في ظل حصار المستشفيات.. استحداث نقاط طبّية لرعاية المصابين في غزة
تاريخ النشر: 17th, November 2023 GMT
17/11/2023مقاطع حول هذه القصة"شهداء وجرحى تحت الأنقاض".. إسرائيل تدمر مربعا سكنيا بمخيم النصيراتplay-arrowمدة الفيديو 01 minutes 29 seconds 01:29"ألغت إسرائيل تصاريحهم وطردتهم".. عمال من غزة يبحثون عن ملجأ في رام الله بعد الحرب
play-arrowمدة الفيديو 02 minutes 37 seconds 02:37أوضاع مأساوية في مجمع كمال عدوان الطبي شمالي قطاع غزة
play-arrowمدة الفيديو 02 minutes 11 seconds 02:11مرح.
تابع الجزيرة نت على:
facebook-f-darktwitteryoutube-whiteinstagram-whiterss-whiteالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: arrowمدة الفیدیو
إقرأ أيضاً:
تقرير: وحش اليتم .. ينهش طفولة غزة تحت الأنقاض
غزة - «عُمان» - بهاء طباسي: عند تخوم خيمة مهترئة قرب منطقة "المواصي" جنوب قطاع غزة، تجلس الطفلة سماح عيسى، ذات الثمانية أعوام، ويدها تشد أطراف غطاء صوفي خشن أكبر من جسدها النحيل. مات والدها في غارة استهدفت سيارته أثناء خروجه لشراء الخبز من مخبز الحي المدمر. ولحقت به أمها بعد أسبوع حين قصفت طائرة استطلاع المنزل الذي احتموا به. سماح نجت وحدها بأعجوبة، بعدما نقلها أحد الجيران إلى مستشفى ميداني.
فجر الفقد
سماح لا تذكر شكل والدتها إلا عبر صور باهتة على هاتف أحد المتطوعين، ولا صوت والدها سوى تسجيل صوتي كان أرسله لها قبل موته بساعات. في كل مساء، تطلب من العاملة النفسية أن تشغل لها التسجيل لتنام على وقع "بحبك يا بابا". لا تنام إلا باكية، ولا تستيقظ إلا على كابوس جديد.
بصوت خفيض، تروي سماح للزائرين كيف توقفت أيام السعادة عن المجيء، وكيف انكسرت المراجيح، وكيف لم تعد تفهم لماذا لم تحضر أمها ذلك الفستان الوردي الذي وعدتها به. تقول: "كان نفسي ألبسه وأروح أشوف المراجيح، بس خلص.. يمكن الفرحة ماتت كمان".
تكفل بها عمها، رجل أربعيني فقد أيضًا بيته وأطفاله الثلاثة، ويعيش الآن مع عشرة أفراد في خيمة واحدة. يقول الرجل وهو ينظر إلى سماح: "هذه الطفلة ما عادت تبتسم، حتى الدمية اللي كانت تلعب فيها ما عادت تمسكها، وكأنها نسيت كيف تكون بنت صغيرة".
أزمة متفاقمة
اليُتم في غزة ليس مجرد فقد، بل كارثة مستمرة ومركبة تُراكم على الطفل الخسارة تلو الأخرى: خسارة الأمان، وخسارة الانتماء، وخسارة المستقبل. منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023، تساقطت العائلات برمتها تحت القصف، تاركة آلاف الأطفال في مواجهة قدر قاسٍ بلا معيل.
بات من المعتاد أن ترى طفلاً في عمر الزهور يسير بين الركام حاملاً صورة لوالده أو والدته أو شقيقه. بعضهم لا يزال يرفض التصديق أن والديه قد رحلا، وبعضهم بدأ يردد كلامًا عن "الالتحاق بهم" وكأن الموت لم يعد مفزعًا بل عودة.
