صحيفة التغيير السودانية:
2025-06-06@05:44:43 GMT

سقوط نيالا وحروب الأنبياء الكذبة

تاريخ النشر: 29th, October 2023 GMT

سقوط نيالا وحروب الأنبياء الكذبة

بقلم: عثمان نواى

” هذه الارض لاتنبت الا الانبياء هذا القحط لا تداويه الا السماءهذه أرض اليأس والشعر، تحت هذه السماء الرحيمة الجميلة أحس أننا جميعاً أخوة.”
موسم الهجرة إلى الشمال الطيب صالح

سقوط نيالا تصدر الاخبار الدولية بعنوان هام للغاية, وهو سقوط ثانى اكبر مدينة في السودان , بعد الخرطوم طبعا. وهذا العنوان, إضافة الى تركيبه الجاذب صحفيا, ولكن موضع الاثارة فيه ياتى من حقيقة يبدو ان النقاشات المحلية التي تناولت خبر سقوط نيالا وانسحاب الفرقة 16 تغاضت عنه تماما.

وهى حقيقة ان نيالا هي “ثانى اكبر مدينة في السودان”. وهى معلومة ربما لا يعلمها كثير من السودانيين, فهى ثانى اكبر مدينة من حيث عددية السكان, كما ان التلاقح الاجتماعى جعل المدينة صرة دارفور الجامعة. إضافة الى انها ذات بعد استراتيجى لوجستى كما انها تجمع اقتصادى اساسى في غرب السودان. لذلك فان سقوط نيالا يجب النظر اليه على انه مرحلة جديدة من الحرب في السودان, ولكن انشغلت جدالات اللايفاتية ونجوم السوشيال ميديا وبعض السياسين والمثقفين بقصف الجبهات وتبادل الاخبار التي يتم تكذيبها لاحقا من احد الطرفين. وبعيدا عن سرديات تقسيم السودان او ضعف الجيش, فان الصورة التي نشاهدها للاحداث في السودان منذ اشهر لا تدعم سيناريو محدد بقدر ما انها تدعم سيناريو الفوضى. هذه الفوضى تنبع أساسا من تعمد كل الأطراف- الوالغة في الحرب عسكريا او سياسيا- لتزييف الحقائق وتبنى خطابات وسرديات تزيف الواقع وتهدف أساسا الى تضليل الناس وليس ” تنويرهم” بما يجرى.
فحرب السودان الحالية ستكتب في التاريخ على انها أكثر الحروب التي تم فيها استخدام الاخبار والسرديات الزائفة كجزء من اليات الصراع العسكرى والسياسى معا. هذا الاستخدام لتزييف الاخبار والسرديات للأسف لا ياتى من خبرة كبيرة في استخدام التكنولوجيا او السوشيال ميديا او حتى إدارة الحملات السياسية, بل على العكس تماما. هذا الزيف ياتى من تشوش المصادر ورغبتها الصادقة ” الوحيدة” في عدم إيصال الحقيقة للناس. فمن المثير للاهتمام ان يكون الدعم السريع من اوائل مستخدمى الذكاء الاصطناعى لتزييف الصور والفيديوهات, ولكن هذا الاستخدام بغض النظر عن من يقف وراءه هو نتيجة مباشرة لعقلية والية تفكير لا تريد للناس ان يعرفوا او يتعاملوا مع الحقائق او ان يدركوا الواقع. فلا يوجد حرب في العالم يتم جدل فيها حول ما اذا كان قائد احد القوتين العسكريتين ميتا او حيا. هذا مستوى من تزييف الواقع والهروب منه غير مسبوق ومثير للاشمئزاز عند التفكير فيه عمليا. ومن جانب اخر فان الخطابات الإعلامية والسياسية من جانب الجيش او حتى القوى السياسية سواء كانت كيزانية او قحتية, جميعا تتبنى خطابات تتجنب عرض مواقفها الحقيقية. وتحاول التغطى بخطابات طهرانية وطنية يسقط زيفها مع