يريفان "وكالات": - فر أكثر من ثلاثة أرباع الأرمن من إقليم ناغورني كاراباخ الانفصالي والبالغ عددهم 120 ألفا بحلول عصر اليوم الجمعة إثر سيطرة أذربيجان على الإقليم، في نزوح جماعي أسرع من المتوقع والذي يبدو أنه سيكون شاملا.

واصطفت السيارات والحافلات والجرارات التي تقل اللاجئين في الطرق السريعة في خامس يوم من النزوح الذي وضع حدا مفاجئا ونهائيا لأحد "الصراعات المجمدة" على أسس عرقية منذ عقود في دول سابقة بالاتحاد السوفيتي.

وأفادت وكالة الإعلام الروسية (ريا) بأن حكومة أرمينيا قالت إن قرابة 93 ألف شخص عبروا إلى أراضيها في الوقت الراهن.

وقال مسؤول بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في وقت سابق إن العدد الإجمالي قد يصل إلى 120 ألفا، وهو عدد مطابق لتقديرات العدد الإجمالي لسكان جيب ناغورني كاراباخ الذي انفصل عن أذربيجان في تسعينيات القرن الماضي.

ودعمت أرمينيا الانفصاليين لعقود، لكن ثبت في نهاية المطاف أنها غير قادرة على حمايتهم.

وأرسلت أرمينيا حافلات مدنية من عاصمتها يريفان للمساعدة في إخراج الأشخاص. ورحب المتطوعون بالحافلات الأرجوانية على الطريق عند الحدود ودفعوا إليها بصناديق الخبز وزجاجات المياه عبر النوافذ.

وتقول أذربيجان إنها تحترم حقوق الأرمن الذين سيختارون البقاء، لكنها نسفت مفهوم الدولة الانفصالية إلى الأبد.

وذكرت أذربيجان اليوم الجمعة أنها ستسمح لفريق من الأمم المتحدة بزيارة الإقليم في غضون أيام، وهو مطلب رئيسي لدول الغرب.

من جهة اخرى، نقلت وكالة تاس الروسية للأنباء اليوم الجمعة عن مصدر قوله إن الجيش الأذربيجاني اعتقل القائد السابق للقوات الأرمنية الانفصالية في ناغورني كاراباخ عند نقطة تفتيش حدودية مع أرمينيا.

وقالت تاس إن القائد ليفون مناتساكانيان تولى قيادة جيش جمهورية آرتساخ المعلنة من جانب واحد بين عامي 2015 و2018.

وجاء اعتقال القائد الأرمني ضمن حملة لاعتقال ومحاكمة أشخاص مدرجين على قائمة أفراد ترى باكو أنهم ارتكبوا جرائم مختلفة. وقال مسؤولون أذربيجانيون إن القائمة تضم نحو مئتي اسم.

وقال جهاز أمن الدولة الأذربيجاني اليوم الجمعة إنه اعتقل قائدا عسكريا سابقا آخر هو دافيت مانوكيان الذي كان النائب الأول لقائد القوات الأرمنية في قره باغ. وذكر الجهاز أنه مطلوب لاتهامه بارتكاب "جرائم إرهابية".

واعتقلت أذربيجان يوم الأربعاء الماضي روبن فاردانيان، الرئيس السابق للحكومة الأرمنية الانفصالية في قرة باغ، أثناء محاولته العبور إلى أرمينيا.

ووُجهت إليه لاحقا تهم بتمويل الإرهاب وعبور حدود أذربيجان بشكل غير قانوني العام الماضي. وفر نحو 93 ألف أرمني من الجيب الانفصالي منذ أن استعادت أذربيجان المنطقة الجبلية في عملية عسكرية خاطفة الأسبوع الماضي.

عدد القتلى الحريق 170 شخصا

في هذه الاثناء، نقلت وكالة الأنباء الأرمينية (أرمنبريس) اليوم الجمعة عن مسؤولين في منطقة ناغورني كاراباخ الانفصالية قولهم إن عدد قتلى انفجار أعقبه حريق في مستودع للوقود بالمنطقة ارتفع إلى 170 شخصا.

