البيطار: مركز الاستشراف الإفتائي يأتي امتدادًا لدرب الأكابر من العلماء الأوائل
تاريخ النشر: 19th, October 2023 GMT
قال الدكتور محمود حسن البيطار، كبير باحثين بالأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، إن شريعة الإسلام قامت على تحقيق الوسطية والاعتدال؛ وكان من ثمار ذلك أن عمل الشرع الحنيف على حفظ التوازن بين مادة الجسد ومطلوباته، وبين سمو الروح وصفائها؛ ليحفظ على الإنسان فطرته الصافية النقية، التي فطر الله الناس عليها.
جاء ذلك خلال كلمته بعنوان "موقف المؤسسات الإفتائية من الاستشراف الإفتائي لتطورات الواقع المعاصر مع تصور مقترح" بالجلسة العلمية الثالثة ضمن فعاليات مؤتمر "الفتوى وتحديات الألفية الثالثة" مضيفا أن عالمنا اليوم يهرول في سباقه المادي إلى تقدم تقني غير ملحوق، فأحدث على إثر ذلك أثرا غير مسبوق؛ وصار من صنع إنسان هذه الحضارة آلة تتعلم فتنظر وتقرأ، وآلة تكتب وتؤلف، وحلت الآلة محل العامل، بل محل الطبيب، بل استطاعت هذه الآلة أن تنقلك أيها الإنسان عبر فضائها الإلكتروني إلى أناس تفصلك عنهم المحيطات والقارات من خلال واقعها الافتراضي؛ فتشعر بهم، ويشعروا بك .. وظن إنسان اليوم أن هذه سيمفونية تعزفها على مسامعه العقود الأولى من الألفية الثالثة، التي كنا نعتقد بل ننتظر أن تحمل من تحضر الإنسانية، وصحو ضميرها، بمقدار ما حملته من تقدم مذهل، وقفزات مدهشة في مجالات التقدم العلمي والصناعي والحضاري المادي.
وشدد على أنه عند قراءة واقعنا قراءة أمينة سرعان ما يتلاشى هذا الظن؛ لنعرف أنه حلم من أحلام اليقظة، أفاقنا منه كابوس الواقع؛ لنوقن أن هذا التقدم لم يواكبه - مع الأسف - تقدم مواز في مجالات المسؤولية الأخلاقية والإصغاء لنداء الضمير؛ فلم يكترث إنسان هذه الحضارة المادية بالفطرة الإلهية التي فطر الله الناس عليها ... وتبين لذوي العقول أن العلاقة بين التقدم التقني والحضاري المادي وبين الانفلات الأخلاقي -مع الأسف- علاقة تلازم واطراد؛ وذلك في ظل فلسفات تقدس المادة، وتندفع نحو التعبد لأصنام الأثرة وحب الذات.
وأوضح أن هذا التقدم في عقوده القادمة غير البعيدة - وبغير إنذار - سيفرز لنا سيلا جرارا من التساؤلات الشرعية، والقضايا الإفتائية غير المسبوقة.
المؤسسات الإفتائيةوأشار إلى أنه في ظل هذا الصراع يأتي دور المؤسسات الإفتائية لتذكر بتعاليم الدين الحنيف، ولتصنع منها سياجا واقيا لحفظ منظومة القيم، ولتبعث في النفس صوت ضميرها المكلوم المكبل؛ تلك التعاليم التي تجسدها أحكام الشريعة الغراء.
وتابع: وتأسيسا على كل ما سبق، وفي ظل هذا الطوفان الهائل من التقدم وما يحمله للبشرية من آثار؛ يأتي دور المؤسسات الإفتائية من خلال محاولة استشراف القضايا الإفتائية المتولدة من رحم هذا التقدم .. من هنا كانت فكرة هذا الطرح البحثي الذي وسمته بعنوان: "موقف المؤسسات الإفتائية من الاستشراف الإفتائي لتطورات الواقع المعاصر مع تصور مقترح".