اى مقارنة بين الخطاب والفعل واحيانا بين الخطاب والخطاب نفسه. مما جعل التعامل مع الحرب الحالية في السودان في اطار صحفى او تحليلى جاد امر صعب للغاية, ان لم يكن مستحيلا. فالعقل الراشد لا يستطيع ان يحلل او يتفهم الا المعلومات والسرديات الحقيقية والواقعية. ولكن في ظل التزييف الكامل للواقع الذى نتلمسه في مجرى الاحداث والاخبار المتداولة والمواقف المعلنة من جميع الأطراف فان التعامل مع الاحداث لا يمكن وضعه في اطار علمى او صحفى او تحليلى عقلانى. فلا احد في الواقع السياسى والعسكرى الراهن مستعد للخروج من دائرة الواقع الافتراضى الذى خلقه عبر وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعى وحتى نقاشات المثقفين او السياسيين. الجميع يرتدى نظارات واقع افتراضى للتعامل مع واقع على الارض فوضوى ومشوش. ويبدو ان الهروب الذاتي الى ذلك الواقع الافتراضى هو احد الوسائل الشخصية للبعض للتواؤم النفسى مع حجم الكارثة الذى ساهم الكثير من هؤلاء الهاربين منها في صناعتها, ومحاولة منهم للهرب من حقيقة تحملهم مسؤولية ما يجرى من مأساة فى ارض السودان.
ومما ساعد على حالة التزييف هذه, هو تغييب وسائل الاتصال والاعلام عن الاحداث على الأرض, فالحرب في السودان ليست متلفزة كما هي حرب غزة. بل هي حرب تجرى بعيدا تماما عن عدسات الكاميرات. ورغم وجودنا في عصر السوشيال ميديا, ولكن المنشور فعليا من داخل السودان من صور او فيديوهات تصور واقع الناس يظل ضئيل للغاية, وذلك لأسباب عدة. منها الشفشفة المستمرة لتلفونات الناس العادين وخاصة الشباب, والترهيب من قوات الدعم السريع والجيش للشباب والنشطاء والصحفيين في الداخل وخروج اغلب المصورين والصحفيين والنشطاء من البلاد, إضافة الى سوء شبكات الانترنت والاتصال. هذا اضافة الى عدم إيلاء وسائل الاعلام الدولية والإقليمية اهتمام كافى للسودان. اضافة الى انه حتى الجانب الحقوقى لرصد الانتهاكات على الأرض يتعرض لنفس دوائر الترهيب بل للتزييف أيضا في بعض الأحيان. اذن حرب السودان تجرى في فضاء مغلق تماما. مما سمح لكل الأطراف اطلاق سرديات في السوشيال ميديا لا تعبر عن واقع الاحداث بل تعبر عن خليط من ” المشاعر الخاصة والمصالح الشخصية المسيسة أحيانا, إضافة الى توجيهات جهات خارجية عديدة إضافة الى طموحات فردية او امنيات واهمة حالمة لمثقفين او سياسيين ,قليلها ممكن وأكثرها مستحيل.” لذلك اغلب المنتجات الإخبارية والفكرية والأوراق او التحليلات السياسية المنتجة من جميع الأطراف في هذه الحرب يجب ان تخرج مع ” disclaimer” الزامى مثل ما يحدث في تتر الأفلام ( هذه الاحداث و السرديات لا تمت بالواقع بصلة , ولا تتحدث عن شخصيات واقعية بعينها, واى تشابه بين الاحداث او شخصيات واقعية هو محض صدفة ولا يتحمل منتجو الفيلم اى مسؤولية عنه.” وهذه العبارة الأخيرة هي بالذات ما يسعى اليه معظم الفاعلين السياسيين والعسكريين في السودان وهو ” عدم تحمل المسؤولية عن اى مما يجرى الان”. ويكاد يكون التهرب من