ووقع الانفجار يوم الاثنين الماضي بينما كان آلاف الأرمن يفرون من الجيب الانفصالي بعد هزيمة مقاتليهم في عملية عسكرية خاطفة شنتها أذربيجان، ولم تقدم السلطات تفسيرا لوقوع الانفجار.

ويرتفع بذلك عدد الضحايا بشكل حاد مقارنة بما أعلنته سلطات كاراباخ مساء الثلاثاء عن مقتل 68 شخصا.

ولا تزال عمليات الإنقاذ مستمرة في موقع الانفجار.

وفي السياق، يستمرّ نزوح الأرمن الجماعي من جيب ناغورني كاراباخ اليوم الجمعة، غداة الإعلان عن حلّ الجمهورية الانفصالية المعلنة من جانب واحد، وعلى الرغم من دعوات أذربيجان لهم للبقاء.

وفي سياراتهم المملوءة بالمؤن القليلة، المتبقية بعد أشهر من حصار باكو، توقف العديد من السائقين في هذه المحطة الواقعة على مشارف "العاصمة" ستيباناكيرت، وهي واحدة من المحطات القليلة التي ما زالت في الخدمة.

وأدى الحادث أيضاً إلى إصابة 349 شخصاً، معظمهم يعانون من حروق خطيرة.

تلقى الناجي الجريح سامفيل هامباردسيوميان رعاية في بلدة غوريس الحدودية الأرمنية وهو يستريح في خيمة للصليب الأحمر. وقال الرجل الذي أصيب بحروق في وجهه ولُفت يداه بضمادات سميكة إنه كان يسير نحو المحطة لجلب البنزين عندما حدث الانفجار وألقاه على الأرض.

وأضاف الرجل البالغ 61 عاما وهو أب لتسعة أطفال لوكالة فرانس برس "كان تسعة أشخاص أمامي في الطابور. لو لم يكونوا هناك لاحترقت تمامًا.... لا أحد يعرف بالضبط ما حدث، يقول البعض إن شخصا ما أشعل النار، ويقول آخرون إن قنبلة يدوية ألقيت".

في المجموع، أُفيد عن مقتل حوالى 600 شخص في أعقاب الهجوم العسكري الخاطف الذي شنّته باكو وأدى إلى استسلام الانفصاليين في 20 سبتمبر. وأدى القتال نفسه إلى مقتل نحو 200 جندي من كلّ جانب.

أحرقوا زيّهم الرسمي ووثائقهم العسكرية

من جهتها، أصدرت سلطات ناغورني كاراباخ الانفصالية امس مرسوماً يأمر بحلّ "جميع المؤسسات... في الأول من يناير 2024"، معلناً أنّ جمهورية ناغورني كاراباخ المعلنة من جانب واحد قبل أكثر من 30 عاماً، "ستزول من الوجود".

بدوره، أعلن الكرملين اليوم الجمعة أنّ روسيا ستقرّر مع أذربيجان مستقبل مهمّة حفظ السلام في هذه المنطقة الانفصالية التي نشرت فيها قوات منذ العام 2020.

وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف رداً على أسئلة الصحافيين بشأن مستقبل هذه القوات "بما أنّ المهمّة موجودة الآن على الأراضي الأذربيجانية، فإنّ هذه النقطة ستكون موضوع مناقشات مع الجانب الأذربيجاني".

في أيام قليلة، غادر 93 ألف شخص أي أكثر من ثلاثة أرباع سكان الإقليم البالغ عددهم 120 ألفًا منازلهم، وفقاً لآخر إحصاء نشرته يريفان.

ومن بين اللاجئين الذين التقتهم وكالة فرانس برس في غوريس، تحدّث الجميع عن "وحشية" هذه الحرب الأكثر تدميراً بكثير من سابقاتها، فضلاً عن الرعب الذي عانوا منه عند وصول جنود العدو.

وقال معظم الأشخاص في هذه المنطقة التي يتمتّع فيها جميع الرجال بخبرة في الجيش والقتال، إنّهم أحرقوا زيّهم الرسمي ووثائقهم العسكرية، وحتى أكثر من ذلك بكثير.

