أشفق عليهم. عند النهايات يتفتتون كزجاج مُهشم. لا نظرة تعاطف تُساندهم، ولا دعاء مُحب يطمئنهم. تقوست ظهورهم من الانحناء، وجفت حلوقهم من الهتاف، فصاروا خرقًا مُهلهلة. أولئك المُثقفون أو أدعياء الثقافة المتملقون للسلطة فى كل عصر، والذين تكاثروا كذرات مُنشطرة حولنا، فضلوا وأضلوا.
أكره المصفقين لكل نافذ. التهليل والتطبيل من سمات الشعوب الراقدة لا الناهضة.
ويصل الأمر بمدح الحاكم إلى تشبيهه بالأنبياء، مثلما فعل الشاعر الأندلسى ابن هانئ فى مدح الخليفة الفاطمى المعز إذ قال«ما شئت لا ماشاءت الأقدارُ/ فاحكم فأنت الواحد القهارُ/ وكأنما أنت النبى محمد / وكأنما أنصارك الأنصار./ أنت الذى كانت تبشرنا به / فى كتبها الأحبارُ والأخبارُ».
وفى كثير من الأحيان يتحول المثقف إلى منصة تحريض وتبرير للحاكم للعصف بخصومه مثلما فعل الشاعر سديف مع الخليفة أبى العباس السفاح، بعد أن دانت له البلاد واستقر له الحكم وقرر العفو عن باقى الأمراء الأمويين، فأقام لهم وليمة، وجلسوا فى حضرته يأكلون. وعندها وقف الشاعر مادحًا الخليفة، وأطال ثم قال فى نهاية قصيدته «اقصهم أيها الخليفة واحسم/ عنك بالسيف شأفة الأرجاسِ»، فأمر الخليفة بذبح الضيوف المُعفى عنهم جميعا.
ولم يكن غريبًا أن يسمو بعض المبدعين بممدوحيهم إلى درجة التأليه مثلما فعل أبو نواس يوما فى مديح الخليفة الأمين، إذ قال له :«وأخفت أهل الشرك حتى إنه/ لتخافك النُطفُ التى لم تُخلقُ».
وفى العصر الحديث لم يكن غريبًا أن نسمع قامات وهامات تُسبح بحمد الحاكم وتمدحه بما هو غير أهل له، حتى أن الشاعر على الجارم قال مهنئا بمولد الملك فاروق يقول «مولد الفاروق يومٌ بلغت/ راية الإسلام فيه القمما».
وهذا صالح جودت صاحب الموهبة الفذة يُسخرها للتغنى بالحكام، ويضرب المثل الأكثر إدهاشًا فى النفاق الإبداعى، فيمدح الملك فاروق بأغنية تقول كلماتها «والفن مين أنصفه/ غير كلمة من مولاه. والفن يمن شرفه غير الفاروق ورعاه»، ثم يستجدى الرئيس عبدالناصر البقاء فى السلطة عقب تنحيه بعد هزيمة يونيو 1967 بقصيدة يقول فيها «أنت الصبر على المقدور..أنت الناصر والمنصور..ابق فأنت حبيب الشعب»، ونقرأ له فى مديح الملك عبدالعزيز بن سعود خلال زيارته لمصر، والملك حسين عاهل الأردن، والملك الحسن ملك المغرب قصائد جمة.
ومن بعده رأينا مثقفين تجارًا، ساوموا الأنظمة الديكتاتورية، وشاركوها نهبها، فأثروا وارتقوا، وانقلبت حيواتهم خاصة فى ظل سطوع معمر القذافى، وتجبر صدام حسين، والتمدد البدوى النفطى، وظل بعضهم يتنقل من مائدة إلى أخرى بخفة وحيوية، حتى أن أحدهم رأيناه قريبًا مطلًا علينا دون ذرة حياء لاعنًا المحكومين الظلمة الذين لا يستحقون حكامهم الأفذاذ.
ماكينة التملق مازالت دائرة فى عالمنا العربى، وهذا هو سر تخلفنا، وتقوقعنا، وتدهور أحوالنا، وربما كان المتقوسون بالكلمات هم من أقاموا جدارًا من الجفاء والارتياب بين السلطة والمثقفين الحقيقيين، وهم أيضا من ساهموا فى تفسير كل شئ بنظرية المؤامرة، وتصوير كل صاحب رأى بأنه عدو أو عميل أو خائن.
لكنهم يموتون أيضا، وينطفئ وهجهم الكاذب، وتتندر الأجيال القادمة بما كتبوا وقالوا.
والله أعلم.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: عصر
إقرأ أيضاً:
"العوض على الله".. الشاعر محمد عاطف يكشف لـ"الفجر الفني" عن تعاون جديد مع رامي صبري: كلمات تنزف إحساس، ولحن من قلب موجوع
كشف الشاعر الغنائي الكبير محمد عاطف في حوار خاص لموقع الفجر الفني، عن تعاون جديد يجمعه بالنجم رامي صبري، من خلال أغنية تحمل عنوانًا إنسانيًا موجعًا وعميقًا هو "العوض على الله"، وهي من ألحان رامي صبري وتوزيع المبدع طارق توكل، وتُعد واحدة من أبرز الأعمال المنتظرة على الساحة الغنائية.
وتحدّث محمد عاطف عن كواليس هذا التعاون، قائلاً: "سعيد جدًا بالشغل مع رامي صبري، وباعتز بيه على المستوى الفني والإنساني.. اشتغلنا مع بعض قبل كده، وكل مرة بنتقابل بيبقى في حالة صدق فنية حقيقية، رامي بيحس الكلمة من أول سطر، وبيعرف يطلّع منها إحساس لامس كل الناس".
وأضاف عاطف: "أغنية (العوض على الله) مش بس كلمات ولحن، دي حالة شعورية كاملة، بتحكي بصوت هادي عن الوجع والصبر والتسليم، فيها ملامح من كل واحد فينا مرّ بلحظة خذلان أو ضياع.. كتبتها من قلبي، ورامي لحنها من روحه، وطارق وزّعها بإحساس عالي جدًا".
الأغنية المنتظرة، التي سيُعلن عن موعد طرحها قريبًا، تُجسّد واحدة من أصدق الحالات الفنية، فهي ليست فقط عملاً غنائيًا، بل تجربة وجدانية تلامس تفاصيل كل مستمع، وتُحاكي بصوت هادئ ذلك الحوار الداخلي الذي يدور داخلنا حين لا نجد تفسيرًا للخسارة سوى أن "العوض على الله".
وقد صاغ محمد عاطف كلمات الأغنية بروح فيها الكثير من الشجن والتسليم، بينما جاء التوزيع الموسيقي لطارق توكل ليعزف على أوتار القلب، بإحساس ناعم يشبه النسيم في عزّ الحزن، ولحنٍ صادق يفيض صداه داخل الروح.
ويُعد هذا العمل الجديد تتويجًا لمسيرة فنية طويلة ومميزة للشاعر محمد عاطف، الذي استطاع عبر السنوات أن يخلق لنفسه مساحة متفرّدة في الأغنية العربية، بأعمال تُحفظ في الوجدان قبل الأرشيف، ويُشكّل هذا التعاون خطوة جديدة تضيف للاثنين، وترسّخ مكانتهما كأسماء تعرف كيف تُلامس القلب دون صخب.
"العوض على الله".. عنوان قدريّ، ونغمة حزينة، وكلمة صغيرة تختصر وجع العمر.. لكن لما تخرج من صوت صادق وكلمة مخلصة، بتتحوّل لترياق للوجدان."