المسؤولية ومحاولة البعض وصف هذه الحرب بالعبثية, حتى من قيادات الحرب نفسها, هو احد اهم مؤشرات هذا الهروب المتعمد من المسؤولية. وفى أجواء الهروب من تحمل المسؤولية هذه, فان اى احتفاء بانتصار او الحزن على هزيمة يعد ” عبثى” بالنتيجة. ويدور رحى هذه الحرب في الواقع, ولكن من قبل قيادات عسكرية وسياسية غير ناضجة ويبدو كانهم مجموعة مراهقين يلعبون العاب فيديو يحركون فيها مسيراتهم التي خرجت من شاشات الكمبيوتر واصبحت تضرب في الواقع, ولكنهم يريدون انكار هذه الحقيقة.
لا يكاد المرء يصدق ان الحلول السياسية تخرج بهذا القدر من عدم المسؤولية من مثقفين وسياسيين يعتقدون انهم صناع الحل والعقد, فيخرجون بقائمة أماني ومجموعة من المطالب وصياغات تبدا ” ب يجب” ولا تنتهى بكيف او متى او من الذى سيحقق كل تلك الموجبات. ومن ناحية أخرى تجرى مفاوضات تتعلق بها أرواح السودانيين املين في السلام, ولا يخرج لهم احد يطمئنهم او يشركهم في واقع حياتهم او احتمالات مستقبلهم التي نخشى ان تكون مظلمة جميعا. وبين دفتى الامال والظنون, وعبثية القادة السياسيين والعسكريين ودموية صراعاتهم, يقع شعب كامل في فخاخ جهله, ورغباته في تصديق قدوم الخلاص من المهدى المنتظر الذى كان دائما وهماً سواء قبل 150 عاما او الان. ويسخر التاريخ من السودانيين بتكرار نفسه, ولكنهم لازالوا لا يعون. فقد اتاهم دراويش المهدى في ثياب مرقعة وقالوا لهم سنحرركم من الاتراك, ولكنهم حرروهم من الحياة كلها. فما بقى من الشعب السودانى بعد انتهاء المهدية الا ثلث سكانه الذين عاشوا قبلها. واتاهم اليوم اشاوس الدعم السريع يدعون حماية الديمقراطية وتحرير الشعب من الفلول, وكتائب البراء والمجاهدين يريدون تحرير الوطن من المليشيا, وما نجح لا هؤلاء ولا هؤلاء, بل هجر السودان خمس سكانه في 6 اشهر, ربما الى غير رجعة الى ارضه. ولقد نسى العالم السودان سنين عددا زمن المهدية لانشغاله بقضايا اهم, وعندما انتبه جاءنا احتلال ثنائى. و بما اننا شعب لم يتعلم من تاريخه ولا زال يصدق الأنبياء الكذبة, سواءا في السوشيال ميديا او كتيبات واوراق المثقفين وفيديوهاتهم او خطابات السياسيين او وعود انتصارات العسكريين, فكما ان الدمار الحالي اشد واكبر من قبل 150 عاما , فان الاحتلال القادم ربما يكون رباعيا او خماسيا, وحينها لا يهم ان كان السودان دولة او دويلات, المهم انه لن يكون الوطن الذى كنتم اليه تطمحون حين خرج شباب ديسمبر. ان قتامة المشهد تاتى من اظلام العقول التي تتوهم إدارة الواقع الراهن في السودان. في حين انها غارقة في اوهامها الذاتية وهروبها الشخصى من مسؤوليتها في تضييع وطن بأكمله. ان ما هو قادم لا يبشر بخير ان لم ينتفض جيل جديد وينتزع حقه في الحياة من أيادي الأنبياء الكذبة في جميع الأطراف. فكما قال الطيب صالح في رواية موسم الهجرة الى الشمال, ان صحراء تلك البلاد لا تنجب الا الأنبياء , ولكنه غفل عن كونهم قد يكونوا حقا انبياء ” ولكنهم حتما كذبة”.
osman.habila@gmail.com

