العدوان على غزة وتهمة توحش الغرب.. هل الغرب وحده هو المسؤول؟
تاريخ النشر: 24th, November 2023 GMT
لا يمكن الجواب عن هذا السؤال لأنه ينطلق من مغالطة. فلا يمكن أن يوصف الغرب كله بالتوحش إلا إذا لم يكن في الجماعة التي تسمى غربا ضحايا للتوحش مثلنا.
ولا يمكن أن نوصف نحن الذين نعتبر أنفسنا ضحايا التوحش لو لم يكن في الجماعة التي ننتسب إليها نخن متوحشون مثلهم. فتكون النسبتان إليهم هم وإلينا نحن مضاعفة: حلف صنف التوحش في العالم وعدم حلف صنفي الضحايا فيه.
إذن من المسؤول عن صنفي التوحش ليس الغربي وحده بل صنفا الضحايا في الشرق والغرب أي صنفا الضحايا: وهم ليسوا مسؤولين عنه إلا بوصفه حصيلة تخل عن فرض عين هو شرط الإيمان أولا وشرط الانتساب إلى الخيرية ثانيا (آل عمران 104 ـ 110):فشرط الإيمان مضاعف هو الأمر بالمعروف ويكون بالعقل الراجح، وشرط العمل الصالح هو النهي عن المنكر ويكون بالإرادة الحرة.
وإذن فالداء الذي يعاني منه المتوحش هو عين الداء الذي يعاني منه ضحية التوحش: الفرق الوحيد هو أن الأول يأمر بالمنكر والثاني لم ينه عنه. والعلة أن الأول ينسى أنه يمكن أن ينفعل وأن الثاني ينسى أنه يمكن أن يفعل.
فإذا ذكر الأول إمكان الانفعال بالظلم تخلص من التخوش وصار إنسانا لا يفعل بغيره إلا ما يخشى أن يفعل به من غيره.
وإذا ذكر الثاني إمكان الفعل تخلص من الخضوع وصار إنسانا لا ينفعل بل يتفاعل بصورة تحول دون التوحش: وتلك هي معاني الإنسانية.
فلو لم ينس المسلمون الأنفال 60 وعلة إرادة الله أن يهلك قرية بكاملها لأن مترفيها وهم قلة منها توحشت ففسقت فيها فحق عليها القول فدمرها الله تدميرا؟
ولنبدأ بالجماعة: ماذا تقول الآية التاسعة من الحجرات؟
"وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ".
فالمتحوش هو من تغلب الباغي على مقاومته بالقوة العسكرية: فيكون متوحشا وقد نسي أنه قد يهزم ببغي أقوى منه فيصبح ديدنه المزيد من التوحش. هذا في نفس الجماعة ثم بين الجماعات.
وذلك هو ما وصفت عندما بينت مسؤولية المتوحش ومسؤولية ضحيته فأرجعتها إلى نسيان ما يمكن أن يحصل للأول لما يهزم وللثاني لما ينتصر: وكيف يؤدي ذلك إلى معنى الأنفال 60.
فكيف ينصح القرآن الكريم تجنيب تدمير القرية ما دامت الآية 16 من الإسراء أي السورة التي تصف مآل المترفين الذين تقاومهم الأمة في هذه اللحظة المقاومة التي ستعيد للأمة دورها الكوني: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًاء".
فبماذا تكون الآية التاسعة من الحجرات ناصحة للأمة للتغلب على البغي سواء كان داخليا أي في نفس الجماعة أو جارحا لأن الإسلام لا يميز بين الأمرين لأنه يعتبر البشر كلهم إخوة (النساء1) ولأنه يعتبرهم سواسية (الحجرات 13).
نعود إلى الآية التاسعة: تقدم نصيحتين كلتاهما مضاعفة:الأولى التدخل بالحسنى لتوعية الباغي ونصرة المبغي عليه، والثانية المصالحة بينهما بعد هذه النصرة التي توقف البغي.
