيني كـ«كيان مؤقت» تحت رعاية مفاوضات مؤجلة. فيبقى الفلسطيني جسدًا معلَّقًا في الزمن، لا يسكن وطنًا، بل ينتظر موعدًا مؤجَّلًا لا يأتي. ويُقدّم دوك قراءة تتهم هذا العالم المُبشّر بـ«الحل الأخير» بأنه سادر في التضليل، يُقايض الإنسان بالوثيقة، والحق بالخريطة، والكرامة بالإرجاء.
وقد كتب دوك بأنه لم يبقَ للقضية الفلسطينية أي حل يُذكر، فقد انغلقت الدائرة بحيث لم يبقَ سوى حل واحد، يُراد له أن يصبح حلًا نهائيًا، على الرغم من تكشّف زيفه أمام الجميع. ويرى المؤلف استحالة التعايش المزعوم من قِبل المبشّرين بحل الدولتين، قائلًا: «لقد فاضت هذه البقعة الصغيرة من الأرض المقدسة على مدار القرن الماضي بفيض من الكراهية، لدرجة أن التعايش فيها لم يعد ممكنًا. إنّ الاعتراف بدولة ثانية على نفس الأرض ليس إلا إدامة لحالة حرب إلى أجل غير مُسمّى. وبما أنّ التفوق العسكري الإسرائيلي حالة سياسية مستديمة، فإنّ الاعتراف بدولة فلسطينية لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد محنة الشعب إلى أجل غير مُسمّى.»
ويعود دوك إلى لحظة البريطانيين، ليشير إلى أن فكرة ثنائية الوجود في الأراضي المقدسة هي مصدر الكارثة، وأنه، بناءً على منطق التقسيم الثنائي هذا، وُفّر للكراهية منطقها الخاص.
من الواضح أن الإشكال لا يتعلق بالتسوية، بل بطبيعتها وإمكانية تحقيقها على الأرض. فالأزمة، لديه، تتصل بوقوعها أمام ميزان أخلاقي مختلّ، ميزان تُوزّع فيه العدالة وفق خرائط المصالح، ولا مكان فيه لمعاناة الإنسان. إنّ دوك ضمير حيّ في فضاء سياسيّ ميت، وكتابه شهادة على أن الإنصاف لا يُولد من العرق أو الدين أو الموقع الجغرافي، بل من يقظة الوعي وإرادة العدالة.
إنه يُعلّمنا، ومن الضفة الأخرى، أنّ الوقوف إلى جانب الحق لا يحتاج إلى لغة مشتركة، بل إلى ضمير حرّ لا يُساوم. ولذا قلنا إنّ مدّ جسور الصلة مع هذه الأصوات ليس ترفًا نخبويًا، بل ضرورة استراتيجية لتوسيع جبهة الإنصاف، وتعزيز حضور القضية خارج حدود الخطاب العربي، بوصفها قضية إنسانية لا تحتمل التجزئة ولا التأجيل.
والحقيقة أنّ الآخر ليس «آخر» لأنه يختلف عنا، أو لأنه يملك هويةً خاصة، فيجعلنا ذلك ننظر إليه من على ضفتنا نحن، ولا نجرؤ العبور إليه في الضفة الأخرى. فما يجب أن ندركه أنّ الخير حالة إنسانية، وليس لنا أن نختبئ منه ونتوجّس، فقط لأنه لا يعتنق مبادئنا، ولا يوافقنا الرؤية إلى العالم أو قناعتنا تجاه الوجود.
وما نريده أن ينغرس في الوعي العربي هو هذا، لذا يظلّ مطمحنا مراجعة تلك النظرة المرتابة التي لا ترى في «الآخر» إلا خصمًا، وتظنّ أنّ قضيتنا معتقلة في سياق عقدي أو عرقي. لأنّ إعاقة هذا التواصل مع الضمائر الحيّة في الغرب سيُضعف قدرتنا على بناء جبهة أخلاقية عالمية منصفة لفلسطين. فالحقيقة لا تُولد إلا في ساحاتنا.
وهذا هو عين ما حذّر منه ابن رشد منذ قرون، حين علّمنا القفز فوق الأسوار اللغوية والمذهبية، ودوّن مقولته الخالدة: «الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها ممن قالها». وأيضًا قال الإمام علي، كرم الله وجهه: «الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلق». فالحقيقة، كما الضمير، لا تُوزن بمصدرها، بل بقدرتها على الإنصاف. وبهذا المقياس وحده تُقاس العدالة، وتُعرف القضايا التي تستحق النُصرة.
غسان علي عثمان كاتب سوداني