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السوشیال میدیا سقوط نیالا فی السودان إضافة الى حرب فی

إقرأ أيضاً:

السودان بين خرائب الحرب والسياسة، وأمل البناء

السودان بين خرائب الحرب والسياسة، وأمل البناء

وجدي كامل

بعد اندلاع الحرب الكارثية والمأساوية التي عصفت بالسودان، لم تعد البلاد تحتاج فقط إلى وقف القتال أو إعادة الإعمار المادي، بل باتت الحاجة أكثر إلحاحًا إلى إعادة ضبط “ساعة الحياة” في العقول، وإطلاق طاقات التفكير النقدي لدى الأفراد والمؤسسات على حد سواء. فبدون إحداث تحول جذري في محتوى وطريقة التفكير، سنظل نعلّم الأجيال القادمة دروس الفشل كما ورثناها، وعندها لن ينفع الندم.

إن الثقافة السياسية السائدة، في مختلف الخطابات، لا تزال أسيرة لتجارب الماضي، ويمكن وصفها بثقة بأنها “ثقافة سياسية تقليدية”، بذات القدر الذي نحوز فيه على سياسيين “تقليديين” يدينون بمعارف وتاكتيكات عمل غيّر محدثة، وان اجتمعوا على مطلب المدنية والديمقراطية. ان ارتكاز فهم السياسة على الصراع حول السلطة ومغانمها، دون إيلاء الاهتمام الحقيقي بتطوير البرامج والرؤى التي تُعنى بالقضايا الجوهرية، وعلى رأسها: محاربة التخلف والفقر والفساد، والنهوض بالبنية التحتية للوعي الثقافي للمجتمعات.

وما يزيد الأمر تعقيدًا أن هناك فجوة عميقة بين التنظيمات السياسية — “الأحزاب”— وبين المجتمعات السودانية. وهذه الفجوة لا تبقى عائقًا فحسب، بل تصبح مجالًا خصبًا لأعداء التغيير والتطور، الذين يستثمرونها ببراعة لعرقلة عمل التنوير “على قلته”، ومنع تحقيق التنمية الكلية العادلة.

وفي هذا السياق، تلعب الثقافة الدينية والاجتماعية — في كثير من الأحيان — دورًا سلبيًا مضادًا لتطور العمل السياسي نفسه، إذ لا تزال العقلية العامة تفتقر إلى المساحات والقابليات التي تحتضن الأفكار العلمية والاحتكام لنتائج التقدم المعرفي والتقني. فغياب هذه القيم عن مراكز التفكير الاستراتيجي بالسياسة يعمّق من أزمة التخلف ويعوق أي محاولة جادة للتحول المدني والديمقراطي في عالم سيدير السياسة فيه، بعد قليل، الذكاء الاصطناعي كتقنيّة متقدمة في صناعة السياسة.

لقد كشفت الحرب عن هشاشة المنظومات الفكرية التي صدرت من واقع ما عاد موجودا، واقع تم تشكيل آليات عمله السياسية ابان الحرب العالمية الثانية، كما الحرب الباردة. لقد طرحت المستجدات الكوكبية المرتبطة باعادة تشكيل السياسة أسئلة جديدة حول طبيعة البرامج والأبنية والعلاقات البينية بين السياسة والاتصال السياسي، ما يتطلب في هذا الوقت الحرج، وفي ظل اندلاع الحرب وتزايد نفوذ قوى الفساد الشريرة كتنظيم الاخوان المسلمين، وما اكده من نوايا تدمير الحياة، ونهب الموارد عبر أدوات التضليل والغش المعلوماتي، فإن المواجهة لا يمكن أن تكون إلا بإعادة صياغة المشروع السياسي نفسه من داخل تكنولوجيا الاتصال التي حلت محل الاتصال الفيزيائي القديم.

إن التحالف المزمن بين المال السياسي وعسكرة المجتمعات وتفريغ الحياة من المعاني الاخلاقية والقيم ظاهرة تجلّت بوضوح خلال هذه الحرب، ما يستدعي مقاومة سياسية جديدة تقوم على وعي علمي واقتصادي ديمقراطي، يشتغل على تأسيس اقتصاد وأمن الديمقراطية بعلاقة حيوية ومباشرة مع الحوكمة الرشيدة والعدالة الاجتماعية.