لذلك فسلوك المقاومة ليس الانتقام من الباغي لأن ذلك يعني أنها تسلك مثله. وذلك هو التوحش سواء كان فعلا في المنفعل أو رد فعل من المنفعل في الفاعل: وبذلك يتميز الفتح عن الغزو فعلا وانفعالا.
إذن: ينبغي ان يكون التمسك بهذه المبادئ منطق المقاومة: وذلك ما فعل محرر القدس صلاح الأيوبي تأسيا بما فعل الرسول يوم فتح مكة. لم ينتقم من البغاة بل أدبهم ثم عفا عنهم بأخلاق الإسلام.
سيقول لي الكثير ما لك يارجل: أنت تبيع فروة النمر قبل صيده. انتظر حتى تنتصر حماس ثم انصحهم. من يقول ذلك لا يفهم معنى الانتصار والهزيمة.
المقاومة انتصرت على سلاحي الباغي: القوة العسكرية والقوة الرمزية. فالعدو لم يكن باغيا بقوته العسكرية فحسب بل بقوته الرمزية. وهو قد فقد الأولى يوم 7 ـ 10 وفقد الثانية خلال الأربعين يوما التي تلتها.
ها نحن نرى شروع الإنسانية قاطبة في الانتقال من السلبية والخضوع لأكاذيب المافيات المسيطرة على العالم لتدافع عن مبدأي القرآن اللذين يؤسس عليهما مشروع وحدة الإنسانية: الأول هو مضمون الآية الأولى من النساء، والثاني هو مضمون الآية 13 من الحجراتلم يعد أحد يصدق أن ضحية الهولوكوست يمكن أن يجعل ذلك علة لهلوكوست بمساعدة من هلكستوه. وهذه شهادة الشعوب جل الشعوب الغربية، كلهم فهموا أنهم هم أيضا صاروا ضحايا للقائلين بسردية الهولوكوست ومعاداة السامية التي يقبلوها ليجعلوه إسلاموفوبيا بكذبتي الإرهاب وتبرئة توشح الباغي.
ذلك هو النصر الأكبر الذي كان يعوق البشرية من فهم ثورة الإسلام: ما حصل في طوفان الأقصى نصران وليس نصرا واحدا: نصر القضية الفلسطينية: ومن ثم فاسترداد حقوقهم أصبح قاب قوسين أو ادنى: نصر الأمة كلها: ومن ثم فالخطاب القرآني صار مسموعا لدى شعوب المعمورة كلها.
فالكذبتان تبخرتا وأصبح الهدي القرآني مطلب كل المبغي عليهم في العالم لأن المافيات التي سيدها دين العجل بمعدنه وبخواره خسرت المعركتين.
ذلك هو النصر المبين: عند من يفهم الثورة الكونية التي هي بصدد الحصول بفضل تسونامي أبطال المقاومة رغم تخاذل الحكام والنخب العربية بل بفضل تخاذلهم، فهو قد بين لشعوبهم أنهم يمثلون بغي المافيات الأصغر المسلط على شعوبهم بوصفهم أدوات البغي الأكبر المسلط على البشرية كلها إذ حتى شعوب الغرب صارت مغلوبة على أمرها مثلنا، فالمظاهرات الشعبية في الغرب ليست لسند فلسطين فحسب بل هي كذلك للتعبير عن وعي بما كان مكبوتا عندهم وانفجر لما رأوا مفعوله يجري أمام أعينهم فأيقظ فيهم الخير الكامن في كل وعي كل إنسان حر.
وما حصل في الغرب سيحصل مثله في شعوبنا التي فسدت فيها معاني الإنسانية حكاما ونخبا وقد يبدأ في شكل مركه أخاك ليس بطلا كما يحدث في البداية.
ولهذه العلة ذكرت الآية 9 من الحجرات: فلا بد من التعامل معهم بمنطق اذهبوا فأنتم الطلقاء أي محاولة إصلاح الباغي بدل الانتقام منه ثم بالتدريج إنهم أدوات تستعملهم وتحمي بغيهم على شعوبهم.
ولولا ذلك لما اعتبرت الإسلام مستقبل الإنسانية: فعندي يقين بأن الكثير من شباب الغرب ومثقفيه الصادقين سيبدأون في قراءة القرآن بعين أخرى وبذلك يتحقق ما وصفته الآية 48 من المائدة بالتسابق في الخيرات علة لواقع التعدد الديني شرطا في الإيمان الحر بعد المقارنة الحرة.
فيحصل ما يسميه القرآن تبين الرشد من الغي المؤدي إلى استحالة الإكراه في الدين وهو مضاعف: يبدأ بالكفر بالطاغوت وينتهي إلى الإيمان بالله الحق وذلك هو الدين الواحد عند الله أي الإسلام (البقرة 256)، لذلك فالتضحية التي يقدمها الفلسطينيون عامة وغزة خاصة ليست مقابل تحرير فلسطين التي اعتبرها قد حصلت بل هي لأنقاذ الإنسانية من توحش المافيتين التي تحكم المسلمين والتي تحكم العالم: فكل شعوب العالم ستفهم حقيقة الإسلام دين السلم العالمية:
فتلك هي الرسالة الخاتمة: بدأت بشعار تحرير الإنسانية من عبادة العباد بعبادة رب العباد شعار الفتح الذي أطاح بالمافيتين الفارسية والبيزنطية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب المتحالفين على استعباد البشرية.وتستأنف بشعار توحيد الإنسانية التي تخلت شعوبها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفا من مافيات كونية وإقليمية أوهى من بيوت العنكبوت عندما يفهم البشر حقيقة القيم القرآنية.. وها نحن نرى شروع الإنسانية قاطبة في الانتقال من السلبية والخضوع لأكاذيب المافيات المسيطرة على العالم لتدافع عن مبدأي القرآن اللذين يؤسس عليهما مشروع وحدة الإنسانية: الأول هو مضمون الآية الأولى من النساء، والثاني هو مضمون الآية 13 من الحجرات، ذلك هو الانتصار الحقيقي والأتم الذي أنسبه إلى طوفان الأقصى وأبطال المقاومة: وهو تسونامي كوني حققته أقلية آمنت صادقة بقيم القرآن وشروط العمل بمقتضاها فشابه سلوكهم الجهادي غاية والاجتهادي أداة سلوك من حرروا الإنسانية من عبادة العباد بعبادة رب العباد: لم يكن شعار الفتح خدعة لأنه في آن "يترجم إلى لكم ما لنا وعليكم ما عليننا"..
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الفلسطينية فلسطين مواقف رأي حرب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة یمکن أن ذلک هو لم یکن
إقرأ أيضاً:
النظرة الاستعمارية.. من جوهر السياسة إلى توماس براك؟
خالد بن سالم الغساني
بعد انتهائي من قراءة مقال الدبلوماسي السوري السابق أحمد علي الحريري بعنوان «مفهوم الدولة بين ابن خلدون وتوم براك»، وجدتني مأخوذًا بذلك التناول الذي جمع بين الطرافة الجاذبة في المُقدمة والعمق في التحليل.
لقد كان دافعًا لي لكتابة هذا النص، لا استكمالًا لما طرحه، بل محاولةً لقراءة أوسع في المعنى الكامن خلف تصريحات المبعوث الأمريكي، وفي النظرة التي تختبئ خلف تلك اللغة الاستعلائية، والتي تكشف عن جوهرٍ استعماري أعمق في مفهوم الغرب للآخرين، ولا سيما نحن الذين نعيش في هذا الشرق.
