- 1 -

أزعم أنني من قراء الترجمات النهمين من كل اللغات لتعويض قصورٍ مؤلم وبيِّن في القراءة بلغةٍ أجنبية واحدة على الأقل! كنت مدركًا منذ بدايات الطلب والدرس ضرورة إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، غير العربية، للتواصل المباشر دون وسيط مع ما يحدث في العالم حولنا، لكن ولأسبابٍ كثيرة لم أتمكن من تحقيق هذا المطلب المهم والضروري لكل ساع للمعرفة وراغب في الثقافة الرصينة.

لكن، واتباعًا للمقولة الشائعة بأن ما لا يدرك كله فلا يترك جله؛ فكان لزامًا عليّ أن أعوض هذا النقص بنهم محموم لا يشبع لقراءة كل ما أتمكن من قراءته من ترجمات عن كل اللغات في كل المجالات..

وبداية، فالترجمة لديّ هي عملية مثاقفة شاملة مكتملة الأركان؛ بدونها لا تتم أي نهضة أو عملية تحديث في أي مجتمع من المجتمعات. الترجمة ركن ركين من هذه العملية. أما الآن، فالترجمة ليست في أحسن أحوالها؛ لا لنقص في المترجمين الأكفاء أو في الاتصال بمصادر الثقافات المختلفة والبحث عما يجب أن ننقله إلى ثقافتنا ولغتنا إنما الأمر يتلخص في غياب الرؤية ورسم السياسات.

لو رجعنا إلى بداية نهوض الترجمة في الثقافة العربية مع الجد العظيم رفاعة الطهطاوي (1801-1873) سنجد أن الرؤية كانت واضحة، والمهام محددة، والغاية تنويرية حضارية مستقبلية. من هنا جاء تأسيس "مدرسة الألسن" لتخريج تراجمة محترفين في المقام الأول لنقل كل العلوم والمعارف والثقافات إلى اللغة العربية عن جميع اللغات.

- 2 -

لم تنفصل هذه الرؤية أبدًا عن سياق النهضة العربية ككل، أو البحث عنها، فالنهضة (إذا تأملناها من منظور فلسفي تحليلي) تبدأ بصدمة الوعي التي تنتج عندما تواجه "الأنا" حضور "الآخر" الذي يستفزّها تقدمه، أو يعصف بها غزوه أو بطشه العسكري. هذه الصدمة يفسرها الدكتور جابر عصفور بأنها قرينة رغبة المعرفة التي تنفجر في داخل "الأنا" مجاوزة كل النواهي التي تدعوها إلى الانغلاق على نفسها، والاكتفاء بذاتها. وإما أن تستيقظ هذه الأنا من سباتها، وتفارق خمولها، أو تتمرد على ما اعتادت عليه، ومن ثم تضع نفسها موضع المساءلة في مواجهة التقدم المؤرِّق لهذا "الآخر"، وإما أن تستسلم لسباتها إلى ما لا نهاية.

وبقدر ما تكتسب أبعاد تقدم هذا "الآخر" دلالة الوعد الذي ينتقل بواقع "الأنا" إلى إمكان التقدم، وذلك في عملية المساءلة الذاتية التي لا تخلو من توتر الصدمة، تغدو أبعاد تقدم الآخر إنجازا لا بد من نقله والصنع على منواله.

وهنا طرح السؤال الأول في تاريخنا الثقافي بوضوح هل هي "ترجمة" أم "نقل"؟

وكانت الإجابة الضمنية العملية أن "الترجمة" هي الخطوة الأولى في النقل، وأداته الفاعلة في تحقيق رغبة النهضة وتأصيلها والمضيّ في طريقها الصاعد، وذلك بما يدني بهذه "الأنا" من ذلك "الآخر" المتقدم، أو يضعها في موازاته على طريق التقدم نفسه، ومن ثم يخايلها بإمكان منافسته أو حتى التفوق عليه.

وعندئذ، تصبح الترجمة نقلا لأسرار التقدم التي يحتكرها الآخر، ووسيلة لاكتساب معارفه وعلومه التي يتحقق بها هذا التقدم. وتغدو الترجمة، كذلك، جسرا يعبر هوة الزمان والمكان واللغة، ويفتح أفقا جديدا من التواصل والاتصال، ويحفز على الإنجاز الموازي، وعلى مواصلة السعي من حيث انتهى "الآخر" السابق في طريق التقدم. والهدف هو تحقيق التميز أو تأكيد الهوية الذاتية في مدى الإضافة التي تنطوي على معنى الخصوصية.

