بقلم/ د. أحمد قايد الصايدي
قليلون منا من يتنبهوا إلى خطورة المصطلحات المستخدمة في وسائل الإعلام ، وفي تصريحات وخطابات السياسيين ، لاسيما الغربيين منهم.
وإذا ما تمعنا في الأمر، فسنكتشف بأن هناك حرباً حقيقية تدور في ساحة المصطلحات. ولكنها حرب تخاض بالكلمات ، وتستهدف التحكم في وعي الشعوب، وتوجيهها الوجهة التي تخدم واضعو المصطلح ومروجوه.
وكما كان أسلافنا يطلقون على المصطلحات العلمية (مفاتيح العلوم)، فإنه يمكننا اليوم أن نطلق على المصطلحات المتداولة في وسائل الإعلام وفي الأوساط السياسية (مفاتيح الوعي). لتحكمها في وعي الناس واتجاهاتهم ومواقفهم. فكيف يتم وضع هذه المصطلحات المتداولة، وتسويقها؟
بناءً على ما توفره حقول معرفية متعددة، كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التاريخ وعلم السياسة، من معارف ومعلومات عن المجتمعات المستهدفة، يتم وضع مصطلح يتناسب مع أهداف المنظومات السياسية والأمنية المعنية، ومع التكوين الاجتماعي والنفسي والتاريخي والمستوى الثقافي والأفق السياسي للمتلقي في تلك المجتمعات.
وبعد وضع المصطلح المناسب، القادر على التأثير في وعي المتلقي وتوجيهه الوجهة المطلوبة، يتم قذفه إلى أجهزة الإعلام الموالية، لتردده ليلاً ونهاراً، حتى يشيع استخدامه. بعد ذلك يُترك توسيع دائرة ترويجه للأتباع المرتبطين بتلك المنظومات السياسية والأمنية، وللمقلدين أيضاً، من محبي كل ما هو جديد، المفتونين بترديد المصطلحات والكلمات والعبارات الغريبة، التي يسمعونها أو يقرأونها، حتى ولو لم يستوعبوا معانيها، ولم يدركوا أهدافها.
ولننتقل من الحديث العام إلى الحديث المباشر، المتعلق بهذا المصطلح أو ذاك، ونحاول أن نفهم معنى المصطلح وهدفه.
في ورقة قدمتها في ندوة (مقاومة التطبيع)، التي عُقدت في شهر أغسطس 1996م بمركز الدراسات والبحوث اليمني، بصنعاء، ثم نُشرت في مجلة (الثقافة)، عدد 32، يونيو 1997م، تناولت عدداً من المصطلحات المستحدثة، التي حلت محل مصطلحات قديمة تمسكنا بها ذات يوم، وهي على النحو الآتي:
- (الانفتاح)، محل (الاستقلال الاقتصادي وبناء قاعدة اقتصادية إنتاجية وطنية متينة).
- (الخصخصة) محل (القطاع العام والخدمات العامة).
- (اقتصاد السوق)، محل (الاقتصاد الوطني الموجه لنهضة الوطن).
- (الشرق الأوسط الجديد) محل (الوحدة العربية الشاملة).
- (العالم العربي) محل (الوطن العربي).
- (الشعوب العربية) محل (الشعب العربي).
- (الإرهاب)، محل (النضال العادل).
- (الأرض مقابل السلام)، محل (استعادة فلسطين، كل فلسطين).
- (رفاق السلام)، محل (العدو الإسرائيلي).
- (سلام الشجعان) محل (ما أُخذ بالقوة، لا يُسترد بغير بالقوة).
- (دولة إسرائيل وحدودها الآمنة)، محل (الكيان الصهيوني الغاصب).
- (التطبيع)، محل (المقاطعة والمقاومة واستعادة الأرض المغتصبة).