في زيارته إلى المنطقة مؤخرًا، وأمام وسائل الإعلام والصحافة، وفي قصر بعبدا بلبنان، وصف المبعوث الأمريكي توماس براك، الصحفيين اللبنانيين بأنهم "فوضويون وحيوانيون". هذا الوصف ينسجم مع ما كان قد صرح به سابقًا عن أنَّ منطقة الشرق الأوسط لا تضم دولًا؛ بل قرى وقبائل وعشائر. الأمر المؤكد أنها ليست زلة لسان أو نوبة غضب؛ بل إن ما قاله براك، يعكس بوضوح طريقة التفكير السائدة في دوائر وأروقة القرار الغربي، ولا سيما الأمريكي والصهيوني، تجاه شعوب هذه المنطقة. الكلمات التي تبدو في ظاهرها استعلائية ومُهينة، هي ذاتها تلك النظرة وذلك الأسلوب الاستعماري، اللذان يمارس من خلالهما الغرب، ويُدير سياساته تجاه منطقتنا وشعوبها، إنها تُعبّر في عمقها عن رؤية سياسية وفكرية تعتبرنا جميعًا شعوبًا وجغرافيا، فضاءً غير متحضّر، يحتاج دائمًا إلى وصاية، وإلى من يهذّبه ويرشده، ويوجهه، وقد وضعوا أنفسهم في تلك المكانة المرشدة والموجهة والمديرة، لأننا وفقًا لهم، عاجزون عن حكم أنفسنا أو بناء دولنا المستقلة.
هذا الخطاب ليس جديدًا على الذهنية الغربية، إنه امتداد مباشر للفكر الاستعماري الذي ساد أوروبا منذ قرون، حين كانت القوى الاستعمارية الكبرى تبرر احتلالها للشعوب بشعارات من قبيل نشر الحضارة وتمدين البرابرة وأخيرًا نشر الديمقراطية!! واليوم، وإن تبدّلت اللغة وتغيّرت الأدوات، إلا أنَّ الجوهر لم يتبدل؛ فما زالت منطقتنا وشعوبها في نظرهم ميدانًا رحبًا للفوضى والجهل والانقسام، وما زالوا يرون أنفسهم أصحاب رسالة إنقاذية، لحماية النظام العالمي، من ما يُسمى بالاضطراب والغوغاء الشرقي.
ومن هنا فإنَّ الأمر لا يبدو مستغربًا أن يتحدث دبلوماسي أمريكي، لم يستعر هذه العجرفة والوقاحة التي هي امتداد لجذور أجداده، بمثل هذا التبجح، فهو يعبّر عن إحساس متجذر بالغطرسة التي تشعره بالتفوق والهيمنة.
غير أنَّ الأخطر من هذا القول وأمثاله، هو ما يترتب عليه من فعل؛ فالولايات المتحدة ومعها القوى الغربية لم تنظر يومًا إلينا بوصفنا شركاء نِدًّا لها، بل بوصفنا ملعبًا كبيرًا للنفوذ والمصالح، فعندما يرى صانع القرار الأمريكي أن المنطقة مجرد تجمعات عشائرية لا ترقى إلى مستوى الدولة، يصبح من الطبيعي أن يتعامل معها على هذا الأساس، فهو يقيم تحالفاته على أسس طائفية وقبلية، ويغذّي الانقسامات الداخلية، ويفرض وصايته السياسية والاقتصادية والعسكرية، من منطلق أنه "الوصي على هذه التجمعات والقرى المتناحرة".
هذا هو تمامًا ما شهدته وتشهده العديد من الدول العربية بعد ما سُمّي بـ الربيع العربي، وفوضوية كونداليزا رايس الخلاّقة؛ حيث تم تفكيك المؤسسات الوطنية، والتلاعب بالبُنى الاجتماعية وإنشاء الثورات بعد تجميع كل الخارجين عن القانون والمجرمين والمطلوبين للعدالة، لقيامهم بما يخدم استمرار الفوضى وضمان خضوع المنطقة لإرادة الخارج.
وعلى صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، فإن هذه النظرة الاستعلائية تمثل الركيزة الأساسية للسياسة الأمريكية في حماية دويلة الكيان المحتل. فعندما يُختزل الشرق الأوسط في مجموعة قبائل، يسهل تبرير دعم دولة الاحتلال باعتبارها الجزيرة المتحضرة وسط بحر من البدائية والتخلف. هذا المنطق يُستخدم لتبرير كل الجرائم الإسرائيلية تحت شعارات براقة مثل الدفاع عن الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، فيما يُصوَّر الفلسطينيون والعرب عمومًا على أنهم غير مؤهلين لبناء دولة، ولا يفهمون سوى لغة القوة.
ثم إنَّ هذه النظرة لا تقتصر على الخطاب، بل تتجسد في الممارسة السياسية اليومية: في الدعم العسكري غير المحدود لإسرائيل، وفي التغطية الدبلوماسية على جرائمها في غزة والضفة، وفي تعطيل أي تحرك أممي لمحاسبتها. إنها سياسة قائمة على معادلة راسخة، تتمثل في تفوق "المدني الغربي" مقابل "تخلّف الشرقي"، وعلى أساس هذه المعادلة تُصاغ القرارات وتُبنى المواقف.
لقد أثبتت التجارب أن الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، لا يريد لهذه المنطقة أن تنهض أو تستقر، فالفوضى تخدم مصالحه، والانقسامات تحمي وجود إسرائيل، والضعف السياسي والاقتصادي يفتح الأبواب أمام هيمنته. ومن هنا يمكن فهم تصريحات توماس براك؛ باعتبارها جزء من سياسة إعلامية ودبلوماسية تهدف إلى تكريس صورة العربي ككائن فوضوي لا يعرف الانضباط ولا يستحق السيادة، وبالتالي فهو بحاجة دائمة إلى الوصاية الغربية.
المفارقة أن هذا الخطاب يجد صدى لدى بعض النخب المحلية التي تتبنى المفاهيم الغربية دون وعي بجذورها، فتُعيد إنتاجها داخليًا في شكل جلد للذات وترديد لاتهامات التخلف، متناسية أن جانبًا كبيرًا من هذا الواقع هو نتاج مباشر لتدخلات الغرب نفسه. فالاستعمار القديم رسم حدود الدول بطريقة تُبقي على النزاعات، والسياسة الأمريكية الحديثة دعمت أنظمة استبدادية مقابل ضمان المصالح، ثم عادت لتدين الشعوب حين ثارت على تلك الأنظمة.
إن ما قاله توماس براك ليس إهانة متكررة وكفى- وما أكثر إهاناتنا- بل تلخيص لعقيدة سياسية ترى في منطقتنا حديقة خلفية للمصالح الغربية، وفي شعوبنا أدوات يمكن تحريكها وفق الحاجة. والوعي بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى لمواجهتها، لأنَّ التصدي للهيمنة يبدأ من إدراك آلياتها الفكرية واللغوية. فالمعركة ليست بالسلاح فقط، بل بالكلمة والمعنى؛ إذ إن من ينجح في تصويرك كفوضوي يُبرر لنفسه كل أشكال السيطرة عليك.
إن استعادة الكرامة السياسية تبدأ من إعادة تعريف الذات، من إدراك أن شعوب المنطقة ليست عشائر مُتناحرة، بل أمم تملك تاريخًا عريقًا وثقافة عميقة وذاكرة نضالية لا تنطفئ. أما أولئك الذين يرون فينا قرى بلا دول، فليتذكروا أن تلك القرى أنجبت حضارات غيّرت وجه التاريخ، وأن تلك العشائر قاومت الغزاة عبر القرون.
الغرب اليوم يملك القوة، لكنه لا يملك الحقيقة، والحقيقة أن الشعوب التي تُهان وتُحتقر، تحمل في داخلها بذور ثوراتها المقبلة، تمامًا كما حملت هذه المنطقة عبر تاريخها الطويل وجعها وإصرارها على الحياة. بقي أن نُذّكر بأن على النخب التي لم تنشغل خلال مرحلتنا الكسيحة هذه، أكثر من انشغالها بجلد الذات، أن تستيقظ وأن تقوم بواجباتها الوطنية الحقة، بدلًا من الندب والضرب على الأكف.