هنا تبرز اهمية الانفتاح على الديمقراطيين خارج التنظيمات السياسية والمدنية بما لهم من كفاءات علمية ومهنية تربطهم بعملية قيادة المقاومة السياسية بدلا عن طردهم وتنحيتهم عنها تحت مسوغات انهم تكنوقراط غير فاعلين سياسيا. ان جريرة هؤلاء تتمثل في عدم معرفتهم بادارة الصراع السياسي الموروث الذي يقوم في احلك الاوقات على الشخصنة وتقديم الطموحات الشخصية على الاهلية والقدرة العلمية. لا يجب ترك صناعة القرار السياسي وادارة الدول في اثناء التطور الجاري في السياسة كعلم  للناشطين والشخصانيين الذين يزعجهم تولي اصحاب المعارف والقدرات من السودانيين الآخرين بزمام السياسة. ان التهميش الخشن والناعم معا لاصحاب الأفكار الجديدة في تاريخ  احزاب الحركة السياسية لا يزال يلقى باثاره القاتلة في تجميد حركة التجديد السياسي والديمقراطي بتغييب دور السياسات في السياسة السودانية.

لعل أبرز ما تحتاجه المرحلة، وان لم يكن الانشاء النقدي للسياسة القديمة فهو “تطعيم” الفكر السياسي بمضامين علمية واضحة، تُسهم في وضع خارطة طريق لمواجهة تداعيات الحرب ووقف التدهور الشامل الذي يهدد كل مجالات الحياة من خلال التفكير الجاد والمستنير لكسر دائرة الصراع السياسي وتجميد القضية العاجلة والأكثر الحاحا لايجاد الحل اليوم قبل الغد والمتمثلة في اقامة الوحدة السياسية الوطنية المناهضة لهيمنة وسيطرة التيارات الدينية وعلى راسها تيار “الاخوان المسلمين”.

إن المجتمعات السودانية بحاجة إلى صيانة ما تم تدميره من وعى قبل، واثناء، وبعد هذه الحرب. ان العمل لبناء السياسات يصبح في هذه المرحلة احد أهم برامج التنظيمات السياسية والمنظمات المدنية في سبيل وضع خطط متكاملة تعمل على ايقاف الحرب والانخراط في مهامً البناء  الوطني البديل، وعلى وصفة دمج المهام وليس تقسيطها، باستنهاض المسؤلية السياسية التي يجب توجيهها لخدمة المجتمعات بدلا عن خدمة التنظيمات، والمنظمات، والأشخاص في المسعى القاتل لنيل السلطة والدولة كغنيمة دون قدرة على وضع برامج  وتأهيل مستحق، وعناية لازمة باسئلة المستقبل.

في هذا الجزء المتبقي سأحاول توصيف ما اعنية بأهم فكرة ربما تضمنها الجزء السابق وهي كيف نغير الثقافة السياسية؟

من أجل إحداث تغيير جذري في الثقافة السياسية السودانية لما بعد الحرب، ينبغي أن يكون لدينا نهج متكامل يقوم على معالجة جذور القضايا السياسية في البلاد، بالإضافة إلى تطوير الفكر السياسي والمؤسسي، مع ضرورة العمل على بناء بيئة سياسية قادرة على استيعاب وتبني ممارسات ديمقراطية تساهم في تحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. يقتضي ذلك تقوية المؤسسات، تعزيز الشفافية، وزيادة مستوى الوعي السياسي لدى المواطنين، حتى يتسنى لهم المشاركة الفعالة في الحياة السياسية، وتغيير الواقع السياسي من صراع وتنازع إلى تعاون وبناء مستدام.

1- ترسيخ الديمقراطية كمبدأ دستوري وممارسة يومية

– دستور ملزم ودائم: يجب أن يتم تضمين الديمقراطية في الدستور السوداني بشكل واضح، بحيث تكون ممارستها مكفولة في كافة جوانب الحياة السياسية. هذا يشمل التأكيد على حقوق الإنسان، حرية التعبير، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة.

– التمكين السياسي للمواطنين: على جميع الأحزاب السياسية أن تقوم بدور حيوي في نشر وتعزيز ثقافة الديمقراطية داخل المجتمع. هذا لا يعني فقط مشاركة المواطنين في الانتخابات، بل يعني أيضًا تمكينهم من النقد البناء والتحليل السياسي، وتبني سياسات تشجع على التعددية الفكرية، والمشاركة السياسية الواسعة.