وسنتوقف هنا قليلاً، عند أربعة من هذه المصطلحات، لها علاقة مباشرة بمصطلح يكثر ترديده هذه الأيام من قبل أجهزة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وداعميها من القوى الاستعمارية الغربية، وهو مصطلح (الرهائن). وهذه المصطلحات الأربعة هي:
الإرهاب :
أطلقت الآلة الإعلامية الصهيونية مصطلح (الإرهاب) على حركة المقاومة الفلسطينية. وقصدت به على وجه التحديد المقاومة المسلحة، التي لم يجد الفلسطينيون وسيلة أخرى غيرها، يمكن أن توصلهم إلى استعادة وطنهم السليب. ومنذ إطلاق مصطلح (الإرهاب) والترويج له، بالمعنى الذي قصده الإعلام الصهيوني، أخذ مصطلح (النضال العادل) يتراجع، تراجعاً مضطرداً، في أجهزة الإعلام العربية، ولا سيما إعلام الأنظمة العربية المنشدة إلى المحور الأمريكي وإلى مسيرة التطبيع والتسوية الأمريكية _ الصهيونية، حتى كاد أن يختفي كلياً. وغدت عمليات المقاومين الفلسطينيين، عمليات يُنظر إليها على أنها عمليات إرهابية، يقوم بها شباب متعصب متطرف، ضل الطريق السوي وأصبح معادياً للعقل والتعقل ومناوئا للسلام و (الاعتدال).
هكذا أصبح المناضل الفلسطيني المشرد من داره ووطنه، الذي لم يُترك له خيار لاستعادتهما سوى النضال المسلح، أصبح يُقدَّم في أجهزة الإعلام الصهيونية والغربية بصورة (إرهابي). أما مغتصب الدار ومحتل الأرض، ومن تلطخت يداه بدماء أصحابهما، فهو كائن وديع مسالم، يستحق الشفقة والمساعدة، ليحمي نفسه وما اغتصبه، من اعتداء صاحب الحق، الذي يهدد طمأنينته ويقلق راحته.
الأرض مقابل السلام :
لم يعد شعار (استعادة فلسطين، كل فلسطين) متداولاً، بعد الهزيمة العربية في عام 1967م. فقد حل محله مصطلح (الأرض مقابل السلام). والمقصود بالأرض، ليس فلسطين كلها، بل الأراضي التي استولى عليها الصهاينة نتيجة لتلك الهزيمة. فقد انتقل المسؤولون العرب، ومعهم بعض القيادات الفلسطينية، من المطالبة بتحرير فلسطين، كل فلسطين، إلى المطالبة بالأراضي التي كانت تحت أيديهم، حتى عام 1967م، وفرطوا بها في ذلك العام، ولم يحسنوا الدفاع عنها.
سلام الشجعان :
وكما تخلى المسؤولون العرب، ومعهم بعض القيادات الفلسطينية، عن شعار (استعادة فلسطين، كل فلسطين) تخلوا عن شعار (ما أخذ بالقوة، لا يُسترد بغير القوة)، واستبدلوه بشعار (سلام الشجعان). أي التخلي للصهاينة عن فلسطين، ومحاولة استرضائهم، ليعيدوا لهم الجزء الذي كان تحت أيديهم وفرطوا به. واعتبروا أنهم إذا نجحوا في تحقيق ذلك، عبر صفقة يعقدونها مع الكيان الصهيوني، برعاية أمريكية، ويحققون بها سلاماً مجحفاً، يفرطون فيه بحق الشعب العربي الفلسطيني في استعادة وطنه كاملاً، فذلك في نظرهم هو قمة الشجاعة والبسالة، إنه (سلام الشجعان).
التطبيع:
هو المصطلح الأكبر والعنوان الأهم، الذي تتجاوز دلالاته السياسية والاقتصادية والنفسية والتاريخية، معانيه اللغوية. ولكي نفهم هذه الدلالات، لابد من أن نستحضر بعض الأحداث التاريخية، التي لم يكن هذا المصطلح غائباً عنها، بل كان هدفاً نهائياً لها، ومنها على المستوى العالمي، تطبيع العلاقة بين السكان الأصليين في الأمريكتين، وبين المحتلين الأوربيين، الذي تطلب استئصال السكان الأصليين، وإحلال المحتلين الأوربيين محلهم، لتغدو الحياة طبيعية هناك، لا يسبب فيها أحد من السكان الأصليين أي إزعاج للمستوطنين الأوربيين (المسالمين)، القادمين من وراء البحار. وعلى المستوى العربي، نشر الفوضى (الخلاقة)، التي نشهدها اليوم، والتي تمهد لمزيد من التقسيم للوطن العربي، لإضعافه وتسهيل المضي في طريق التطبيع مع الصهاينة، المجلوبين إلى فلسطين من أنحاء الأرض.