وعن تفاصيل هذا الطرح أضاف: وأنا ما وقفت هذا المقام في هذا المؤتمر الدولي الحاشد المهيب، الذي تعقده الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم؛ لأزعم السبق إلى ضرورة قضية الاستشراف الإفتائي؛ بل إننا على درب الأكابر لا بد أن نسير؛ فقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه: أن أبا حنيفة الإمام دخل على قتادة - رضي الله عنهما- فقال: يا أبا الخطاب، ما تقول في رجل غاب عن أهله أعواما، فظنت امرأته أن زوجها مات، فتزوجت، ثم رجع زوجها الأول، ما تقول في صداقها؟ ... فقال قتادة: ويحك، أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: فلم تسألني عما لم يقع؟ فقال الإمام أبو حنيفة - مؤسسا لمبدأ الافتراض الفقهي، والاستشراف الإفتائي -: "إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه".
وأشار كبير الباحثين إلى أن هناك فرق شاسع، وبون واسع بين زمن الإمام وزماننا؛ فلقد كان زمانه متسما بالتيسير وعدم التكلف لم تملأه التعقيدات، ولم يغزه طوفان من التقدم التقني في كل المجالات؛ ومن ثم كانت الحاجة إلى علم الاستشراف الإفتائي في زمننا هذا الذي تحدوه الألفية الثالثة ماسة، والضرورة ملحة، والأهمية قصوى.
وأضاف: ولعل سؤالا يلوح في أفق فكر بعض المستمعين الكرام؛ ما هذا الاستشراف الإفتائي الذي تزعم، وما المراد به؛ فأقول: لم أقف على من عرف المفهوم على النحو المقصود؛ فاجتهدت في تعريفه فقلت: "مهارة فقهية للمفتي، تهدف إلى استقراء شواهد الواقع المعيش ومعطياته؛ للوقوف على ما قد يتولد عنها من قضايا إفتائية، لم يسبق التطرق إليها، في محاولة لإيجاد فتاوى استباقية لها قبل الوقوع"، وهذا هو التعريف المطروح في الورقة البحثية.
واختتم بالتأكيد على أهمية هذا الطرح قائلا: إن ما ذكرته قد يصير ضربا من الترف الفكري العقيم، أو لونا من الفكر النظري المجرد، الذي لا يخدم الواقع في شيء ما لم يتوج بخطوة عملية استباقية؛ من هنا كان سعي الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم إلى تحقيق الدور المنوط بها .. من خلال: تأسيس أول مركز استشرافي إفتائي يعنى بالقضايا الإفتائية التي لا تزال في أفق المستقبل القريب، أو يعنى بفقه ما بعد النوازل والمستجدات، ولا ريب أن افتراضات الأمس هي وقائع اليوم، وافتراضات اليوم هي وقائع الغد ... وهو التصور المقترح المذكور في بحث هذه الكلمة الذي بين يدي حضراتكم، سائلا الله عز وجل أن يكون مركز الاستشراف الإفتائي خطوة علمية وعملية جادة على طريق السعي نحو فتوى مواجهة للتحديات، ومواكبة للمستجدات.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
هل نتقدم؟
ما الذي يبعثه فينا خبر القبة الصاروخية التي أعلنت بمناسبة القمة الخليجية الأسبوع الماضي؟ أول ما استحضره ذهني، هو خبر إعلان إسرائيل لقبتها الحديدية عام ٢٠١١م؛ وهي القبة التي اخترقتها الصواريخ الإيرانية هذا العام، ومن قبلها صواريخ حماس وحزب الله؛ رغم تكاليفها الباهظة التي بلغت ٢١٠ ملايين دولار، حسب ما هو منشور.