وتاريخنا الثقافي والحضاري العربي خير دليل على ذلك، فقد وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى ذرى نهضتها التي أفادت منها الإنسانية كلها بواسطة حركة ناشطة في الترجمة، حتى من قبل أن ينشئ الخليفة المأمون "مدرسة الحكمة" أو "دار الحكمة" في بغداد العباسيين. ونعرف من المصادر القديمة أن حركة الترجمة العربية الأولى بدأت في العصر الأموي، موازية لاتساع مدى الفتوح الإسلامية التي أسهمت على نحوٍ غير مباشر في الانفتاح بالحضارة العربية على ميراث العالم القديم حولها، خصوصا بعد أن شعر العرب أنهم ورثوا الحضارات السابقة عليهم، وأنّ عليهم الإفادة منها، والبدء من حيث انتهت إليه.

- 3 -

ولا بد هنا -في سياق التعرض لحضور الترجمة في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية- من إضاءة سريعة لميلاد هذه الحركة المباركة التي أدرجت حضارتنا العربية الإسلامية في سلك الحضارات الإنسانية الكبرى، هذه الحركة ولدت في عصر الترجمة الأول، الذي يمكن اعتبار "بغداد" رمزًا له وعلامة عليه ونقطة انطلاق لما هو أبعد من ذلك، فبعد أن جعل الفتح العربي الإسلامي للمنطقة خلال القرنين السابع والثامن، من مجموعةٍ جديدة، حكامًا على منطقة الحضارات القديمة، وجد هؤلاء "الجدد" أنفسهم مضطرين للاستعانة بمن يترجم لهم الإرث الثقافي المكتوب المتاح بين أيديهم، لكي يتمكنوا من فهمه، وبالتالي من تأمين سلطتهم: فإن ضرورة إيجاد سند منطقي لدينهم الجديد؛ أي الإسلام، وإيمانهم بأن القرآن يشجع على اكتساب المعرفة أينما وجدت.

هذا بالإضافة إلى الثقة في أن للعلوم المختلفة مثل التنجيم، والفلك، والطب، والكيمياء فوائد عملية، كل هذا دفع الحكام في بغداد "الجديدة"، لا سيما منذ بداية القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) للاهتمام بمختلف أنشطة الترجمة. فتمت الترجمة إلى لغة السادة الجدد -العربية- عن اليونانية، غالبًا عبر الآرامية (كلغة وسيطة): مخطوطات أبقراط، وجالينوس، وأرسطو، وأفلاطون وغير ذلك الكثير. إلا أن هذا النشاط الذي يمكن وصفه بالمحموم وصل لمنتهاه بصورةٍ أو بأخرى بحلول نهاية القرن العاشر، حيث كان قد تم بالفعل نقل كل ما هو متاح، وكانت الثقافة الجديدة قد طورت ديناميكياتها الخاصة.

- 4 -

ثم جاء في المقام الثاني عصر الترجمة الثاني، الذي يمكن اعتبار مدينة "طليطلة" رمزًا له. مرة أخرى شكلت الصراعات السياسية والعسكرية الركيزة الأساسية: فمع التوسع الأوروبي خلال الحروب الصليبية (في القرنين الثاني عشر والثالث عشر) تأتي كذلك حركة الاسترداد في إسبانيا؛ أي الاضطهاد التدريجي للعرب، ثم طردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية. وقد شارك في ذلك أيضًا أوروبيون من وسط أوروبا وغربها، محاربين، ومغامرين، ومتعصبين دينيًّا، وعلماء. ففي القرن الحادي عشر بدأ ما يسميه المؤرخون الأوروبيون عصر "الإفاقة" المسيحية، وبدأ المسيحيون يعملون على استعادة الأرض الإسبانية من أيدي العرب والمسلمين، وفي سنة 1085 استولوا على مدينة "طليطلة"، ومع هذا فلم تفقد صبغتها العربية، بل ظلت مركزًا ثقافيًا يجتمع في جنباته علماء المسلمين والمسيحيين واليهود.

وفي بلاط ملوكها المسيحيين بدأت حركة إحياء علمية، وبدأت هذه النهضة في عهد الملك ألفونسو السادس، واستمرت في عهد ألفونسو السابع، إذ قام أسقف المدينة "راموندو" Ramunde بحماية هؤلاء العلماء ورعايتهم والحدب عليهم، وتشجيعهم على الاستمرار في جهودهم العلمية القائمة -حينذاك- على الترجمة عن العربية، فترجموا الكثير من الكتب العربية إلى اللغة القشتالية أولًا، ثم إلى اللغة اللاتينية بعد ذلك، وبعضها مما ترجمه العرب قبلًا عن اليونانية، والبعض الآخر مما ألفوه هم وضمنوه إضافات جديدة إلى الفكر الإنساني، وهذه وتلك كانت شيئًا جديدًا بالنسبة لأوروبا المسيحية مما خلق من طليطلة مركزًا ثقافيًا كبيرًا يجتذب إليه العلماء والأدباء والدارسين من مختلف أنحاء أوروبا.