وقالت الشابة لاريسا "الصور العائلية وذكرياتنا، وكتب تاريخ أبطالنا. ليس هناك شك في أنّ الأذربيجانيين سوف يدنّسونها".

تعايش مستحيل

الى ذلك، اتهم رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان أذربيجان بتنفيذ "تطهير عرقي"، معتبراً أنه لن يكون هناك أرمن في الجيب "في الأيام المقبلة".

غير أنّ باكو رفضت هذا الاتهام، مؤكدة أن "السكّان الأرمن يغادرون كاراباخ بمحض إرادتهم"، فيما دعتهم إلى "عدم مغادرة منازلهم" وإلى أن "يكونوا جزءاً من مجتمع متعدّد الأعراق".

ولكن هذا الاحتمال يصعب تصوّره بالنسبة الى كثيرين.

ويقول الباحث في معهد العلوم السياسية في فرنسا بيرم بالجي إنّ "لا أحد يؤمن بإمكان التعايش بين الطائفتين. لا الأرمن ولا الأذربيجانيون مستعدّون لهذا الخيار".

ويضيف أنّ أرمن ناغورني كاراباخ "غادروا بإرادتهم. أجد أنّ الأمر أكثر إثارة للقلق" ممّا لو تمّ طردهم، مقدّراً أنّ "5 إلى 10 آلاف نسمة فقط ربما سيبقون" هناك.

وتقول يريفان إنّ مخاوف السكان تتأجّج بسبب سلسلة من "الاعتقالات غير القانونية" بين صفوف المدنيين الفارّين، على الرغم من التزام السلطات الأذربيجانية السماح للانفصاليين الذين سلّموا أسلحتهم بالمغادرة.

وأعلن جهاز الأمن الأذربيجاني اليوم الجمعة أنه اعتقل قائدا كبيرا في ناغورني كاراباخ للاشتباه في تورطه في أنشطة "إرهابية".

وقال إن الموقوف الذي عرف عنه على أنه دافيت مانوكيان ارتقى إلى رتبة ميجور جنرال في الجيش الأرميني قبل أن يصبح النائب الأول لقائد القوة الانفصالية وتقول زالا بيراموفا المحامية المتخصّصة في مجال حقوق الإنسان وابنة أحد رموز المعارضة الموجود في السجن في باكو "لقد اتُهموا جميعاً بالإرهاب والخيانة لمجرّد نشرهم رسائل (على شبكات التواصل الاجتماعي) تنتقد الحرب".

وتضيف "لذلك، عندما تقول الحكومة إنّها ستعامل الأرمن بشكل جيّد وبكرامة، فهذا غير صحيح البتة".

في أرمينيا التي يتدفق إليها اللاجئون، يتنامى شعور بالغضب. وأعلن معارضو رئيس الوزراء نيكول باشينيان المتهم بالوقوف متفرجًا أمام هجوم باكو الخاطف، تنظيم مسيرة اليوم السبت.

وتلقي يريفان باللوم على روسيا، الحليف التقليدي الذي لم يتدخل في حين يفترض به أن يضمن الاحترام الكامل لوقف إطلاق النار المبرم عام 2020.

من جانبه، طالب الاتحاد الأوروبي بإرسال بعثة تابعة للأمم المتحدة "في الأيام المقبلة". وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية في بيان "هناك نزوح جماعي للأرمن من ناغورني كاراباخ... من الملح ضمان المساعدات الإنسانية بدون عوائق لأولئك الذين ما زالوا بحاجة إليها في ناغورني كاراباخ وللذين فروا" من الإقليم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ناغورنی کاراباخ الیوم الجمعة أکثر من من جانب فی هذه

إقرأ أيضاً:

في اليوم الذي يسمونه يوم القدس

في اليوم الذي يسمونه "يوم القدس"، لا يتم الاحتفاء بالقدس وإنما تتعرض البلدة القديمة للتدنيس، حيث تتحول مسيرة العلم الإسرائيلي، التي تنظم سنوياً تحت راية الفخر القومي إلى مشهد من مشاهد الكراهية التي لا حدود لها.

وهذا العام انحطت إلى قعر الخسة والفجور.