ولكي يبقى الماضي أكثر حضوراً في أذهاننا، ما علينا إلا أن نعيد قراءة العبارات التالية، التي كتبها الكاتب الصهيوني الفرنسي (ماكس نوردو)، محدداً فيها هدف الاستعمار الفرنسي، بعد احتلال الجزائر: "إن شمال أفريقيا سيكون مهجراً ومستوطناً للشعوب الأوربية ... أما سكانه الأصليون فسيُدفعون نحو الجنوب، إلى الصحراء الكبرى، إلى أن يفنوا هناك" (محمد عمارة، العرب والتحدي، ص 278، سلسلة عالم المعرفة، مايو1980م).
الإفناء إذاً هو الهدف البعيد للحركة الاستعمارية، إفناء شعوب بكاملها. فالأرض لم تعد تتسع لغير المستعمرين. وهذا ما يراد تطبيقه على الشعب الفلسطيني: فيتم استئصال سكان غزة (حوالي مليوني فلسطيني)، بقتلهم عطشاً وجوعاً، أو تمزيقهم أشلاءً ودفنهم تحت أنقاظ بيوتهم، ودفع من تبقى منهم حياً إلى صحراء سيناء، ليتلاشوا، أو "يفنوا هناك"، بحسب تعبير الصهيوني ماكس نوردو. ويبدو أن هذا هو الهدف الأبرز حالياً للحرب الدائرة، التي يشنها الصهاينة على قطاع غزة، والتي هبت الإمبراطورية الأمريكية وحلفاؤها لتأجيجها والدفع بها نحو تحقيق هدفها القريب هذا، ونحو هدفها البعيد، وهو سحق أي مظهر من مظاهر المقاومة الفلسطينية، واستكمال استيلاء الصهاينة على ما تبقى من أرض فلسطين، وإنها القضية الفلسطينية إلى الأبد.
وفي هذا السياق يأتي مصطلح (التطبيع) مع الكيان الصهيوني، ليعمِّد إنهاء القضية الفلسطينية، ويقر بأن الكيان الصهيوني هو دولة من دول المنطقة، معترف بها عربياً، وتتمتع بعلاقات سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية وأمنية طبيعية مع كافة دول المنطقة، ولاسيما مع الدول العربية.
ولنتناول الآن مصطلح (الرهائن)، وهو مقصدنا الرئيسي في هذا المقال :
يتردد هذه الأيام مصطلح (الرهائن) في وسائل الإعلام الصهيونية وعبر تصريحات المسؤولين الصهاينة، العسكريين والمدنيين، وتصريحات داعميهم الغربيين. وقد أطلقت الأجهزة الصهيونية في فلسطين المحتلة هذا المصطلح، إثر العملية المجيدة التي قامت بها كتائب الشيخ عز الدين القسام، في السابع من هذا الشهر، أكتوبر 2023م. والمقصود بالرهائن هم (أسرى الحرب)، الذين أسرهم المقاومون أثناء المعركة المسلحة، التي خاضوها ضد الوحدات العسكرية الصهيونية. ومعنى مصطلح (الرهائن) هنا هو المعنى المألوف، المرتبط بمصطلحات أخرى، كالخاطفين والمختطفين والإرهاب والإرهابيين.
ويكرس مصطلح (الرهائن) ورديفه الآخر (المختطفون)، يكرسان في الذهن وجود عملية إرهابية، هدفها اختطاف بعض الأبرياء، واحتجازهم كرهائن، للمساومة بهم على مطالب تهم الخاطفين. فالإرهابيون الخاطفون يمارسون الابتزاز باستخدام الرهائن، لإجبار الطرف المقابل، الذي عادة ما يصور بصورة الضحية البريء، لإجباره على تلبية مطالبهم.
هنا تتحدد الخارطة في وعي المتلقي: مجموعة من المجرمين الإرهابيين (المقصود بهم الفلسطينيون طبعاً)، يقتحمون أراضي (دولة إسرائيل)، التي هي دائماً ضحية الإرهاب والعنف، فيقتلون الأبرياء ويختطفون عدداً منهم، ويحتجزونهم رهائن لديهم، ليستخدموهم في ابتزاز هذه الدولة المسالمة.
ويستمر ترديد مصطلح (الرهائن) من قبل وسائل الإعلام والقادة السياسيين والعسكريين الصهاينة وداعميهم. ويُستبعد مصطلح (أسرى الحرب) استبعاداً كلياً، بقصد محو العملية العسكرية الناجحة، التي شنها المقاومون الفلسطينيون في السابع من أكتوبر الحالي، ومحو الهزيمة التي منيت بها الأجهزة الأمنية للكيان الصهيوني وجيشه المدجج بالسلاح، محوهما من الذاكرة الجمعية، وكأنهما لم يحدثا أبداً، وتكريس الصورة البشعة للمقاوم الفلسطيني، المطالب بحقه في الأرض والكرامة، وهي صورة الإرهابي القاتل الخاطف، محتجز الرهائن من الصهاينة الأبرياء، المسالمين جداً.