- 5 -

وبالإضافة إلى هذا "التدويل" للصراعات الداخلية الإسبانية، كانت هناك بعض الأوضاع الديموغرافية المواتية: مجتمع قائم على ثلاثة أديان، وليس ثلاث ثقافات، كما قد يقال اليوم على الفور، فكان هناك مسيحيون، ومسلمون، ويهود؛ مجتمع متعدد اللغات واللهجات كذلك: العربية (كتابةً ولهجة)، واللغات العامية الرومانية، واللاتينية لغةً للكنيسة وللعلماء، وأخيرًا اللغة العبرية أيضًا.

وقد أتاحت هذه المعطيات ترجمة عدد كبير من الكتب العلمية (لا سيما الطبية والفلكية) والفلسفية. كانت تلك مخطوطات تم نقلها قبل قرون من اليونانية إلى العربية، أو كُتِبت أصلًا باللغة العربية. هكذا وصل أرسطو وجالينوس، وبطليموس وديسقوريدوس -بل وكذلك الرازي وابن سينا وابن رشد- إلى أوروبا باللغة اللاتينية، ودَعّموا "الحداثة" الناشئة هناك..

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

بين التمرد والتجريد: قراءة نقدية لمقال خالد كودي عن ظاهرة القونات

بين التمرد والتجريد: قراءة نقدية لمقال خالد كودي عن ظاهرة القونات

راني السماني

(من سلسلة: تفكيك الظاهرة- القونات، تمرد مُعلَن أم توظيف مُبطّن؟)

في مقاله الممتد بعنوان “بين الطار والعار: القونات يقئن الحمل على صلف النخب عند عتبات الخراب السوداني”، يقدم الأستاذ والفنان التشكيلي خالد كودي دفاعاً صريحاً وواسع النطاق عن ظاهرة “القونات”، بوصفها تمرداً فنياً أصيلاً، وساحة احتجاج جمالي على أنقاض الوطن المكسور، ويُلبسها أردية الهامش والمقاومة، ويضعها في قلب اشتباك جمالي مع النخبة، كما يُحمّلها أبعاداً احتجاجية تتجاوز المحلي، لتتصل بسرديات التمرد العالمي:من الدادائية إلى الهيب هوب، ومن الريغي إلي البوتو، بل ويضعها على تماس مع حلقات الذكر.

يُعيد كودي تموضع “القونة” لا كمجرد مؤدّية، بل كرمز مقاوم.

يكسوها لغة شعرية وفضاءً تمثيلياً كثيف الدلالات، كأنها تنهض من تحت الركام لتعيد للهوامش لغتها الخاصة، وللجسد دوره في مواجهة السلطة.

الطرح جريء، مشغول بهمّ إعادة الاعتبار لجماليات مُهمّشة، ومكتوب بلغة نَفَسية، مشبعة بالمجاز والانفعال الجمالي.

لكنه، برغم زخمه، يُطل برأسه من مرآة ضبابية: نلمح من خلاله صوراً لامعة، ولكننا لا نُمسك تماماً بالبُنية التي تربط تلك الصور، ولا بالسياق السوداني الذي يُفترض أن يحتضنها.

تمجيد الجسد أم تفكيك السلطة؟

في رغبته الواضحة والمشروعة لهدم خطاب النخبة المُحافِظة، يكاد كودي يُبرّئ الظاهرة برمّتها من أي مساءلة.

فكل انتقاد يُقرأ كتواطؤ برجوازي، وكل تحفظ يُفكك كامتداد أخلاقي سلطوي، وكل أداء جسدي يُستقبل كنص احتجاجي.

لكن هل يمكن للرمز أن يعفي الظاهرة من المراجعة؟

هل يُغني الاحتجاج وحده عن وجود رؤية متماسكة؟

وهل يقف الجسد وحده شاهداً دون خطاب يرفده، ومشروع يُنظّمه، ومرجعية تُنقّيه من التوظيف؟

تلك أسئلة لا يُجيب عليها المقال صراحة، لكنها تلوح من بين سطوره، كإيقاع خفي في نصّ يحتفي بالمخاطرة.