– التركيز على حقوق الأقليات: على الأحزاب السياسية أن تركز على حقوق جميع الفئات المجتمعية، بما في ذلك الأقليات الدينية والعرقية، وتوفير منصات لهم للمشاركة في صنع القرار السياسي.

2- إنشاء مراكز بحثية متخصصة لصناعة القرار السياسي.

– تحليل علمي للواقع السياسي: يجب أن تكون هناك مراكز بحثية أكاديمية مستقلة تعمل على دراسة وتحليل القضايا السياسية والاجتماعية في السودان، بهدف بناء سياسات مبتكرة. هذه المراكز ينبغي أن تتيح للأحزاب السياسية الاستفادة من التحليل العلمي لصياغة حلول قابلة للتنفيذ.

-التقارير والدراسات البحثية: ينبغي أن تساهم مراكز البحث في إعداد تقارير ودراسات موضوعية تقدم حلولًا مستدامة للقضايا السياسية والاجتماعية المعقدة، بناءً على بيانات علمية ومعطيات حقيقية.

– التعاون بين الأكاديميا والسياسة: يجب تشجيع التعاون بين المؤسسات الأكاديمية والأحزاب السياسية لتطوير رؤى وسياسات تستند إلى البحث العلمي، مما يقلل من الخطابات الشعبوية والعاطفية التي تضر بمصلحة البلد.

3- تعزيز العلاقة بين الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.

– تطوير التعاون بين الأحزاب والمجتمع المدني: يجب أن تسعى الأحزاب السياسية إلى تبني سياسات تشجع على الشراكة مع المجتمع المدني، مما يسمح للمجتمع المدني بدور محوري في تطوير ثقافة الديمقراطية والمشاركة الفعالة.

-التوسع في الحوار المجتمعي: يمكن للمجتمع المدني أن يساهم في تسهيل حوارات مجتمعية واسعة، تجمع بين الأحزاب، النقابات، ومنظمات حقوق الإنسان، والقطاع الخاص. يساهم هذا في خلق بيئة سياسية صحية تضمن تنوعًا في الآراء وحلولًا مستدامة.

– إشراك الشباب والنساء: لابد من ضمان تمثيل النساء والشباب في مختلف الهيئات السياسية، خاصة في لجان السياسات وصنع القرار. يعمل هذا على تمكين فئات المجتمع الأكثر تهميشًا، ويعزز التنوع السياسي.

4- إصلاح المنظومة الإعلامية لضمان الشفافية والمساءلة.

– الإعلام المستقل والشفاف: من أجل أن يكون الإعلام أداة قوية لتحقيق الديمقراطية، يجب أن يكون الإعلام مستقلًا عن أي جهة حكومية أو حزبية، ويعمل على نقل الحقائق بموضوعية، بعيدًا عن التضليل أو التحيز.

– الرقابة والمساءلة: من المهم أن يقوم الإعلام بدور الرقابة على السلطة التنفيذية، ومؤسسات الحكومة، ويكون أداة للضغط على السلطات لتطبيق القوانين وحماية حقوق المواطنين.

-إعلام تفاعلي ومسؤول: ينبغي أن يساهم الإعلام في بناء حوار اجتماعي مفتوح، ويسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم، والمشاركة في اتخاذ القرارات عبر منصات إعلامية تتيح ذلك.

5- إعادة تعريف الوظيفة العامة كمجال للخدمة وليس الامتياز.

– الوظيفة العامة كخدمة عامة: أن يتم تشجيع ثقافة الخدمة العامة التي تعني أن الموظف الحكومي هو في خدمة المواطنين، وليس للحصول على مكاسب أو امتيازات خاصة. وهذا يستدعي اعتماد مبدأ الشفافية والمساءلة في كافة قطاعات الحكومة.

– فصل النفوذ السياسي عن التوظيف: ضمان تعيين الكفاءات في الوظائف العامة بناءً على الجدارة والكفاءة، وليس الولاء الحزبي أو الشخصي، من شأنه أن يحسن جودة الخدمة العامة ويحد من الفساد.