وإذا كان المسوّقون قد نجحوا في إقناع راسمي السياسات الإسرائيلية آنذاك بجدواها، فيبدو أنهم يصادفون نجاحًا آخر في الخليج هذه المرة. وبعيدًا عن النظرة الأمنية والعسكرية وحساباتها، يبدو أن بلدان الخليج تجد نفسها في مرحلة تطالبها بالمزيد من التقدم، لكن إلى أين يمضي ويفضي هذا التقدم؟
لا شك اليوم أن مدن الخليج أصبحت مراكز جذب عربية وآسيوية وعالمية، ومراكز فرص ومكاسب لكثير من الأجيال العربية والعالمية من خارجها؛ رغم أن الأوضاع الحالية الداخلية المتسارعة فيها تطرح الكثير من التحديات على أجيالها هي نفسها، بين القضايا التي لم تُدرس وتحلل وتُحل، ولم تحل نفسها بنفسها، كما هو رهان الساسة لدينا، ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة سريعة على الماضي العربي كفيل بإعطائنا لمحة عن السيناريوهات المحتملة لمستقبل التقدم الخليجي.
في العشرينيات من القرن الماضي كانت المدن العربية المركزية كالقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت والرباط وغيرها، وإن كانت واقعة آنذاك تحت الاستعمار المباشر بأشكاله، فإن النخب المثقفة فيها كانت تتطلع لمزيد من التقدم يضاهي باريس ولندن ونيويورك.
واليوم بعد مائة عام، إذا ما راجعنا فحسب أخبار نفس هذه المدن في هذا العام وحده، سنجد أن تلك النخب نفسها لا تشغلها هموم مختلفة عن أجيالها السابقة قبل مائة عام، بل هي نفس الهموم نسبيًا، ولكنها ما تزال معلقة بلا حلول، أو مؤجلة، رغم كل تراكمات أحداث القرن الماضي وارتفاعاته وسقطاته. بل إن بعض تلك المدن دخلت في دوامات من التغيرات المتلاحقة وصل بعضها للسقوط كما في بغداد، وأين منها بغداد التي تغنت بها رواية شارع الأميرات للفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا في الخمسينيات، أو أين دمشق من الياسمين الدمشقي الذي كان يتغنى به نزار قباني؟
في مناخ ما بين الحربين العالميتين في عام 1939م، كتب عبدالرحمن بدوي في مقدمة أحد أعماله، عن الثورة الروحية التي تحتاجها هذه الأمة، يقول: «هذا الوطن في أشد الحاجة إلى الثورة (الروحية) على ما ألف من قيم.. في أشد الحاجة إلى أن يطرح هذه النظرة القديمة للوجود والحياة، كي يضع مكانها نظرة أخرى، كلها خصب، وقوة، وحياة.. تصاعد فيها قواه.. خالقة تبدع في كل طور من أطوار هذا التصاعد صورًا للوجود خصبة سامية، وقيمًا للحياة.. في الإيمان بها إيمان بإمكان خلق جيل من أبنائه عظيم، وفي تحقيقها تحقيق لنوع من الحضارة زاهر ممتاز»
وما يذكره عبدالرحمن بدوي لا يختلف عما تتطلع إليه النخب الخليجية اليوم، والتي تحلم بتقدم وتحضّر وثورة (روحية) حقيقية.
ففي العدد الأخير الأسبوع الماضي من ملحق عمان الثقافي، نجد معجب الزهراني في المقابلة الصحفية التي أجراها معه الصحفي فيصل العلوي، يعيدنا لنفس المنطقة مستشهدًا بمقولة عبدالكبير الخطيبي: «دخلنا الحداثة على ظهر جمل»، ويضيف بعدها متحدثًا عن مجتمعاتنا اليوم: «تجد في المدينة العربية كما في القرية أو البلدة المرجعيات العتيقة التي تعود إلى آلاف السنين؛ وهي ليست تقليدية بل ما قبل التقليدية، وهي تعمل وتؤثر في وعينا وسلوكنا. ونجد المرجعية العلمية الحديثة في المستشفى أو في المصنع. ونجد المرجعية المعرفية الجديدة في الجامعة أو المدرسة؛ لكن بجانبها مباشرة المرجعيات الخرافية والأسطورية التي يعتقد كثيرون أنها هي التي تؤسس العالم وتفسره.