أوردت صحيفة هآريتز أن الفتيان الإسرائيليين انطلقوا في مسيرة عبر الحي الإسلامي وهم يهتفون "الموت للعرب"، "امسحوا غزة"، "لا توجد في غزة مدرسة، لم يبق فيها أطفال". كانت صواري الأعلام تدق في الأبواب العتيقة، بينما ينهال المشاركون في المسيرة بالسباب والشتائم على النبي محمد ويسخرون من ذكرى فلسطين.

لم يُلق القبض على أحد بتهمة التحريض.

في يوم القدس يتم فعلياً تجميد قانون التحريض، وتصبح الكراهية سلوكاً تحض عليه الدولة. ما تنطلق به الحناجر من شعارات ليس هتافاً موجهاً ضد حماس، وإنما إعلان حرب على العرب والمسلمين – وعلى روح المدينة نفسها.

وعلى النقيض من المزاعم بأن هذا من فعل مجموعة هامشية، تبدو الحقيقة أكثر بشاعة. فكما يلاحظ صحفي هآريتز نير حسون، الهاشميون ليسوا العنصريين، وإنما أولئك الذين يرفضون الانضمام إليهم.

وحتى المنظمات المتحالفة مع التيار اليميني السائد، مثل إم ترتوز المنتسب إلى الليكود، انطلقت عناصرها وهي ترفع لوحات كتب عليها "لا نصر بلا نكبة". تلقى مسرح الكراهية هذا تمويله بشكل مباشر من بلدية القدس، التي خصصت 700 ألف شيكل (ما يعادل 200 ألف دولار) – بدون مناقصة عامة – لدعم منظمي المسيرة.

الغزو والتطهير

هذه ليست فورة عاطفية، وإنما عقيدة قيد التطبيق، واستعراض للاهوت يقوم على الاعتقاد بالتفوق العنصري على الآخر، تتواجد في القلب منه رؤية تنبؤية ليس من أجل إقامة السلام أو التعددية وإنما من أجل الغزو والتطهير.

من أبرز مهندسي هذه الرؤية الحاخام إسحق غينزبيرغ، الأب الروحي لما يسمي "شباب رؤوس التلال"، وهي مليشيا مكونة من المستوطنين، تمارس العنف قتلاً وإفساداً في مختلف أرجاء الضفة الغربية. يشيد غينزبيرغ علانية بباروخ غولدستين الذي ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل في عام 1994 وأزهق أرواح 29 فلسطينياً بينما هم ركوع في صلاة الفجر بالحرم الإبراهيمي. بل نشر غينزبيرغ كتابات يحض فيها على قتل نساء وأطفال غير اليهود.

وكان غينزبيرغ قبل عقدين اثنين من الزمن قد ألقى خطبته الشهيرة بعنوان "حان الوقت لكسر الجوزة"، حيث شبه إسرائيل بثمرة محاطة بأربعة أغلفة – تتكون من الدولةل العلمانية ومؤسساتها – كانت لها من قبل غاية ومبررات، ولكنها باتت الآن عقبة تعيق الخلاص.

أعلن في خطبته أنه ينبغي تدمير هذه الأغلفة، ألا وهي الإعلام، والقضاء، والحكومة، والميثاق الأخلاقي للجيش. فقط من خلال القضاء عليها يمكن أن يبرز اللب الخالص للتفوق اليهودي ويمكن للعهد المهدوي أن ينطلق.

هذه ليست حالة من الفوضى وإنما عملية منظمة قيد تنفيذ.

إن الهتافات التي تردد صداها في طرقات القدس هذا العام لم تكن تشوهات، بل أعراضاً لمنظومة تخلصت من رداء الديمقراطية العلمانية. وما تبقى منها غير قومية عرقية ومهدوية معراة، رؤيتها مستمدة من سفر الرؤيا، وتوجهاتها تشي بارتكاب الإبادة الجماعية.

من الوزراء اليمينيين المتطرفين إيتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش، لم تعد النزوة مقصورة على الهمس، بل باتت تذاع على الملأ. في هذه الأثناء، انطلق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر نفق "طريق الحاج" تحت المسجد الأقصى، معلناً أمام طلاب المعاهد الدينية اليهودية: "سوف تنطلقون من هناك وتخرجون [إلى الهيكل]."