– إصلاح الهياكل الإدارية: يجب على الحكومة إجراء إصلاحات في الهياكل الإدارية بحيث تكون الوظائف العامة مفتوحة للمنافسة ويُمنح فيها الأشخاص الأنسب وفقًا لخبراتهم وكفاءاتهم.

6- إصلاح المناهج التعليمية لتعزيز الثقافة السياسية النقدية.

– التركيز على التفكير النقدي: يجب أن تتبنى المناهج الدراسية في جميع مراحل التعليم برامج تعليمية تركز على تنمية مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب. هذا سيمكنهم من تحليل القضايا السياسية والاجتماعية بموضوعية، مما يعزز المشاركة السياسية الواعية.

– إدخال مفاهيم الديمقراطية والمواطنة: ينبغي إدخال مفاهيم الديمقراطية، حقوق الإنسان، والمواطنة الفاعلة في المناهج التعليمية منذ المراحل الأولى، حتى تنشأ أجيال قادرة على ممارسة حقوقها السياسية بمسؤولية.

– التعليم المدني: يمكن إضافة مقررات تركز على ثقافة الحوار السياسي، والتفاوض، والبحث العلمي في المجال السياسي، بهدف إعداد قادة سياسيين قادرين على بناء دولة ديمقراطية.

7- إعادة تأهيل القيادات السياسية عبر برامج تدريبية متخصصة.

– تأهيل القيادات السياسية: من أجل تحقيق التغيير المستدام، يجب توفير برامج تدريبية متخصصة تهدف إلى تطوير مهارات القيادة، الإدارة الاستراتيجية، وفن التعامل مع التحديات السياسية والاجتماعية.

– التدريب على الديمقراطية:  يجب أن يتعلم السياسيون كيفية تطبيق المبادئ الديمقراطية عمليًا، وكيفية إدارة الحوار السياسي بشكل بناء دون اللجوء إلى العنف أو ضضالتأزيم.

– دعم الشباب و النساء في القيادة: التركيز على دعم وتأهيل الشباب والنساء لتولي المناصب القيادية في الأحزاب السياسية، والهيئات الحكومية، والمجتمع المدني، مما يساعد على تجديد دماء السياسة السودانية.

خاتمة:

إن تغيير الثقافة السياسية في السودان ليس مهمة سهلة، فهو يتطلب التزامًا جماعيًا طويل المدى من جميع الفئات السياسية والمجتمعية. لكننا إذا تمكنا من اتباع هذه الخطوات، يمكننا أن نحقق نقلة نوعية في الثقافة السياسية السودانية، ونبني بيئة ديمقراطية تتيح لجميع المواطنين، خاصة الأجيال الجديدة، أن يكون لهم دور فعال في بناء مستقبل بلدهم.

هذا التغيير يحتاج إلى عمل مستمر، إرادة سياسية، ورغبة حقيقية في بناء دولة ديمقراطية عادلة، تعمل على مصلحة الجميع.

الوسومالأحزاب الإعلام الإعلام المستقل الثقافة السياسية الحرب السودان السياسيين الشباب النساء

مقالات مشابهة

  • خطة ترمب لإيقاف حرب السودان ومستقبل الإسلاميين
  • إنعاش القرى اقتصاديا
  • إسرائيل تكشف طبيعة الأهداف التي تهاجمها في لبنان
  • ???? تنظيم العطاوة كان الأكثر تنظيماً بعد سقوط البشير
  • محمدو: ظهور حميدتي في هذا التوقيت ليس سوى غطاء سياسي لتبرير الانتهاكات المتصاعدة التي ترتكبها الميلشيا
  • أمريكا هي دولة عدوان ثابت ومستمر على السودان
  • تعرض طائرة شحن للقصف بعيد هبوطها في مطار نيالا غرب السودان
  • السودان بين خرائب الحرب والسياسة، وأمل البناء
  • نزوح أكثر من 165 ألف شخص بسبب الحرب في جنوب السودان
  • الأمم المتحدة: أربعة ملايين شخص فروا من السودان منذ بدء الحرب