وعلى هذا النحو يتشكل الوعي الزائف، ويتم التلاعب بعواطف وقناعات الجمهور، لاسيما في البلدان الأوربية، حيث تتحكم وسائل الإعلام بوعي المواطنين هناك، تحكما يكاد أن يكون كاملاً. ويكسب المحتل، المغتصب للأرض، تعاطف كثير من شعوب العالم، التي يتم توجيه مشاعر الغضب والكراهية لديها باتجاه الضحية، الذي سُلبت منه أرضه، وأصبح يعيش تحت وطأة الاحتلال والقتل والتشريد والحصار والتجويع والسجن (المدني) دون محاكمة، وتهديم مساكنه وتجريف مزارعه بأشجارها المثمرة، بشكل شبه يومي.
وهكذا يؤدي الفعل السياسي الإعلامي الأمني، المتكئ على جهود دوائر ومراكز بحثية متخصصة، يؤدي إلى إزاحة معاناة الفلسطينيين من دائرة الوعي، وجعل المتلقي للمصطلحات المستحدثة المدروسة، غير قادر على رؤية هذه المعاناة، وكأن عقله الواعي قد خُدر، وشُلت قدراته النقدية وملكة التمييز لديه، بين الصواب والخطأ، بين البراءة والإثم، بين المقتول والقاتل، بين الضحية والجاني.
وهنا تكمن خطورة المصطلحات، التي تبدو مجرد ألفاظ وعبارات، لكنها تغدو، عندما يتم التلاعب بها ووضعها في السياقات الخاطئة، تغدو قوة مادية ونفسية وعقلية هائلة، تشوه الوعي وتخلط الأوراق وتغير المواقف، وتُلبس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق، وتفرز أنماطاً من التفكير والسلوك، قد يصلا إلى مستوى التعصب والكراهية والعدوانية المنفلتة. وهذا ما يتوجب على المثقفين العرب أن يتنبهوا له، ويعملوا على مواجهته مواجهة واعية، تكشف مرامي كل مصطلح تضعه الدوائر الصهيونية والغربية المعادية، وتسوقه عبر وسائل إعلامها، وعبر كتابات أتباعها.
وختاماً لا بد من أن نلاحظ بأن طغيان المصطلحات المستحدثة التي تخدم الحركة الصهيونية والسياسة الاستعمارية، طغيانها على المصطلحات التي كانت سائدة في الوطن العربي، وعبرت حينها عن أحلام وطموحات الشعب العربي، قد تناسب طردياً مع انهيار الأوضاع العربية، بشكل عام وتراجع المشروع العربي وضعف الأحزاب السياسية العربية وتفككها، وتكيف بعض قياداتها مع المشاريع المعادية للمشروع الوحدوي العربي. وهذا موضوع يمكن تناوله في مقالات أخرى.
المصدر: سام برس
كلمات دلالية: الکیان الصهیونی وسائل الإعلام کل فلسطین فی وعی
إقرأ أيضاً:
هل يساعدنا مصطلح «سحابة الفاشية» على فهم اليمين المتطرف ومقاومته؟
في الشهر الماضي، وبعد أسابيع قليلة من الاعتقالات العشوائية وحالات منع عبور الحدود الأمريكية، كان يفترض أن أذهب إلى جامعة برينستن محاضِرةً زائرة لمناقشة الفاشية العالمية. سألت الأساتذة الذين وجهوا لي الدعوة عما إذا كانوا يرون حضوري آمنا. وحينما كنت في تركيا، كان أصدقائي من الصحفيين الأوروبيين يطرحون ذات يوم سؤالا مماثلا عما إذا كانوا سيتعرضون للاحتجاز. وبالضبط كما كنت أفعل معهم، تردد الأساتذة الأمريكيون غير ناطقين إلا ببعض جملة: «يعني، كما لا يخفى عليك...». وتقرر إشراك شركة قانونية في الأمر. وبعد بعض المداولات، كان التقدير النهائي مبهما على نحو مثير للقلق: «الاحتجاز مستبعد، لكن لا يمكن أن نقطع بذلك». وأخيرا، وتحرِّيًا للأسلم، لجأنا إلى خيار الإنترنت.