في المجتمع الغزّي، حيث كانت الأسرة الممتدة تشكل سندًا اجتماعيًا، تلاشت هذه الحاضنة تدريجيًا بفعل النزوح والتدمير الشامل للبيوت. عشرات الأطفال يُسلَّمون إلى مراكز الأيتام أو يتركون مع أقارب بالكاد يجدون قوت يومهم.
تفاقمت الأزمة مع استمرار الحرب والنزوح والمجاعة، وتدمير منظومات الرعاية. معظم هؤلاء الأطفال يعانون من اضطرابات نفسية حادة: قلق مزمن، تبول لا إرادي، عزلة اجتماعية، وحتى ميول انتحارية في بعض الحالات، بحسب مختصين نفسيين.
فريدة تتكلم
شادية أبو نعنع، سيدة نازحة من حي الشجاعية في مدينة غزة، تروي حكايتها وهي تمسك يد طفلتها فريدة ذات الأحد عشر عامًا، وتشد عليها كمن يتشبث بحبل نجاة.
تقول: "عندي طفلة صغيرة انولدت في الحرب مشفتش أبوها. هادي أنا نزحت فيها من مكان لمكان كان عمرها أيام. أنا أجري وولادي يجروا معي. يعني 8 أنفار حمل مش طبيعي".
فريدة النحال، ذات العيون الحزينة، تقاطع أمها قائلة: "نفس أبوي يرجع يجيب لنا ألعاب، ويودينا على المدرسة، كان كل عيد يودينا على المراجيح". تلمع عيناها بالدموع بينما تتذكر قميص العيد الوردي الذي أصر والدها على أن تشتريه، رغم وضعهم المالي الصعب.
تقول الأم إن فريدة باتت ترفض الطعام أيامًا، وتغرق في صمت طويل لا تخرج منه إلا حين نناديها بصوت عالٍ: "كل شي تغير، حتى الطفولة ما بقت طفولة، فريدة صارت تحكي عن الموت أكثر من اللعب".
وتضيف الأم: "كنت بفكر كيف أشتري لها دفتر رسم، اليوم بفكر كيف أضمن إلها وجبة عشاء". وتختم بقولها: "الطفولة في غزة ماتت، واللي ضل منها بشبه شبح بيمشي وبيحكي زي الكبار".
زيد يتألم
زيد مسلم، طفل في العاشرة من عمره، فقد والدته وأخته الكبرى في قصف طال منزلهم في حي الرمال. نجا مع والده الذي أصيب بشلل نصفي ويعيش الآن على كرسي متحرك في خيمة وسط خان يونس.
يقول زيد: "نفسي بس أمي ترجع لي ونرجع أيام زمان ونرجع على دورنا أحسن لنا. اليوم دورنا مهدومة. ويش بدنا نسوي يعني؟".
زيد، الذي كان يعشق لعب الكرة في باحة مدرسته، لم يلمس كرة منذ أكثر من عام. الآن يمضي يومه في جر كرسي والده على الأرض الوعرة للبحث عن مساعدات غذائية. يقول أحد الجيران: "هذا الطفل شاخ قبل أوانه، ما عدت أسمع منه ضحكة ولا حتى صوت".
تدهورت حالة زيد النفسية، وأصبح يعاني من نوبات هلع ليلية. تقول إحدى المتطوعات: "زيد بحاجة إلى علاج نفسي طويل الأمد، لكنه لا يجد حتى حبة أسبرين".
وتضيف: "في أي مكان آخر في العالم، كان زيد سيُحتضن، أما هنا فهو يتساقط كما يتساقط الركام".
زيد، حين سُئل عمّا يريد أن يصبح عندما يكبر، أجاب: "بدي أصير دكتور حتى أرجّع أمي". جملة تهز القلب وتختصر المأساة.
أرقام موجعة
حتى يونيو 2025، تشير تقديرات منظمات حقوقية وإنسانية إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة قد يتمت أكثر من 39,800 طفل، فقدوا أحد والديهم أو كليهما. رقم مذهل يفوق ما سجلته معظم مناطق النزاع في العالم خلال العقود الأخيرة.
وتُظهر الإحصاءات أن أكثر من 9,400 طفل باتوا دون أب أو أم على الإطلاق، وهم الآن إما في مراكز إيواء محدودة الموارد أو في رعاية أقارب يعانون أصلاً من ويلات الحرب والمجاعة.
يتزايد العدد بشكل يومي مع استمرار الغارات، حيث تسقط العائلات دفعة واحدة. في كثير من الأحيان، يُنتشل الطفل من بين الأنقاض ولا يجد من يناديه باسمه، ولا أحد يطالب به.
الواقع الأسوأ أن الغالبية العظمى من هؤلاء الأيتام لا تتلقى أي نوع من الرعاية النفسية أو الاجتماعية. تقول منظمة إنقاذ الطفولة: "نواجه جيلًا كاملاً من الأطفال المحطمين نفسيًا، الذين خسروا كل شيء: الأسرة، المنزل، المدرسة، وحتى الإحساس بالأمان".
ويؤكد عاملون ميدانيون أن انعدام الغذاء يزيد الطين بلة، حيث تسجل حالات فقدان وزن شديد بين الأطفال الأيتام، ويواجهون خطر الموت جوعًا إن لم تصل المساعدات فورًا.
يُتم معقد
يقول أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، إن هذه الحرب خلفت عشرات الآلاف من الأيتام الذين يعيشون واقعًا إنسانيًا معقدًا. ويوضح أن هؤلاء الأطفال يواجهون مجاعة وسوء تغذية حاد، إلى جانب التشرد والنزوح المتكرر.
ويضيف الشوا: "نحن أمام جيل كامل يتشكل في خضم الألم. أطفال ولدوا أو ترعرعوا في قلب النار، لا يعرفون شيئًا عن الاستقرار، ولا عن الضحكة الآمنة، ولا عن الأم التي تهدهد ولا الأب الذي يروي الحكايات".
وأكد أن الأوضاع النفسية لهؤلاء الأطفال تنذر بكارثة مستقبلية، إذ تظهر مؤشرات عالية للاضطرابات السلوكية والاكتئاب الحاد بينهم، بينما تغيب منظومة الرعاية الكاملة.
وأوضح الشوا أن مراكز الأيتام القليلة في غزة تعمل تحت القصف، ولا تملك إلا الفتات مما كان متاحًا قبل الحرب، ومع ذلك يتدفق إليها يوميًا عشرات الأطفال الذين فقدوا أسرهم بالكامل.
ويختتم بقوله: "من ينقذ هؤلاء؟ هل نتركهم فريسة للألم والجوع والضياع؟ المسؤولية لم تعد فقط فلسطينية، بل إنسانية وأخلاقية بالدرجة الأولى".
طوابير الجوع
من جهته، يؤكد نضال جرادة، المدير التنفيذي لمعهد الأمل للأيتام في غزة، أن الأيتام يواجهون المجاعة بشكل مباشر. يقول: "الطفل اليتيم بدل أن يكون في ظل حياة كريمة، يقف في طابور طويل فقط من أجل رغيف خبز أو زجاجة مياه، وقد يعود فارغ اليدين".
ويضيف جرادة: "لدينا أطفال ينامون دون تناول وجبة عشاء، وآخرون يستيقظون ولا يجدون شيئًا يفطرون عليه. الواقع لا يُطاق، والخطر يزداد كل يوم".
ويشير إلى أن المؤسسات الداعمة تكاد تنهار، فمع انقطاع التمويل والاستهداف المباشر، باتت قدراتها شبه معدومة، موضحًا أن المساعدات التي تصل لا تكفي حتى لعشرة بالمئة من المحتاجين.
واختتم بقوله: "في غزة، لم يعد اليتيم فقط من فقد والديه، بل كل طفل فقد طفولته، ومدرسته، وغذاءه، وحلمه، وحتى ملامحه البريئة".