إلا أن سموتريتش، كعادته، كان أكثر صراحة، فقد أعلن في نفس ذلك اليوم، متحدثاً أمام جمهور من الأتباع المتحمسين: "بعون من الرب، سوف نوسع حدود إسرائيل، ونحقق الخلاص التام، ونعيد بناء الهيكل ههنا."

إن الدعوة إلى بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى ليست مجرد انتهاك للوضع القائم، وإنما هي إعلان شامل للحرب الدينية، الأمر الذي يتبدد معه وهم التعايش، وذلك أن المشروع الصهيوني ليس إعلان حرب على المسلمين فقط، وإنما هو حرب معلنة على المسيحيين كذلك. ها هو الوجود المسيحي في القدس – بكل عراقته وأصالته وقدسيته – يتعرض للاستئصال بشكل منتظم.

حقبة جديدة

في وقت مبكر من عام 2023، أي قبل شهور من السابع من أكتوبر، حذر زعماء الكنائس من الهجمات المتصاعدة، ومن الاستيلاء على الأراضي، ومن الحصانة من المساءلة والمحاسبة التي تمنح لمن يرتكبون ذلك.

أعلن الأب دون بيندر، من كنيسة القديس جورج، قائلاً: "إن العناصر اليمينية المتطرفة عازمة على تهويد البلدة القديمة." أما الكاردينال بيتزابالا فقال إن عام 2024 كان "أسوأ فترة عشتها على الإطلاق." وبحلول عام 2025، مُنع المسيحيون من حضور الصلوات في عيد الفصح، وارتفع منسوب المضايقات التي يواجهونها والاعتداءات التي تتعرض لها ممتلكاتهم وأعمال التخريب. وغدا البصق على المسحيين روتينا، بحث عليه بن غفير ويصفه بأنه "تقليد يهودي".

هذه ليست أعمالا معزولة، بل جزءا من حملة منظمة. فالصهيونية لا تسعى فقط إلى الهيمنة على المدينة، وإنما إلى مسح خصائصها العربية والإسلامية والمسيحية كذلك.

ما نشهده ليس مجرد عنصرية، بل تهويد، مشروع الغاية منه إعادة تشكيل المدينة لتجسد عقيدة التفوق العرقي اليهودي.

ومع ذلك ثمة نموذج آخر ينبع لا من القهر بل على التعايش. في القرن السابع، كانت القدس المدينة الوحيدة التي شد إليها الخليفة عمر بن الخطاب  الرحال لتسلم مفاتيحها، نزولا عند طلب زعيمها الديني المسيحي البطريرك صوفرونيوس. رفض عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة خشية أن يراه المسلمين فيستحوذوا عليها لاحقا، وأدى الصلاة بدلاً من ذلك بتواضع على الدرجات في الخارج، ثم ألصدر مرسوماً بتحريم مصادرتها.

بل سمح العهد الإسلامي الجديد في القدس لليهود بالعيش في المدينة بعد أن كان ذلك محظوراً عليهم لعقود تحت الحكم البيزنطي. في كتابه بعنوان "التاريخ المقتضب لإسرائيل"، يلاحظ المؤلف بيرنارد ريتش أنه "منذ بداية الحكم الإسلامي، استؤنف التواجد اليهودي في القدس، ومُنح المجتمع اليهودي الإذن بالعيش تحت "الحماية"، وهو الوضع المتعارف عليه لغير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي، والذي يصون حياتهم وممتلكاتهم وحريتهم في العبادة، مقابل دفع جزية خاصة وضرائب على الممتلكات."

بعد ذلك بقرون، وفي ظل تنازع الطوائف المسيحية على أحقية الإشراف على الكنيسة، عهد السلطان صلاح الدين بمفاتيح نفس تلك الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين، آل جودة وآل نسيبة، ظلتا على مدى 850 عاماً هما من يفتح ويغلق أبوابها بكل إخلاص ونزاهة.

"القلق الصليبي"

هذه هي القدس كما ينبغي لها أن تكون، مدينة الأمانة لا الهيمنة، والتوقير لا التطهير.