في النهاية، سارت الأمور على ما يرام ظاهريا، لكنني أعلم من انتمائي إلى الجانب الآخر في هذه القصة أن الخيط الحريري الرابط بيننا نحن البشر قد انقطع. فهم شعروا أن أرضهم باتت أظلم بعض الشيء، وأنا شعرت بالتخلي عن أولئك التعساء في ذلك الوقت العصيب. وفي النهاية، يجدر بمثلي أن تعلم: على هذا النحو ينحدر بلد إلى الظلام، لا بأوامر من دكتاتور وإنما بتخلي العالم الخارجي عن شعب هذا البلد، وتركه وشأنه، بقطع ملايين الخيوط التي تربطنا ببعض في إنسانية واحدة.
في الوقت نفسه، رأينا أن ما بدأ بوصفه عبثا صادما ـ من قبيل منع دخول أكاديميين ومثقفين وبشر عاديين أو الزج بهم في السجن لأسابيع إثر تفتيش هواتفهم ـ سرعان ما تحول إلى الطبيعي. بات غير المقبول بسرعة بالغة هو الطبيعي، فبعد أسابيع قليلة من الأزمة الحدودية، بدأ الاتحاد الأوروبي يوزع على العاملين فيه هواتف جديدة رخيصة عند ذهابهم إلى الولايات المتحدة.
ونبهت بعض البلاد الأوروبية مواطنيها المثليين إلى توخي الحذر عند زيارة الولايات المتحدة مستعملة نبرة شبيهة بنبرة موقع (المستشار السياحي -Tripadvisor). وهكذا بدأ الهزل دونما تحذير ليستمر في عشوائية مطلقة. إذ يصادف الناس متاعب كالتي وصفت في التقييم الذي حصلت عليه للصعوبات المحتملة: «مستبعد لكن دونما تأكيد». وفي هذا الإبهام المثير للقلق تكمن سمة فريدة في فاشية زماننا.
يحاول كثير منا نحن المفكرين والسياسيين أن يتوصلوا إلى مصطلح جذاب لفاشية زمننا.
ولقد بات يخطر لي أن في جوهر تلك المحاولة لا تكمن فقط الرغبة في التحليل وإنما الدافع أيضا إلى لفت أنظار الناس ليحذروا الحذر الواجب. ولعل دافعا إنسانيا للغاية هو الذي يدفعنا إلى هذا التفكير: «لو أننا عثرنا على الكلمة الصحيحة، فسوف يتمهل الناس وينصتون. ولعلهم من بعد ذلك يفعلون شيئا».
والواقع أنها هي نفسها الفاشية القديمة، لكنها تتزين بنظارات جديدة وأجهزة براقة، فالأمر أشبه بنسخة محدثة من تطبيق أضيفت إليه خصائص جديدة. ومن هذه الخصائص الجديدة في فاشية القرن الحادي والعشرين أنها أشبه بالسحابة. ففي النهاية، هي ابنة سياسية للرأسمالية السحابية.
صيغ المصطلح على يد السياسي والاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس. فهو يقول إن لدينا نظاما اقتصاديا جديدا استبدلت فيه شركات التكنولوجيا الضخمة ـ التي تعمل من السحاب ـ المنصات والإيجارات بأعمدة الرأسمالية التقليدية من قبيل الأسواق والربح. من خصائص هذا النظام خلق إقطاعيات رقمية يعمل فيها أفراد، أو إقطاعيون، لصالح هذه المنصات. فالأمر أشبه بالعصور الوسطى، ولكن في نسخة تكنولوجية. وبطبيعة الحال لا يلقي الناس أنفسهم في هذا النمط الجديد من العبودية، ولكن الأمور تجري في الظاهر كما لو بدافع من النظام الطبيعي.