عن المقارنة القلقة: من “الدادائية” إلى “الزنق”

يربط المقال بين “فن القونات” وحركات احتجاجية كونية، وهو ربط يُحسب له من حيث الجرأة، لكنه يحتاج إلى عناية أكبر بالسياقات.

فهل يمكن فعلاً مقارنة ظاهرة سريعة التشكل، تنتج أحياناً في مناخ ترندات متقلبة، بحركات نشأت من معسكرات اللجوء، أو من جحيم الحرب العالمية، أو من شوارع السود الأميركيين المحاصرين بالقمع؟

قد تتقاطع الظواهر في الشكل، في الجسد، في الصوت، لكن السياقات لا تتشابه:

لا من حيث البنية الطبقية،

ولا الخلفية السياسية،

ولا أدوات الإنتاج الفني نفسها.

وهنا، لا نرفض المقارنة، ولكننا نُشير إلى الحاجة لتثبيت الفروق، كي لا تنقلب رمزية “القونة” إلى صورة جاهزة، تُعلّق على كل ثورة، وتُعلّب في كل مشهد احتجاجي دون تفصيل.

غياب المشروع الجمالي: سؤال لم يُطرح بعد

في خضم الاحتفاء بالشكل، لا نجد في المقال كثير تأمل في المضمون:

ما هو مشروع القونات فعلياً؟

ما مضامين أغانيهن؟

ما لغتهن الفنية؟

ما أدواتهن الجمالية؟

هل نحن أمام حركة تحمل خطاباً تحويلياً، أم مجرد تكرار جاذب لشكل اختُبر في أماكن أخرى؟

ربما لا يسعى المقال إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، وربما أراد أن يفتح الباب فقط، لا أن يُغلقه بإجابات حاسمة.

لكن مع ذلك، فالقارئ يخرج وفي قلبه فراغ صغير، يتساءل فيه:

من أين يبدأ الفن؟ من الشكل أم من الموقف؟

عن النخبة: هل كل نقد خيانة؟

المقال يعامل “النخبة” بوصفها جداراً واحداً، لكنه لا يُفكّك مكوناتها.

فيتساوى من صمت مع من قاوم، ويُدان من انتقد دون أن يُمنح فرصة التوضيح.

والحال أن النخبة في السودان، كما في أي مكان، متباينة:

هناك من غطّى القمع بشهادته،

وهناك من غنّى للمعتقل،

وهناك من صمت، وهناك من قاوم بالكلمة والموقف.

لهذا، يحتاج نقد النخبة، كي يكون عادلاً، أن يكون تفكيكياً لا تبسيطياً.

أن يفرّق بين الحارس والساكت، بين المتواطئ والمتحفّظ، بين من باع ومن انسحب ليحفظ ما تبقى من كرامته.

خاتمة: تمهيد لسؤال أعمق

لا يسعى هذا المقال إلى الردّ أو النفي، بل إلى فتح أبواب قراءة موازية، تُضيء ما غاب، وتضع بعض إشارات استفهام على خريطة كودي الثريّة.

وربما نحتاج، بعد هذا التقديم، إلى تفكيك أعمق للغة المقال، لمقولاته، لافتراضاته الجمالية والسياسية، وهو ما سيأتي لاحقاً في مقال منفصل، بعنوان:

بين الاحتجاج والتسليع

رد نقدي على مقال خالد كودي:”.

وما بين التمجيد والرفض، تبقى المساحة الرمادية هي الأكثر حاجةً للضوء.

مايو 2025

الوسومالحرب العالمية الزنق السودان القونات خالد كودي راني السماني معسكرات اللجوء

مقالات مشابهة

  • “دقائق في العالم الآخر”.. شهادة مفصلة لـ”عائدة” من الموت!
  • بعد فقدان 42 ألف دولار من خرينة المرفأ.. أمن الدولة يفتح تحقيقا مع مسؤولَين في مرفأ بيروت
  • قراءة في ،،،، خطّة المليشيا للسيطرة على العاصمة
  • هل لو عندى مرض أو مشكلة أصارح خطيبى؟.. أمين الإفتاء يجيب
  • الجمعية الطبية اللبنانية الاوروبية: وصول حاويتين محملتين بمعدات طبية الى مرفأ بيروت
  • ما حكم قراءة الأبراج ومتابعتها؟.. الإفتاء تجيب
  • بين التمرد والتجريد: قراءة نقدية لمقال خالد كودي عن ظاهرة القونات
  • شاهد.. الوجه الآخر لفليك مدرب برشلونة
  • إخماد حريق في مستودع للعجلات في مرفأ اللاذقية
  • مدير تعليم مطروح تتابع مسار امتحانات النقل في يومها الرابع