إلا أن المعركة على روح القدس لم تنته، بل إنه الصراع الأكثر رمزية على الإطلاق، بين الغزاة وأهل البلاد، بين دعاة الإقصاء ودعاة الاستيعاب، بين عقيدة استيطانية استعمارية تعبد النقاء الخالص عبر العنف، ومدينة كانت عظمتها ذات يوم ثمرة تعدديتها المقدسة.

ثمة تشابه مع الحروب الصليبية. ففي عام 1099، اجتاحت جيوش الصليبيين القدس وذبحت الآلاف من المسلمين واليهود. واليوم، ها هم الصهاينة يرددون نفس منطق الصليبيين، ويستعيدون صورهم، وينهجون سبيلهم. من إيماءات نتنياهو حول الهيكل إلى عقيدة الإبادة التي يحملها غينزبيرغ، ها هي الصليبية تنبعث من جديد.

إلا أن ممالك الصليبيين تهاوت. فقد حرر صلاح الدين القدس من الصليبيين بعد ثمانية عقود من الاحتلال، وانهارت المغامرة الصليبية بأسرها خلال قرنين، تاركة خلفها ندوباً عميقة، وفي نفس الوقت عزماً قوياً وثابتاً على مقاومة الغزاة.

يشعر الجنود الإسرائيليون أنفسهم بهذه المقارنة. كتب المؤرخ ديفيد أوهانا يقول إن "القلق الصليبي" يطارد النفسية الإسرائيلية – إنها الخشية الدفينة من أن الصهيونية، كما كان حال سلفها في القرون الوسطى، قد تنتهي ذات يوم وكأنها لم تكن من قبل. وهذا حق، لأن القدس لا تجوز لمن ينتهكون حرمتها.

قد تحترق غزة، وقد تنزف الضفة الغربية، ولكن تبقى القدس هي درة التاج. مهما بلغ توحش الصهيونية، فإنها لن تتمكن من طمس ما تشكل بفعل التاريخ والجغرافيا والعقيدة. تعيش فلسطين في قلوب الملايين، والقدس ليست على الهامش من ذلك، بل إنها تتربع في القلب من العالمين العربي والإسلامي.

مهما حفر الصهاينة من أنفاق، ومهما رفعوا من أعلام، ومهما بثوا من أحقاد، سوف يستمر الفلسطينيون في الإنشاد، كما غردت ذات يوم المغنية اللبنانية المسيحية فيروز "يا قدس، يا مدينة الصلاة. عيوننا إليك ترحل كل يوم. تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد .... وبأيدينا سنعيد بهاء القدس، بأيدينا للقدس سلام."

قد تكون مسيرة الكراهية صاخبة اليوم، ولكنها سوف تصمت يوماً لا محالة. وفي ذلك اليوم سوف تتحرر القدس من الاحتلال ومن الغلو ومن العنصرية، وسوف تعود إلى أهلها، لم تنكسر روحها، ولم تُنتقص قدسيتها.

مقالات مشابهة

  • في اليوم الذي يسمونه يوم القدس
  • ارتفاع عدد قتلى الفيضانات في نيجيريا الى 151 و نزوح الآلاف
  • مخاوف من غسل أموال.. مجرم تشيكي يتبرع ببيتكوين بقيمة 45 مليون دولار
  • توقعات النجوم للفائز بنهائي دوري أبطال أوروبا بين سان جيرمان وإنتر
  • 60 شهيدًا في غزة اليوم.. وارتفاع حصيلة ضحايا الحرب الإسرائيلية إلى 54381 شهيدًا منذ أكتوبر 2023
  • سقوط قتلى وجرحى في إستهداف مسيرة لقوات الدعم السريع مستشفى الأبيض.. كشف تفاصيل دقيقة
  • قتلى وجرحى بقصف لقوات الدعم السريع على الأبيض والدبيبات
  • ارتفاع جديد لعدد قتلى فيضانات نيجيريا
  • ستة قتلى بقصف مسيّرة تابعة لقوات الدعم السريع على مستشفى في السودان
  • بعد أسبوع من حادثة مماثلة.. قتلى وجرحى جراء انفجار مخزن أسلحة للحوثيين شرق تعز