يكشف مصطلح «السحابة» الكثير عن واقع العالم الراهن. فما في هذا النظام من سمات سحابية من قبيل الغموض والسيولة والانزلاقية ـ وحضوره في كل مكان وفي لا مكان في الوقت نفسه ـ شبيه تماما بحركة سحب العواصف. فهو الآن في تركيا، يعمل من خلال زج رجب طيب أردوغان بمنافسيه السياسيين في السجن، وهو الآن في إسرائيل يعمل بتجويع الأطفال الفلسطينيين. وبعد ظهوره على سواحل إيطاليا ليرد المهاجرين إلى البحر الذي أقبلوا منه، يظهر مرة أخرى، وعلى حين غرة، في الولايات المتحدة على أرض جديدة متجسدا هذه المرة في شرطة الحدود. فلسحابة الفاشية أياد لا حصر لها تقترف جرائم لا يمكن التنبؤ بها وعلى نحو عشوائي، فنحاول جميعا أن نجاريها ونتكيف معها. وأن نتعايش معها شأن الإقطاعيات السحابية. ولا تكاد تمضي فترة قصيرة حتى نفقد قدرتنا على الشعور بالصدمة، فنتقبل السحابة على مضض، وكأنها باتت الآن ظاهرة طبيعية لا بد من أن نتعايش معها. وكأنما هي سحابة موجودة بلا نزاع. فكل ما عليك ألا تصطحب هاتفك معك إلى الولايات المتحدة. اشتر واحدا جديدا رخيصا. وليس ذلك بالأمر العظيم. وبما أن هناك سحابة، فاشتر مظلة، وأسرع في سيرك عند المرور بمن لا يحملون المظلات.
أطلق البابا فرانسيس الراحل على هذا الموقف السحابي وصف «اللامبالاة العالمية». وكان كثيرا ما يشير إلى كرامة الإنسان باعتبارها خط الدفاع الأخير للأخلاق الإنسانية في مواجهة إهانات واقعنا السياسي والاقتصادي الحالي. وحسب فهمي، لم يكن البابا يقصر كلامه فقط على كرامة الفقراء التي يمتهنها غياب المساواة. فالكرامة، بما هي قيمة إنسانية توحدنا جميعا، قد تتضرر عبر العديد من الطرق الأخرى. فالقادرون على الحصول على مظلات لحماية أنفسهم من الفاشية السحابية، والممتنعون عن الاحتجاج الذين يشترون هواتف جديدة، هم جميعا أهينت كرامتهم أيضا، وإن أرغموا قلوبهم على ألا تشعر بهذا. لم يتوقف البابا الراحل عند الإشارة إلى كرامة الإنسانية المهانة، بل ألمح إلى المقاومة المدنية حينما قال إنه حينما لا تكون القوانين جيدة بالقدر الكافي، يمكن أن يعارضها المرء بأن يلتزم بصف الصالح العام.
وأخيرا، في فيلم ويم ويندر الوثائقي عن البابا، قال: «الثورة. لا تخشوا الكلمة». هذه كلمة ظلت لبعض الوقت مشفوعة بابتسامة ساخرة أو إشارة سخرية واضحة حتى في الأوساط الثقافية التقدمية. تلك السخرية علامة فقداننا الاسمين بالإنسانية وعلامة بدء إذعاننا لأشد السحب دكنة. في حين ارتسمت على وجه البابا ابتسامة عريضة وهو ينطق الكلمة، فيا له من فارق كبير.
سحابتنا هذه، سحابة الفاشية، تنتقل في أرجاء الكوكب، تغرقنا بالمطر الحمضي. غير أنه مع كل ظهور لها في بلد، يتصرف أهل الأرض وكأنها المرة الأولى التي يشهدون فيها ذلك. وتكرار الدهشة علامة على بدء تراجعنا، وإيماننا بأن مظلة كبيرة بالقدر الكافي، ومصنوعة من أجل بلدنا دون غيره، قادرة على وقايتنا، وهذا أول بزوغ للهزيمة. فالمسألة هي هذه: هل سنطرد هذه السحابة قبل الاستسلام الأخير؟ إن ما يحول بيننا، أي بين الإنسانية، وبين السحابة الداكنة، ليس إلا مسألة إيمان. لا بالله بالضرورة، وإنما بكيان من الفرحة السماوية يتجسد حينما يجتمع الناس للدفاع عن كرامتهم، في سحابة مقاومة عشوائية وسائلة ولا يمكن التنبؤ بها، بقدر سحابة الفاشية. فلا يقدر على منع المطر الحمضي إلا سحابة مقاومة باسم الكرامة الإنسانية تكون في كل مكان. ولست أدعو إلى ثورة، ففي نهاية المطاف، أنا لست البابا، عسى أن يرقد في فرحة وكرامة.
إيجي تيميلكوران صحفية تركية ومعلقة سياسية صدر لها كتاب «كيف تفقد بلدا: 7 خطوات من الديمقراطية إلى الدكتاتورية».
عن صحيفة الجارديان البريطانية