تبدو كتب السيرة، سواء أكانت ذاتية أم غيرية، كأنها تنطلق، أو على الأقل تتماشى مع التقليد السقراطي المتمثل في «اعرف نفسك»؛ لأنها تسمح للكاتب بالعودة إلى أصوله وإعادة اكتشاف طفولته ومحاولة فهم الصدمات التي تَعَرض لها في حياته؛ بمعنى آخر، تتيح له أن يعرف نفسه بشكل أفضل. قبل قرون أوضح الفيلسوف الفرنسي مونتين أنه كتب «المقالات» لغرض «محلي وخاص» بينما وجد الكاتب ستاندال أن أعمال السيرة الذاتية تتوافق مع نهجه الأناني.
قبل فترة، قرأت العديد من السِيّر، الذاتية أو الغيرية وبعضها إعادة قراءة. لكن في ذلك كله، لا أعرف ما الذي شدّني إلى ذلك، بمعنى لم أفهم الرغبة الداخلية التي أخذتني إلى هناك. كانت القائمة طويلة إلى حدّ ما، منها بالعربية مثل: «الخبز الحافي» لمحمد شكري و«أوراق شخصية» للطيفة الزيات، و«السيرة الطائرة» لإبراهيم نصر الله، و«رحلة جبلية، رحلة صعبة» لفدوى طوقان و«الجمر والرماد» لهشام شرابي، و«وقفة قبل المنحدر» لعلاء الديب، و«رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر» لعبدالوهاب المسيري وغيرها، ومنها بالفرنسية: «الحجاب الأسود» (1991) لآني دوبيري (التي تعود فيها إلى الحقبة التي سبقت موت والديها بحادث) وشارل جولييت (1995) «أشلاء» (الذي يبحث من خلالها عن والدته التي لم يعرفها مطلقا). ويمكن أيضا للاستبطان بعد ذلك أن يأخذ بُعدًا تحليليًّا نفسيًّا، كما هي الحال مع ميشيل ليريس في «عصر الإنسان» (1939)، التي كتبها بالتوازي مع تحليله النفسي. سارتر، من جانبه، يسترجع طفولته ليزيل الغموض عنها بشكل أفضل ويفهم أصول تجربته.
لا ترتبط كتابة السيرة الذاتية بالضرورة بصدمة نفسية، ولكن يمكن أيضا أن تكون مدفوعة بالرغبة في إعادة اكتشاف الجنّة المفقودة، جنّة الطفولة. يصف روسو في اعترافاته (1770) السعادة المرتبطة بالبراءة في سنواته الأولى، مثلما كتب في الوقت عينه للآخرين، أي كتب «مرافعة» ضد الاتهامات (غير العادلة) التي وجهت إليه. يمكن أيضا أن يكتب المرء من أجل أن يترك أثرا وراءه و«يتحدى الموت» وكأنه عبر مذكراته وسيرته يريد أن يشيّد نصبا تذكاريا من وراء القبر ينقله إلى الأبد. أو على الأقل أن يترك «شهادة» ما عن عصره وحقبته.
يمكن لنا أن نتحدث مطولا عن «أهداف» كتابة السيرة؛ لكن ماذا لو طرحنا سؤالا معاكسا: هل كل السيّر تكشف غموض الكائن؟ ألا تفضل بعض الحيوات أن تحتفظ ببعض أسرارها، أو ربما نجدها تواريها إلى الأبد، من دون أن يرشح عنها أي تفصيل من التفاصيل. لو تمعنّا جيدا في هذا الأمر، لوجدنا أنه لا يشكل سوى دليل فعليّ على غناها -غنى هذه الحياة- وعلى تعقيدات تشعباتها.
لا تملك الحياة أبطالا حقيقيين من دون هذا الغموض «القليل»، من دون هذه «الثقوب السوداء» التي تلفها. فهذه السمة العامة لا تشذ عنها حياة الكُتّاب بل ربما كانت أحد مكوناتها. فأسطورة أرتور رامبو مثلًا لم تكن كما هي عليه اليوم، لولا، ربما، تلك اللايقينيات «البيوغرافية» التي فتحت أمامنا أجنحة المتخيّل. كيف كانت فعلا نشاطات ذلك «الرجل العابر بنعال من ريح»، الحقيقية، في هرر، وكيف كانت غرامياته وبقية أحداث يومه؟ هل استمر في الكتابة أم توقف فعلا؟ هذه الأسئلة التي بقيت حتى اليوم بلا أجوبة محدّدة، صرف عليها العديد من الكتّاب أفكارهم ونظرياتهم. فهم لم يأتوا أبدًا بأشياء ملموسة، بل زادوا الغموض غموضا أو جعلوه أكثر سحرا، لدرجة أن الواحد منّا يتساءل عمّا إذا كان وجود كاتب ما، مهما؛ لأنه يخفي أشياء أكثر ممّا يبوح بها... بالتأكيد، نجد أن كتّاب السير الذاتية، هم أول المشتبهين بذلك. ألم يزيدوا في ضياعنا، في توجيهنا إلى أمكنة أخرى؟
في أحد كتبه الجميلة (والذي يحمل عنوان «جان جاك روسو» -1907)، حاول الكاتب والناقد الأدبي الفرنسي جول لوميتر أن يبرهن أن الاتهامات التي اعتبرت أن روسو قد وضع أولاده في ميتم، هي اتهامات باطلة. في واقع الأمر، وبحسب لوميتر، فإن التقارير الطبيّة التي وضعها الطبيب السويسري ترونشان، الذي أشرف على علاج روسو، أظهرت أن هذا الأخير لم يبح بتلك الاعترافات إلا ليخفي واقعا أقسى: عجزه الجنسي وعدم قدرته على التناسل (ممّا شكل في ما بعد مصدرا للنميمة قام بها زميله الفيلسوف والكاتب الفرنسي الآخر فولتير).
أما شاتوبريان، ومن جانب آخر، فلم يفعل شيئا في مذكراته سوى محو حياته العاطفية المضطربة؛ فمن المؤكد أن هذا «الأبيقوري» ذا «المخيلة الكاثوليكية» (مثلما يوصف) قد عاشر بولين دوبومون وجولييت ريكامييه، بيد أنه غيّب بعناية أثر كلّ عشيقاته اللواتي «جرجرهن» وراءه. فهذه الحياة العاطفية، تمتلك سحرا أكبر حين تكون في السرّ. البعض يفشيه، والبعض الآخر يخفيه جيدا. من يعرف حقيقة العلاقات التي ربطت مثلا بين غوته وبيتينا فون أرنيم؟ ومن يعرف اسم تلك الفتاة، التي وجدت صورتها العارية، بين أوراق الكاتب الفرنسي بول ليوتو، بعد وفاته؟ لقد بحث الجميع عن تلك المرأة ذات الشعر الطويل الذي كان يخفي وجهها ولم يعثروا عليها.
ثمة جزء أيضا من الشعر العربي -الذي يمكن قراءته كسيرة فعلية وحقيقية- قد يأخذنا إلى هذا المنحى. وربما تكون الأسئلة التي نطرحها عن الشعر الجاهلي، من تلك الأمثلة البارزة. هل أن ما كتبه امرؤ القيس عن علاقته بابنة عمّه، فاطمة، هي فعلا مثلما تخبرنا بها المعلقة وربما كل المعلقات تملك هذا الجزء من غموضها- أم أنه كان يرغب في تحويل نظرنا عن أشياء أخرى؟ لا بدّ أن السؤال مشروع هنا، مثلما تساءل الأخطل الصغير في القرن العشرين حول عمر بن أبي ربيعة، حين قال في قصيدته «عُمر ونُعم»:
«ليلة ذي دوران، هل كانت كما
حدثت، أم أخيلة وصُورُ
ونُعمُ هل كانت كما صَوَّرتَ، أم
بالغ في تلوينها المصوِّرُ»...
ثمة أسئلة دائمة تأخذنا إلى هذه المناطق من الغموض. وما البحث فيها إلا إضافة غموض فوق غموض. لكن، في العمق... أي أهمية لذلك كلّه؟ فما من حياة، حتى تلك الأشفّ، تبوح بجميع أسرارها. فأيّ شيء أجمل من حياة تنتهي على سرّ، وبخاصة إذا كان هذا السر حبًّا كبيرًا... هل لأن القراءة هي سرنا الأكبر؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
تأخير تشكيل الحكومة.. التأثير على عجلة دوران الاقتصاد السوداني
في الأول من يونيو الماضي، أعلن رئيس الوزراء السوداني د. كامل إدريس عن حل الحكومة وتكليف الأمناء العامين ووكلاء الوزارات بتسيير المهام حتى تشكيل حكومة جديدة.
ويعيش السودان حالة فراغ تنفيذي منذ ذلك الوقت، في ظل ظروف أمنية بالغة التعقيد، مما يزيد من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
ومنذ أدائه القسم، شرع رئيس الوزراء السوداني في بدء المشاورات لتكوين الحكومة، غير أن ثمة خلافات باتت تطفو على السطح تعمل على تأخير تشكيل الحكومة.
وأكد رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لدى مخاطبته فعاليات المؤتمر الرابع لتمويل التنمية بإسبانيا، أن السودان خطى خطوات مهمة في مسيرته نحو الاستقرار المدني عبر تعيين رئيس مدني لمجلس الوزراء في الحكومة المدنية الانتقالية.
وأضاف أن هذا التعيين يعكس إرادة السودان الثابتة في استكمال مؤسسات الدولة وتعزيز الانتقال المدني الديمقراطي، تمهيدًا لبناء مستقبل أفضل للشعب.
*بداية التشكيل*
وكبداية لتشكيل الحكومة، أصدر إدريس الأسبوع الماضي قرارًا بتعيين الفريق حسن داؤود كبرون كيان وزيرًا للدفاع، كما تضمن القرار ذاته تعيين الفريق شرطة بابكر سمرة مصطفى علي وزيرًا للداخلية. غير أن الفراغ التنفيذي القائم بالبلاد يتسبب في تعطيل دولاب العمل ويؤثر بشكل بالغ على دوران عجلة الاقتصاد القومي.
*تسليم التصاديق*
وطفت آثار هذا الفراغ على السطح، وانعكست بصورة واضحة في غياب بعض الخدمات المقدمة للقطاع الاقتصادي، في ظل غياب واضح للإجراءات والترتيبات المنظمة في عدد من القطاعات.
وأكد رجل أعمال – فضل حجب اسمه- على تعطل العمل بوزارة الاستثمار وعدم تسليم تصاديق المشروعات الاستثمارية.
وقال في حديثه لـ”المحقق” إن وزارة الاستثمار أوقفت تسليم تصديقات المشروعات الاستثمارية بسبب غياب الوزير خلال الفترة الماضية.
وأوضح أن الوزارة لم تصدر تفويضًا لشخص آخر للتوقيع على التصديقات، بالإضافة إلى وجود مشاكل فنية بالنظام المالي للوزارة.
وكشف عن أن الوزارة بدأت أمس الأول في تسليم بعض التصديقات القديمة، لافتًا إلى أن التأخير في تشكيل الحكومة سيخلق بلبلة وتأخرًا في الإجراءات، مما يؤثر سلبًا على المناخ الاستثماري المتأثر أصلًا بظروف الحرب.
*تداعيات اقتصادية*
من جهته، يرى الصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي، سنهوري عيسى، أن هناك تداعيات اقتصادية عديدة لتأخر تشكيل الحكومة، تشمل تأمين إمدادات السلع والخدمات وتأمين مخزون استراتيجي من السلع الأساسية، خاصة بالولايات التي تتأثر بفصل الخريف سلبًا نتيجة لانقطاع الطرق وارتفاع تكلفة الترحيل والمضاربات في أسعار السلع والمغالاة من قبل التجار، إلى جانب تأمين إمدادات السلع واللوجستيات للقوات المسلحة قبيل حلول فصل الخريف.
ويقول عيسى لـ “لمحقق” إن التأثير سيشمل الاستعدادات للموسم الزراعي الجديد، مضيفًا أن الزراعة مواقيت.
وأوضح أنه “حانت مواقيت الزراعة بالقطاعين المطري والمروي، ولابد من تأمين احتياجات الموسم الزراعي مبكرًا لضمان نجاحه”.
*فقدان الموارد*
وأشار إلى أن تأثر العمل بدولاب الدولة مما انعكس بصورة مباشرة على تحصيل الإيرادات، خاصة التي بنيت عليها الموازنة العامة للدولة من رسوم جمركية وضرائب ورسوم مصلحية تفرضها الوزارات الخدمية، كوزارات الصحة والتربية والتعليم العالي والزراعة والتجارة والثروة الحيوانية والصناعة والداخلية والخارجية والمعادن والموانئ، وغيرها من المؤسسات الإيرادية، إلى جانب تأثر حركة الاستيراد والتصدير وانعكاسها على إعمار ما دمرته الحرب بمناطق العودة الطوعية.
ولفت سنهوري عيسى إلى تأثير فقدان الموارد عن طريق التهريب، خاصة تهريب الذهب والثروة الحيوانية والمنتجات الزراعية كالصمغ العربي والمعادن والإبل، فضلًا عن التأثير النفسي للمواطن الذي يعول على الحكومة الجديدة، والتي تواجه عسرًا في الولادة واختلافات حول المناصب.
*تباين واسع*
وبدوره، يقول الخبير الاقتصادي والمحلل السياسي د. محمد تورشين أن مسألة تأخير تشكيل الحكومة معقدة للغاية، وربما هناك تباينًا واسعًا في وجهات النظر بين الجهات المعنية المنوط بها المشاركة في الحكومة، خاصة حركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق سلام جوبا.
وقال تورشين لموقع “المحقق” الإخباري إن هذا التباين “ساهم في تعقيد مسألة الإسراع في تشكيل الحكومة، وهذا سيؤثر بشكل سلبي على عمل الحكومة في المستقبل”.
وأشار إلى أن هذه المسألة قد تجعل عمل الحكومة غير متجانس ومتوائم مع الخطة التي أطلقها رئيس مجلس الوزراء، وسيكون الأمر شبه مستحيل.
وأوضح أن التفاؤل بشأن مستقبل عمل الحكومة بقيادة كامل إدريس قد يكون بعيدًا كل البعد عن الواقع، لأن ذلك بدأ يظهر الآن بشكل واضح من خلال التباين في وجهات النظر والتأخر في تشكيل الحكومة.
المحقق – نازك شمام
إنضم لقناة النيلين على واتساب