ألمانيا تعيش حالة من فتور الـهِـمّـة
تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT
ذات يوم كان كثيرون يتصورون أن ألمانيا منزهة عن الخطأ: فقد كان الاقتصاد قويا، والبطالة منخفضة، وكانت استراتيجيتها في ضبط الأوضاع المالية ناجحة. وعمل الإجماع السياسي العريض على توفير الاستقرار، ولم يكن المجتمع الألماني يعاني من انقسامات عميقة. وكما يقول الشعار الذي استخدمته المستشارة السابقة أنجيلا ميركل في حملتها الانتخابية عام 2017، كانت ألمانيا «دولة نعيش فيها بـيُـسر وسعادة».
مع اقتراب العام من نهايته، يبدو شعار ميركل، الذي نسيه حتى حزبها، محض أماني. الرأي السائد الآن هو أن ألمانيا لم تعد قادرة على إنجاز أي شيء - أو على الأقل الأمور المهمة ــ على النحو الصحيح. يتسم المزاج العام في ألمانيا بالضجر والتشاؤم: إذ يعتقد 46% من الألمان أن أحوالهم ستكون أسوأ في غضون عشر سنوات. في نهاية عام 2022، كان 28% فقط من الألمان متفائلين بعام 2023، وهي الاستجابة الأكثر سلبية منذ عام 1951. وكانوا على حق: فقد تبين أن 2023 كان عاما كئيبا بالنسبة لألمانيا.
كان الاقتصاد يشهد ركودا معتدلا ولكنه مستمر، كما أن آفاق عام 2024 تأتي قاتمة بالقدر ذاته. حيث تسببت أزمة الميزانية الحادة التي ظلت دون حل لفترة طويلة في إصابة الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات بالشلل، واستشرى الاقتتال الداخلي بين شركاء الائتلاف الثلاثة، وتوقفت أغلب جهود الإصلاح حاليا أو نُـبِـذَت. لا عجب أن «Krisenmodus» (وضع الأزمة) كانت الكلمة الألمانية الأشهر لهذا العام.
مؤخرا، خصصت صحيفة فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج التي تتمتع بنفوذ كبير صفحة كاملة لأكبر المشكلات التي تواجهها ألمانيا ــ 13 في المجمل، وكثير منها جلبتها ألمانيا على نفسها. تشهد العولمة حالة من التباطؤ والتغيير، ولم تظهر سوى قِـلة من الأسواق الجديدة للسلع الألمانية، ويفرض هذا ضغوطا على اقتصاد ألمانيا الموجه نحو التصدير.
علاوة على ذلك، أصبحت الاستثمارات منخفضة للغاية، وأسواق رأس المال شديدة الضعف، وتسببت سلالة خبيثة من رهاب التكنولوجيا في إبطاء حملة التحول الرقمي. هذا مجرد غيض من فيض، إذ تعاني ألمانيا أيضا من نقص الاستثمار في البنية الأساسية العامة، وفرط التنظيم، والبيروقراطية المفرطة، ونقص الأيدي العاملة.
كما يتعين على المجتمع الألماني أن يتعامل مع عدد كبير من التحديات، بما في ذلك نظام الهجرة المعطل، والإسكان باهظ الثمن، وأسعار الطاقة الأعلى في أوروبا، والمدارس ضعيفة الأداء. في المقابل، تمكنت الصحيفة من تحديد ثلاث علامات مشجعة فقط: فمن المرجح أن يستفيد المركز الصناعي في ألمانيا من الذكاء الاصطناعي؛ والآن بدأ قطاع الأدوية يستعيد سابق قوته؛ وتظل شركات التصنيع متوسطة وصغيرة الحجم الحيوية تتمتع بالمرونة والإبداع نسبيا.
تُـرى ماذا كان الخطأ الذي أدى إلى هذه الحال؟ من المؤكد أن جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية الأوكرانية (وأزمة الطاقة الناتجة عنها)، وارتفاع معدلات الهجرة، والصراعات في الشرق الأوسط، كلها عوامل أسهمت في الوضع الحالي. لكن الأمر الأكثر أهمية أنها كشفت عن مدى عدم استعداد ألمانيا لمواجهة الصدمات والتحولات الجيوسياسية غير المتوقعة.
ظلت أكثر هذه المشكلات تتفاقم لبعض الوقت: من التبعيات الاقتصادية وتلك المرتبطة بالطاقة إلى الأنظمة الإدارية التي عفى عليها الزمن والقواعد التنظيمية الخانقة للإبداع. لكن قيادات ألمانيا قررت تجاهلها، ووافق الناخبون على ذلك، متصورين أن الأمور ستنتهي إلى خير.
في حين يرجع الانحدار الألماني إلى أسباب عديدة، فإن أهم هذه الأسباب، وهو «مخاطر النجاح» كثيرا ما يكون موضع تجاهل. إن ما يصدق على الشركات ينطبق على الدول: فالأداء المالي الجيد من الممكن أن يؤدي إلى حالة من الرضا عن الذات. خلال فترات النمو الاقتصادي القوي، تصبح الحكومات مفرطة في الثقة وتتجاهل الظروف المتغيرة. تفاقمت هذه المخاطر بسبب الأهمية التي يعلقها الناخبون الألمان على القيادة السياسية المستقرة والحفاظ على الوضع الراهن.
الواقع أن ميركل، التي لم تكن من ذوي الرؤى الحالمة سياسيا، كانت تحاول ملاءمة ألمانيا كالقفاز، فاتخذت خطوات تدريجية بدلا من الضغط من أجل الإصلاحات المطلوبة بشدة. جرى تشكيل الائتلاف الحاكم (Ampelkoalition، أو ائتلاف إشارة المرور، الذي سمي على ألوان الأحزاب الحاكمة الثلاثة) تحت شعار «الإقدام على مزيد من التقدم». لكن المستشار أولاف شولتز ليس صاحب رؤى حالمة وليس مديرا فعالا لحكومته المبتلاة بالصراعات والميالة إلى الانزلاق إلى الزلات. كان من المستحيل تقريبا أن يجد الائتلاف أرضية مشتركة. إذ يلبي الديمقراطيون الاجتماعيون احتياجات قاعدتهم القديمة والمتقلصة بأموال دافعي الضرائب؛ ويحمل الخُضر رؤية إصلاحية غير متوافقة على نحو متزايد مع الرأي العام؛ ويكرر الديمقراطيون الليبراليون شعاراتهم مثل «لا ضرائب جديدة» و«فرض القيود على الإنفاق العام» في حين يصرون على كبح الدين، الحد الدستوري المفروض على الاقتصاد الجديد.
إذا كان سجل سياسات الائتلاف خلال أول عامين له في السلطة مؤشرا إلى ما سيأتي، فلابد أن يشعر مزيد من الألمان بالقلق بشأن مستقبل بلادهم. يبدو من المؤكد أن ألمانيا ستدفع ثمن رضاها عن ذاتها.
الواقع أن جلوسها على تلال أمجادها لفترة أطول مما ينبغي جعلها غير مستعدة لعالم اليوم، وكان تقاعس الائتلاف الحاكم عن اتخاذ إجراءات حاسمة سببا في تفاقم المشكلة.
من منظور اجتماعي، تمكن الضعف من الإجماع العريض الذي عمل على توحيد أغلب الألمان، مع تزايد شيوع الإضرابات والمظاهرات. علاوة على ذلك، تواجه البلاد مستقبلا سياسيا غامضا. فالآن، يحقق حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني أكثر من 20% في استطلاعات الرأي في مختلف أنحاء البلاد، ارتفاعا من 10% قبل أقل من عامين، ومن المرجح أن يصبح الحزب الأكبر في عدد كبير من برلمانات الولايات في العام المقبل.
في الواقع، قد لا يستمر الائتلاف حتى الانتخابات الفيدرالية المقبلة، المقرر إجراؤها في أواخر عام 2025. وإذا تزايدت الدعوات المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة، فقد يسعى شولتز إلى تشكيل ائتلاف أكبر مع الديمقراطيين المسيحيين تحت قيادة فريدريش ميرز، مستشار الظِـل. إذا كان ائتلاف إشارة المرور راغبا في البقاء في السلطة وتحسين سجله، فيتعين على شولتز أن يحسن من أدائه في التواصل مع الناخبين وشرح سياسات حكومته بشكل أوضح وفي مناسبات أكثر. كما يتعين على الأحزاب الثلاثة أن تدرك أنها تدمر فرص إعادة انتخابها من خلال استعراض موضوعاتها القديمة الدائمة الحضور في حين تتخبط البلاد. يتعين على حكومة شولتز أن تحاول التوصل إلى الإجماع حول ثلاث قضايا بالغة الأهمية: عدم تقديم أي برامج اجتماعية جديدة وقصر الزيادات في الإنفاق على البرامج الحالية على معدل التضخم؛ تحديث الإدارة العامة؛ والدعوة إلى اتباع نهج أكثر مرونة في التعامل مع الاستثمار العام، وهو ما يتطلب إصلاح نظام كبح الدين. برغم أن هذه التغييرات قد لا تكون جريئة بالقدر الكافي، فلن يتحقق أي تقدم يُـذكَـر في غيابها.
هيلموت ك. أنهاير أستاذ علم الاجتماع في كلية هيرتي في برلين، وأستاذ مساعد في السياسة العامة والرعاية الاجتماعية في كلية لوسكين للشؤون العامة في جامعة كاليفورنيا.
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
تحرك استيطاني جديد.. الائتلاف يضغط لرفع العلم الإسرائيلي شمال غزة
قدّم وزراء وأعضاء كنيست من أحزاب الائتلاف اليميني المتطرف، اليوم الخميس، طلبًا جديدًا يعكس تصعيدًا سياسيًا منظّمًا، موجَّهًا إلى وزير الأمن يسرائيل كاتس، للموافقة على إقامة فعالية استيطانية كبرى لرفع العلم الإسرائيلي شمالي قطاع غزة .
وطالب مقدّمو الطلب بتنظيم الفعالية خلال عيد "الأنوار" (حانوكا) في موقع مستوطنة "نتسانيت"، التي أُخليت عام 2005 ضمن خطة "فك الارتباط"، وذلك بالتزامن مع ما وصفوه بأنه "عودة إسرائيل إلى مستوطنات غوش قطيف". وأوضحوا أن توقيت هذا الحدث يأتي بعد عامين على هجوم السابع من أكتوبر، مؤكدين أن الحرب الطويلة "لم تصل إلى تعريف واضح للنصر"، وأن الوضع الميداني "لا يعكس استعادة الردع أو القضاء على قوة حماس ".
وجاء في الرسالة أن "حماس تخرق التفاهمات مرارًا، وأن قوتها لم تُدمَّر بل تتزايد مع مرور الوقت"، في حين تتحدث المؤسسة الأمنية – بحسب وصفهم – عن إزالة التهديد وعودة سكان الغلاف، وهي رواية اعتبرها مقدّمو العريضة غير دقيقة. وأضافوا أن الحرب أثبتت أن الحسم العسكري وحده غير كاف، وأن استمرار العمليات "لا يضمن النصر"، مؤكدين أن "عامين من القتال وسقوط مئات الجنود يثبتان أن النصر لا يتحقق بالسلاح فقط".
وانتقد الوزراء وأعضاء الكنيست ما قالوا إنه "محاولات دولية لفرض ترتيبات على قطاع غزة" ضمن خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف الحرب، معتبرين أن غزة "جزء من ميراث الآباء، النقب الغربي". وشددوا في رسالتهم على أن الطريق الوحيد لتحقيق النصر – وفق رؤيتهم – يتمثّل في السيطرة الكاملة على الأرض وضمّها إلى إسرائيل، قائلين: "النصر يتحقق فقط عندما تُؤخذ الأرض".
اقرأ أيضا/ حمـاس ترفض وتستهجن التقرير الصادر عن منظمة العفو الدولية
وأضافوا أن "خطوة من هذا النوع، تقوم على أخذ الأرض وتحويلها إلى منطقة يهودية مزدهرة، ستُحدث ردعًا طويل المدى ضد جميع أعدائنا، وسترسّخ في الواقع وفي وعي العدو والعالم بأسره أن إسرائيل انتصرت في الحرب، والأهم من ذلك أنها ستُثبّت الانتماء الأبدي لأرض إسرائيل للشعب اليهودي".
وتابعوا: "لقد حان الوقت لنقول بوضوح: غزة جزء من أرض إسرائيل، وهي ملك حصري للشعب اليهودي، ويجب ضمّها فورًا إلى دولة إسرائيل"، مشددين على أن "الوضع القائم اليوم لا يستوفي تعريف النصر في الحرب".
وأوضح موقعو الرسالة أن حركة "نحالاه" الاستيطانية تعمل على تنظيم فعالية واسعة خلال "حانوكا"، تتمحور حول رفع العلم الإسرائيلي بشكل جماهيري فوق أنقاض "نتسانيت"، مطالبين الحكومة بالمصادقة على الحدث "دون تأخير".
وجاء في ختام الرسالة: "نطلب الموافقة على إقامة الفعالية في موقع نتسانيت هذا العام، باعتبارها خطوة رمزية وسيادية تعكس انتصار الشعب الإسرائيلي وتُثبّت الانتماء الأبدي لأرض إسرائيل".
ووقّع على الرسالة عدد من أبرز وزراء الحكومة الإسرائيلية، بينهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير الاقتصاد نير بركات، ووزير الرياضة ميكي زوهار، إلى جانب وزراء آخرين مثل زئيف إلكين، إيلي كوهين، ميري ريغيف، عيديت سيلمان، بالإضافة إلى رئيس الائتلاف.
وشارك أيضًا نحو 33 عضو كنيست من أحزاب اليمين واليمين المتطرف، من بينهم تالي غوتليب، دافيد بيتان، تسفيكا فوغل، ليمور سون هار ميلخ، يتسحاق غولدكنوف، غاليت ديستل، أرئيل كالينر، وأوشر شكّليم.
المصدر : عرب 48 اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد المزيد من الأخبار الإسرائيلية مكان: ضغط مصري على إسرائيل لفتح معبر رفح في كلا الاتجاهين العاصفة "بيرون" تضرب إسرائيل بقوة وتحذيرات من فيضانات خطرة كشف تفاصيل عملية سرّية إسرائيلية بغزة قبل يوم من هجوم 7 أكتوبر الأكثر قراءة زيارة أم البنين كاملة PDF حماس: استشهاد 3 أسرى بسجون الاحتلال يؤكد سياسة القتل المتعمدة لجنة الانتخابات تعلن المدد القانونية للانتخابات المحلية 2026 شهيدة وإصابات برصاص الاحتلال شرق غزة عاجلجميع الحقوق محفوظة لوكالة سوا الإخبارية @ 2025