الدكتور عمرو الورداني يكتب: جوامع النعم
تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT
وقفت كثيراً بالتأمل فى قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم، عن سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى معرض ذكر نعم الله عليه: «فُضِّلتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم... الحديث»، ومعنى أنه صلى الله عليه وسلم حاز جوامع الكلم -كما قال الإمام الزهرى- أى إنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالقول الموجز، القليل اللفظ، الكثير المعانى، ففتح الله عليه باباً واسعاً من الفصاحة والبيان وحسن الكلام.
ولم يكن له صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فقط، بل لاحظت أنه صلى الله عليه وسلم حاز العديد من الجوامع مثل: جوامع الدعاء؛ فكانت كلمات دعائه جامعة لكل خير، وكان له أيضاً جوامع الأخلاق؛ فكل الأخلاق الفاضلة جمعها صلى الله عليه وسلم، وهذا قذف فى قلبى معنى آخر يتسق مع ما سبق ذكره لفظاً ومعنى، وهو أنه صلى الله عليه وسلم حاز جوامع النعم.
ومعنى أنه صلى الله عليه وسلم حاز جوامع النعم، أى إن الله تعالى منَّ عليه بكل نعمة وأوصلها إليه كاملة بل فى تمام منتهى النعمة، هذا من ناحية، كما جعله الله فى ذاته صلى الله عليه وسلم نعمة؛ أما نعمه تعالى على نبيه فهى كثيرة لا تحصى، عددها الله فى مواضع كثيرة من كتابه، ولنتدبر مثلاً سورة الضحى فنجد فيها عجباً من مواضع إظهار نعم الله على نبيه، انظر معى فى قول الله تعالى: «وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحدِّثْ»، ولم تقتصر النعم على هذا وفقط بل ممتدة إلى يوم البعث وما بعده؛ فيخفف الله به عن الناس، ويرضيه فى أمته ولا يسوؤه، إلى آخر النعم التى ينطبق عليها قوله تعالى: «وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحصُوهَا»، فقد جمع الله كل تلك النعم على حبيبه صلى الله عليه وسلم، فما من نعمة إلا أعطاه الله مفاتحها وقَسْمَها، ففى صحيح البخارى عن معاوية بن أبى سفيان يقول صلى الله عليه وسلم: «... وإنَّما أنا قاسِمٌ ويُعْطِى اللَّهُ... الحديث».
وهذه النعم التى منَّ الله تعالى بها على نبيه قام النبى بشكرها أكمل شكر، فلما سئل عن وقوفه طيلة الليل حتى تورمت قدماه أجاب: «أفلا أكون عبداً شكوراً!».
أما الجانب الآخر من جوانب حصره صلى الله عليه وسلم لجوامع النعم أن الله جعله نعمة فى ذاته، وهذه النعمة واضحة فى قوله تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ... الآية»، وهذه النعمة لا تختص بأحد دون أحد بل هى نعمة عامة لكل الخلق تصديقاً لقوله تعالى: «ومَا أرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةُ لِلعَالمين»، وهذه النعمة التى منَّ الله بها علينا تستوجب علينا شكراً على الدوام على نعمة رسول الله، التى تحفظنا فى الدنيا (ومَا كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم وأنْتَ فِيهم)، وترفعنا فى الآخرة (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)، ويكون ذلك بثلاثة أمور:
1- إدراك نعمة رسول الله، وحمد الله على هذه النعمة: بأن تدرك معنى الشهادتين، وقف مع كلمة الشهادتين، من حيث التثنية، ومن حيث معنى الشهود: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فرسول الله شطر الإسلام، وأنت تقول الحمد لله على نعمة الإسلام إذا أنت تحمد الله على نعمة رسول الله.
2- بعد إدراك النعمة التى بها ينكشف لك عظيم فضل الله بأن جعلك من أمة خير خلق الله لا بد أن يذوق قلبك معنى نعمة رسول الله: فتستشعر قوله صلى الله عليه وسلم «إنما أنا رحمة مهداة».
3- كثرة الصلاة والسلام عليه.
فالحمد لله على نعمة رسول الله جامع الجوامع الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق وعلى آله وصحبه وسلم.
* أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: المولد النبوي سيدنا الحسين السيدة زينب الصوفية على نعمة
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: التواضع أصل العفاف الباطني.. والجهاد الأكبر يبدأ من تهذيب النفس
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن من العفاف الباطني "التواضع"، وفيه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» (صحيح مسلم).
وأضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، أن ربنا عز وجل أمرنا في آياتٍ كثيرة بهذا التواضع، وأن يكون لله، ونهانا عن الكِبْر، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» (سنن أبي داود).
ويقول ربنا سبحانه وتعالى في نصيحة لقمان لابنه، التي ربط فيها بين العفاف الباطن والظاهر: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18- 19].
ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى فرَّق بين المعاني الدقيقة، فجعل القوَّة في طلب الحق ليست من قبيل الكِبْر، بل من قبيل عمارة الدنيا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وقال تعالى وهو يشرح هذا المعنى كله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
فنراه سبحانه يستعمل لفظَ العِزَّة، ويستعمل لفظَ الشِّدَّة، وهو الذي نهى نهيًا تامًّا عن الكِبْر والتكبُّر، قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60]، وقال: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72]، وقال: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56].
ومن العفاف الباطن "الشهامةُ والنجدةُ والنصرةُ والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر"؛ ولذلك نرى في واقع الناس أن الذي فقد العفافَ الظاهر ليست عنده هذه المعاني، ولا يلتفت إليها، ولا يضعها في مكانها الصحيح، ويرآها نوعًا من أنواع السذاجة، ويجادل فيها بغير علم، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج: 3]. وفي هذه المعاني يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلَا يُسْتَجَابَ لَكُمْ» (سنن ابن ماجه).
إن هذا كلَّه من "الجهاد الأكبر"، الذي عندما يُفْقَد يَتِيه الجهادُ الأصغر ويضيع؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ» (أخرجه البيهقي في الزهد).
وربنا يقول:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].
وبشَّر اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَن تركَ الجهادَ في سبيله بالذُّلَّة، فقال: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (سنن أبي داود).
وعِلَّةُ ذلك أننا لا نستطيع الجهادَ الأصغر إلا إذا رجعنا إلى الجهاد الأكبر، وهو جهادُ النفس، ومُجْمَعُه العفافُ الباطني، وإذا فقدنا الجهادَ الأكبر فقدنا معه الجهادَ الأصغر، فنظل في حيرةٍ لا نعرف لها نهاية.