نحن ما زلنا نعيش هذا التنافر دون أن ندرك عمقه، ونتوهم أن هذه المرجعيات متصالحة فيما بينها، بينما هي في الحقيقة تتصادم وتتناقض في وعينا الجمعي والفردي، لذلك لا أعتقد أننا دخلنا عصر الحداثة بشكل جدي»
عبدالكبير الخطيبي بمناسبة ذكره هو الذي كان يرصد مثل هذه الظواهر العربية ويستقرئ دلالاتها. ويعنينا هنا أن نقتبس إشارته في كتاب الكتابة والتجربة، لأنها توافق هذا العام: «أن يكون المرء ممثلًا سنة 1925م في بلد إسلامي مثل تونس معناه خرق الأخلاق السائدة» ص68. فإذا كانت هذه الظاهرة التي يرصدها الخطيبي غير بعيدة عن مجتمعاتنا اليوم، فيبدو أننا نتقدم ببطء شديد، أو أننا نتقدم وننكص، أو ندور في دائرة مفرغة.
من الواضح أن هناك رغبة حقيقية في التقدم. لكن كما يبدو أن هذا التقدم يعرقل نفسه بنفسه، وما زالت إلى اليوم، كما في الماضي، تتعالى أصوات كثيرة تستشعر الخطر الفكري والعقائدي من كل تقدم أو تحرر. والواقع أن العقائد والهويات والقيم ليست أشياء يمكننا أن نرميها ونتخلص منها متى شئنا.
وإذا تجاوزنا النموذج السوفيتي وما آلت إليه روسيا اليوم، فيمكننا أن نضرب المثل بالنموذج التونسي والسوري، وما عادت إليه تونس وسوريا. فواقع الحال أن الثقافة والدين والأخلاق ليست ثيابًا نلبسها ونخلعها متى شئنا، بل هي في صميم تكويننا. وحتى أشد المتطرفين العرب إلحادًا اليوم لا يستطيع أن يخلص خطابه من تأثيرات الخطاب الإسلامي أو الديني عمومًا، فضلًا عن أن يتخلص من تأثيرات الثقافة في تفاصيل يومه. فالإسلام والدين باق وسيبقى؛ ليس لأن القرار السياسي أو السلطات الاجتماعية تقوم بدور الحارس اليقظ عليه، بل لأن الدين مكوّن عميق في الإنسان عمومًا، ولا يمكن تجاوز ذلك بمجرد توجهات أو قرارات أو توالي الحقب والعصور الزمنية، وكل التهديدات المضخمّة لا تبدو، من هذه الزاوية على الأقل، أكثر من ألعاب سياسية اجتماعية لإبقاء القطيع في الحظيرة.
التقدم الحقيقي لا يأتي من الخارج؛ بل هو صيرورة ثقافية عامة، وكما أن الدين مكون عميق في الإنسان فكذلك بقية سمات الطبائع الإنسانية؛ ولعل أبرزها هنا هو التحرر ومطلب الحرية.
فالإنسان بطبيعته ينزع نحو التحرر من كل القيود، ويريد أن يختار ويلتزم بخياراته بحرية مطلقة، وكل قسر يواجه مقاومة شديدة من الإنسان، بل وقد يفضي به لتفجير نفسه وتدمير ذاته؛ فالسجين وهو في سجنه إنما يحيا على أمل اليوم الذي يخرج فيه من السجن، اليوم الذي سينال فيه حريته من جديد.
هكذا، فإن كل الطرق ممكنة للتقدم، ولسنا ملزمين بالضرورة بالنموذج الغربي أو غيره، ويمكننا أن نتقدم بطريقتنا، ولكن ذلك رهن بوعينا واتساع آفاقه، واليوم لا ينقصنا شيء لفعل ذلك كما يبدو غير التحرر من تمنّعنا الداخلي، أو بالأحرى تخلصنا من كفرنا الجلي بقدرتنا على التقدم. وحين نؤمن بأنفسنا فلا أسهل من إحراز ما نصبو إليه، وليس التقدم شيئًا يمكننا استيراده أو شراؤه، بل التقدم إيمان ينبع من قلوبنا وأرواحنا ويجري لقرون على الأرض.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني