يوميات.. في انتظار وقف إطلاق النار
تاريخ النشر: 29th, November 2023 GMT
ترجمة : أحمد شافعي -
السادسة والثلث من مساء الجمعة السابع والعشرين من أكتوبر الماضي. أبنائي يلعبون في البيت الذي لجأنا إليه في مخيم اللاجئين بجباليا. تهمس لي زوجتي قائلة: «أنا جعت، تعال نأكل شيئا خفيفا». نتسلل إلى الغرفة المجاورة ونجلس على الدرج، حيث لا يحتمل كثيرًا أن يرانا أبناؤنا. أوحشتنا تلك اللحظات الخاصة، إذ ننفق الوقت معًا مازحين.
بالخارج، يومض ضوء أحمر في سماء الليل، وميضَ البرق، غير أنه لا يعقبه مطر وإنما ركام يزلزل أسطح البيوت المحيطة بنا. تتوقف مرام عن الأكل. وحينما أقف لأنظر إلى الخارج، أتقهقر أمام ضغط الهواء.
أمشي إلى أبي إذ يرفع في قلق مذياعا في الهواء. «تقول الجزيرة إنهم فقدوا الاتصال مع مراسليهم في غزة». ويضيف «لا توجد إشارة».
أخرج هاتفي من جيبي. للمرة الأولى منذ التصعيد، قبل ثلاثة أسابيع، لا وجود للإنترنت، ولا خدمة في شريحتي هاتفي كلتيهما. تطلب مني أختي الكبيرة آية -ذات الأبناء الخمسة- أن أنبهها حين أرى القنابل تسقط؛ حتى تستطيع أن تسدَّ أذنيها قبل أن يصل إليهما الدويّ. تقول «تؤلمني أذناي».
أتذكر أن في جهاز آيفون الخاص بي خدمة طارئة لطلب النجدة يمكن استعمالها في حال انقطاع الإشارة. لكنه يقول لي حينما أرفعه «أنت في منطقة لا يتوافر فيها الدعم التجريبي للاتصال عبر القمر الصناعي». أجد خيارًا آخر يطلق عليه اكتشاف الحوادث - «في حال تعرضك لحادث سيارة، بوسع آيفون أن يتصل آليا بخدمة الطوارئ». يخطر لي أن آبل ينبغي أن تخترع خاصية اسمها اكتشاف القنابل، لولا أن الناس القادرين على مساعدتنا لا يعيشون في غزة.
يسقط مزيد من القنابل. يحاول أبناء إخوتي تحذير عمتهم آية قبل اهتزاز البيت. تبدو الليلة طويلة.
في الصباح التالي، أسأل أمي الجالسة على حشيَّتها التي نامت عليها، أين أبي. تنبئني أنه ذهب بالدراجة إلى بيت لاهيا في شمالي غزة ليحضر لنا بعض زيت الزيتون والسكر. قمت بالرحلة نفسها من قبل. بعد زيارتي في الثاني عشر من أكتوبر الماضي، لإحضار بعض الخبز، كتبت لهذه المجلة عن خوفي من وقوع سقف بيتنا خلال غارة جوية.
لا تحب أمي أن نزور البيت. في أحد أحلامها، رأت بيتنا حطاما، ورأت نفسها تجمع الركام. ولم يملك أبي ألا يرجع، فقد كان عليه أن يطعم طيوره وأرانبه.
أقول: «كنت أنوي أن أطلب منه إحضار شاحن ماكينة الحلاقة الكهربائية الخاصة بي». كانت البطارية قد نفدت وأنا أحلق لابني شعره. أحاول أن أبعث رسالة نصية إلى أبي، لكنني أتذكر أنه ما من إشارة أو إنترنت. أتناول شاي الصباح. تقرأ أمي القرآن الكريم. تصفف أختاي شعر أبنائهما. تملأ مرام زجاجات الماء في المطبخ. أحاول أن أبقي الجميع هادئين، لكي لا نوقظ من لا يزالون نياما.
في قرابة الثامنة والنصف صباحا، يدخل أخي الصغير حمزة الذي يقيم مع أهل زوجته في المنطقة. يبدو الهم في عينيه من وراء نظارته. يسأل «أين أبونا؟»
أقول له: «رجع للتو بالدراجة إلى بيتنا».
يقول لنا حمزة: «أنا أيضا ذهبت منذ ساعة». وينبئنا بيديه أن البيت قد زال. أرى في صورة التقطها حمزة جزءًا من الطابق الأول الذي كان أبواي يعيشان فيه. لا شيء يوحي بأن البيت كان مؤلفا من أربعة طوابق. أذهب إلى أمي وإخوتي، وبأخفت صوت يمكنني الوصول إليه، أنبئهم بدمار بيتنا. بطريقة ما تبقى أمي هادئة. تقول: «الحمد لله أن أحدا منا لم يصبه أذى». يقترح صهري أحمد أن نذهب بدراجاتنا بحثا عن أبي. بعد ثلاثمائة متر فقط، نراه، مطأطئ الرأس، يمضي بالدراجة. ينبئني أبي لاحقًا أن الحطام كسا كل شبر في الشارع المفضي إلى بيتنا. لم يطعم بطاته الخمس عشرة، ودجاجاته الثلاثين، وأرانبه الخمسة، وحماماته الست. يقول: «لعل بعضها حي وعالق تحت الأنقاض». لكنه وقد رأى البيت المقصوف وسمع أزيز الطائرات المسيَّرة المرعب، قفل راجعًا إلى المخيم. نرجع إلى «البيت»، ونجلس جميعنا إلى الأرض. ولا أدرك إلا بعد وقت: إنني لم أفقد فقط بيتي وغرفه، بل وثيابي الجديدة أيضا، وأحذيتي، وساعاتي. وكتبي هي الأخرى. أتذكر بأي بطء أقمت مكتبتي الشخصية، وكم كان أصدقائي يستغرقون من وقت كي يرسلوا الكتب إلى غزة بالبريد. حينما رجعت من الولايات المتحدة في فبراير 2021، حشوت حقيبة أسرتي بمائة وعشرين كتابا. كان لزاما عليَّ أن أتخلص من بعض أحذيتي وثيابي لأفسح مكانا. ولما رجعت في مايو 2023، حملت حقيبة إضافية فيها قرابة سبعين كتابا. على بعضها توقيعات أصدقائي كيثي بوليت، وستيفن جرينبلات، وريتشارد هوفمان، وآمييل ألكالاي، وجوناثان دي. تصور ضابط الجوازات أن جواز سفري منتهي الصلاحية؛ لأنه قرأه بالعكس، أي من اليسار إلى اليمين. وفي الرحلة من القاهرة التوى كتفي من حمل حقائبي الثقيلة. قبل أقل من شهرين، كنت في فيلادلفيا لحضور مهرجان أدبي، وكنت أخطط لزيارة سان فرانسيسكو. لكن شعورًا انتابني بأن الوضع في غزة غير مستقر، فقررت أن أختصر إجازتي. وقبل أن أسافر إلى الوطن سألت صديقي حسن أن يحضر بالسيارة إلى سيراكيوز ليحضر لي خمسة وثلاثين كتابا كنت قد تركتها معه. كان بينها المجلدات الخمسة الثقال لـ«موسوعة جرينوود للشعراء والشعر في أمريكا». كان من الصعب أن أصدق ما فقدناه، فقررت أن أرجع إلى بيتنا في بيت لاهيا لأرى بعيني رأسي ما جرى له. وفيما كنت أدنو من منطقة حطام بيتي، توقفت مذعورا، وما كان السبب في ذعري هو المشهد وحده، ولكن أصوات الطائرات المسيّرة والطائرات المقاتلة والقنابل المنهمرة على أحياء قريبة. أرجو لو أعثر فقط على نسخ من ديواني، ربما على مقربة من شجرة الزيتون في بيت جارنا، ولكن ليس ثمة إلا حطام. ولا شيء إلا رائحة الانفجارات. أجلس الآن في بيتي المؤقت في مخيم جباليا، في انتظار وقف إطلاق النار. أشعر وكأني في قفص. أموت كل يوم مع شعبي. ليس بوسعي أن أفعل إلا شيئين: الذعر والتنفس. وما من أمل هنا.
أخطط للرجوع إلى الحطام بحثا عن كتبي ولإنقاذ ما يمكنني إنقاذه. لن أضع الكتب هذه المرة على أرفف. أريد فقط أن أطمئن إلى أن الصفحات سليمة. وأخي حمزة سوف يفعل مثل ذلك مع كتبه، كتب النحو والأدب العربي التي قضى عشر سنين وهو يجمعها. كلانا يدعو ألا تمطر في الأيام القادمة فتغرق الصفحات.
في الحادي والثلاثين من أكتوبر، تهزنا ونحن في البيت ثلاثة انفجارات كبيرة. تتحطم الشبابيك. يطير الحطام والغبار حتى غرفة المعيشة. نهرع جميعًا إلى غرفتي النوم، ناظرين إلى السقف. قنبلة سقطت على بعد سبعين مترا. أتت على حي بالكامل.
في وقت لاحق، يظهر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي على شاشة (سي إن إن) ويقول إن الهجوم على جبالبا كان يستهدف قياديًّا في حماس. حينما يسأله المذيع عن المدنيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي يقول المتحدث إن «هذه هي مأساة الحرب».
في اليوم التالي، وأنا أكتب جزءًا من هذه المقالة على هاتفي أسمع انفجارًا آخر شديد القرب. أسارع إلى الموقع على بعد مائتي متر تقريبا، غير بعيد من مدرسة تديرها الأمم المتحدة. أرى امرأة وأطفالا مصابين تنزف وجوههم وصدورهم. نار ضخمة تضطرم. أعثر على صيدلية، أفتش في جسدي عن جروح، وأحاول أن أساعد الناس من حولي. مرة أخرى، ننجو. حلمت زوجتي أخيرا بأنها تجمع لحما مجمَّدا. في الحلم رأت نفسها تقول: «هذه ذراع ابني. هذه ساق ابنتي».
لولا الحرب، لكنت ألعب كرة القدم مع أصدقائي مرتين في الأسبوع. لكنت أذهب إلى السينما مع زوجتي. لكنت أقرأ كتبا في أرفف مكتبتي. لكنت أصطحب أبنائي إلى الملعب، وإلى الشاطئ. لكنت أركب دراجتي مع ابني يزن على الطريق الشاطئي. لكن ما من كتب الآن، أو مكتبة، أو طريق شاطئي.
مصعب أبو توهة شاعر فلسطيني من غزة. وصل كتابه الشعري الأول «أشياء قد تجدونها مخبّأةً في أُذني» إلى التصفيات الأخير لجائزة حلقة نقاد الأدب الوطنية وفاز بجائزة الكتاب الأمريكية.
نشر المقال في «ذي نيويوركر»
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
وزير العمل يتفقد أولى نقاط انتظار عمال التراحيل بباب الشعرية.. صور
كتب- محمد أبو بكر:
أجرى محمد جبران، وزير العمل، صباح اليوم الإثنين، جولة ميدانية بمنطقة باب الشعرية بمحافظة القاهرة، لتفقد المقاعد المجهزة التي جرى تخصيصها بشكل كريم ولائق لعمال اليومية والتراحيل، وذلك في إطار المرحلة الأولى من خطة الوزارة لتوفير نقاط انتظار آدمية تحميهم من مشقة الانتظار في الشوارع، وتقيهم من حرارة الصيف وبرودة الشتاء.
وأكد الوزير خلال حديثه مع العمال على أهمية الاستفادة من هذه المقاعد، موضحًا أن هذا التحرك يأتي تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي، الداعية إلى دعم الفئات الأكثر احتياجًا، وحمايتهم وتوفير الخدمات اللائقة لهم ضمن مظلة الرعاية الاجتماعية.
وأشار جبران إلى أن تجهيز هذه المقاعد يتم بتمويل من الحساب المركزي للرعاية الصحية والاجتماعية للعمالة غير المنتظمة، في إطار جهود الوزارة لحصر فئة عمال التراحيل ودمجهم في منظومة الحماية الاجتماعية التي تشمل العمالة غير المنتظمة المسجلة لدى الوزارة عبر الجهات المتعاقدة مثل المقاولين أو الشركات.
وأضاف الوزير أن فئة عمال اليومية تحتل أولوية قصوى في خطط الوزارة الحالية، مؤكدًا أن الدعم المقدم لهم لا يقتصر على أماكن الانتظار، بل يشمل جهودًا موسعة لتسجيلهم وضمان وصول الخدمات الصحية والاجتماعية إليهم بشكل مستدام.
يُذكر أن وزير العمل، منذ توليه مهام وزارة العمل في يوليو 2024، حرص على النزول الميداني إلى شوارع القاهرة، حيث التقى بعدد من عمال اليومية والتراحيل، واستمع إلى مطالبهم، ووعدهم بإطلاق خطة متكاملة تشمل توفير أماكن انتظار آدمية، إلى جانب برامج الحماية والرعاية المتكاملة.
اقرأ أيضا:
ارتفاع الرطوبة وحرارة شديدة.. الأرصاد تعلن تفاصيل طقس الـ 6 أيام المقبلة
تفاصيل قانون "أبوشقة" لتطوير كليات التربية وربطها باحتياجات سوق العمل
ينطلق الثلاثاء المقبل.. رضوى الشربيني تروج لموسم جديد من "هي وبس"
لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
وزير العمل نقاط انتظار عمال التراحيل باب الشعرية محمد جبرانتابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الأخبار المتعلقةإعلان
الثانوية العامة
المزيدأخبار رياضية
المزيدإعلان
وزير العمل يتفقد أولى نقاط انتظار عمال التراحيل بباب الشعرية.. صور
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
36 24 الرطوبة: 25% الرياح: شمال غرب المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب الثانوية العامة فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك