الوطن:
2025-12-12@16:33:05 GMT

أزهار شهاب تكتب: إلى ستّي.. كاذبون مَن قالوا رحلتِ

تاريخ النشر: 29th, December 2023 GMT

أزهار شهاب تكتب: إلى ستّي.. كاذبون مَن قالوا رحلتِ

بعيداً عن البيت ببضعة أمتار طلبت من السائق أن يوقف سيارة الأجرة.. كان الزحام شديداً وكان شوقى لبيتى أشد منه.. شهران طويلان غبتهما ولم يعد بمقدورى الانتظار أكثر ولو لدقائق.. ترجلت من السيارة مسرعة، وصوبت نظرى نحو بيتى، فوجدته هو بالذات مصدر الزحام، الناس تلتف حوله، وعلى يمينه شىء يشبه الخيمة ولكنه أكبر حجماً.

. أنا أعرف هذا الشىء، أعرف متى يُستخدم ولماذا، ولأنى أعرفه جيداً تسرب القلق والخوف إلى قلبى، وتسارعت أفكارى لدرجة أصبحت ألهث وراءها، كل الأفكار تلاطمت فى عقلى كموج البحر، إلا فكرة واحدة جاهدت بكل قوتى لأبعدها عنى، إلا أنها ظلت تلاحق خطواتى تجاه منزلى وكأنها ابن يطالب بحقه فى الاعتراف به.

تجسدت الفكرة.. الفكرة البغيضة نفسها.. فى كل شىء حولى.. فى نظرات الناس المصوبة نحوى، والمملوءة بالألم والحسرة.. فى الشارع الذى خلا فجأة من المارة.. والبيوت التى اتشحت بالسواد.. والشمس التى انسحبت من المشهد بهدوء.. وفى أمى التى تحترق من البكاء.. وأبى الذى يغالب دموعه فتغلبه.. ونظرات إخوتى المملوءة بالاستسلام.. كل شىء يُنبئ برحيلك!.

رحلت «ستك» والخيمة البيضاء من أجل عزائها.. لم أصدقهم يا ستى.. أنت لا تفعلين هذا بى.. والموت لا يجرؤ على الاقتراب منكِ وهو يعلم كم أحبك.. رُحت أبحث عنك فى كل مكان.. أتذكرين العطلة الماضية عندما أخبرتنى بأن حذاءك لا يشبهك فى طول العمر، وأنكِ تحتاجين لإصلاحه، وقتها ابتسمت ودعوت الله أن يحفظك ويطيل عمرك، وها أنا الآن أحمل حذاءك الجديد بين يدى، فأين أنتِ الآن لترتديه؟!

أحقاً شمسك غابت عن سمائى؟.. وغشى الظلام الكون كلّه.. وخلا العالم كله من الألوان.. ولكن صوتك يا ستى ما زال يرنّ فى أذنى.. ووجهك لم يغب لحظة عن بالى، لم أعد أتذكّر إلا صورتك ونظرات عينيك، كيف ترحلين وأنتِ تستوطنين كيانى؟

أيها الموت سيئ الطباع لمَ لا تعيدها لى ولو لدقيقة؟.. لمَ لا تنتظر حتى تعطينى رأيها فى الحذاء الجديد؟.. أيها الشبح الأسود لمَ كانت خطواتك أسرع منى إليها؟.. أيها الموت هتفت للوحشة لتستوطن قلبى.. لماذا؟ لو تعلم ما فى قلبى من غصة لأعدتها إلىّ.

«ستى» أتعلمين ماذا فعل رحيلك بى؟.. مع مَن سأتقاسم سريرى، ومن سيسهر معى حتى الصباح، على من سأطلق نكاتى؟.. آه يا «ستى» لو تعلمين كما تمنيت أن أكون ساحرة لأبقيك على قيد الحياة حتى قيام الساعة، أو عالمة كيمياء لأخترع دواءً يُبقيكِ حتى ألفظ أنفاسى.. أوصيتك أن تخبرينى عندما يشتد عليكِ المرض.. ألومك وتسمعيننى أعرف.

وها أنا الآن أجلس فى غرفتنا المشتركة، الغرفة ذاتها التى كانت شاهدةً على كلامنا معاً، ضحكاتنا ودموعنا، على راحة البال وطمأنة القلب التى كان يضفيها حضورك فى حياتى، ولكنها الآن أصبحت شاهدةً على غيابك، وعلى قلبى الممزق، ودموعى التى تنهمر بلا حساب، وموجات الألم والحسرة التى تعصف بى من وقت لآخر.. كيف بالله يا ستى رحلتِ دون كلمة وداع واحدة؟ وكيف يمكن للقلب أن يتحمل رحيلك؟ وكيف أناديك ولا تُجيبينى؟!

هذه المرة لم يكن كابوساً وأستفيق منه عندما يدق هاتفى المحمول وأضعه على أذنى وأسمع صوتك وأنتِ توبخيننى قائلة: «بقينا الضحى وإنتى لسه نايمة».

ثلاثة أشهر وأنا أنتظرك لتوبخينى، كاذبون من قالوا إنك رحلتِ، كاذبون من قالوا لى ستعتادين غيابها، هل تعلمين.. أمس وجدت إحدى القنوات تبث ابتهالات ومدحاً فى سيدنا النبى، التى طالما كنا نرددها سوياً عندما نستمع إليها على هاتفى، اتصلت مسرعة بأمى لتفتح التلفاز لكِ، هل شاهدتِها؟

أنا أرددها الآن، هل ترددينها أيضاً؟، مَن قال إنك ذهبتِ؟ عُكازك هنا، وثيابك فى مكانها، وأكواب الشاى التى احتسيناها ما زالت فى غرفتنا.. أنتِ لا تفارقين خيالى.. إذن لماذا يقولون «ستك» رحلت مثل كثيرين، أنت لا تشبهين أحداً.. أنت تستوطنين كيانى.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الظلام الدامس

إقرأ أيضاً:

د. أمل منصور تكتب: بين الغياب كعقاب والغياب كحاجة نفسية

الغياب أحد أكثر الأسلحة صمتًا وأشدها وقعًا في العلاقات الإنسانية، خصوصًا حين يتسلل بين شخصين جمعتهما المودة، ثم تحوّل الصمت إلى لغة، والابتعاد إلى وسيلة للتعبير. 

أحيانًا يغيب أحدهم ليؤلم، وأحيانًا يغيب ليحمي نفسه من الألم. والفرق بين الدافعين خيط رفيع جدًا، لا يُرى بالعين، بل يُحس بالقلب.

الغياب كعقاب يحمل رغبة في السيطرة، رغبة في أن يشعر الآخر بفقدك، أن يذوق القلق الذي تذوقته، وأن يبحث عنك كما كنت تبحث عنه. 

غياب محمّل بالغرور والوجع معًا، إذ يتقاطع فيه الأذى بالحب، والانتقام بالاشتياق. في هذا النوع من الغياب، لا يرحل الشخص فعلاً، بل يختبئ خلف المسافة ليختبر ما إذا كان وجوده لا يزال يهم. يريد أن يعرف: هل سيتصل؟ هل سيسأل؟ هل سيشعر بالفراغ؟ وكأن العلاقة تحولت إلى اختبار قاسٍ، طرف يراقب وطرف يجهل أنه مراقَب.

الغياب كعقاب يحمل في جوهره رغبة خفية في لفت الانتباه، ومحاولة لاستعادة التوازن المفقود داخل العلاقة. فالشخص الذي يستخدم الغياب كسلاح يشعر غالبًا بأنه لم يُقدَّر بما يكفي، فيقرر أن يصنع أثره بالغياب بعد أن فشل في صنعه بالحضور. غير أن هذا النوع من الغياب، وإن بدا في بدايته وسيلة لاستعادة القيمة، سرعان ما يتحول إلى مسافة يصعب اختراقها. لأن الآخر، في المقابل، قد يفسر الغياب على أنه رسالة رفض، أو تراجع في المشاعر، أو إغلاق لباب التواصل. وهنا تبدأ المسافات النفسية تتسع حتى تغدو العاطفة نفسها غريبة عن موطنها الأول.

أما الغياب كحاجة نفسية، فهو فعل مختلف تمامًا في مضمونه وإن تشابه في مظهره. إنه رغبة في الهدوء، وليس رغبة في الإيلام. يأتي حين يتعب القلب من الضجيج العاطفي، ويحتاج إلى مساحة يتنفس فيها بعيدًا عن الصراعات الصغيرة التي تستهلك الحب. هذا الغياب لا يحمل نية العقاب، بل يحمل رجاء الراحة. يشبه الانسحاب إلى الداخل لتضميد جرح لا يراه أحد. فبعض الغيابات ضرورة للاتزان، وليست تمردًا على العلاقة.

الشخص الذي يغيب لأنه بحاجة إلى ذلك لا يبتعد كي يُشعر الآخر بالذنب، بل كي يتعامل مع فوضاه الداخلية. هو لا يبحث عن رد فعل، ولا يترقب اتصالًا، بل يبحث عن نفسه التي ضاعت في زحام العاطفة. هذا الغياب أكثر صدقًا وأقل ضجيجًا. هو لحظة مواجهة مع الذات قبل أن تكون مواجهة مع الآخر.

لكن المشكلة أن الطرف المقابل لا يستطيع دومًا التفرقة بين الغيابين. فكلاهما يبدو متشابهًا في صورته الخارجية: رسائل متوقفة، صمت يمتد، ومسافة تتسع. إلا أن ما يميز كل نوع هو السياق النفسي الذي سبقه، وما يتركه من أثر بعدها. الغياب الذي يُستخدم للعقاب يُورث جفاء، أما الغياب الذي يأتي كحاجة نفسية فقد يعيد ترتيب العلاقة بطريقة أنضج.

هناك علاقات ينجو فيها الطرفان بعد الغياب، لأنهما يدركان أن الابتعاد كان لتهدئة النفوس، لا لإشعالها. وهناك علاقات تنكسر لأن أحدهما ظن أن الآخر يغيب ليؤذيه، فبنى على الظن قسوة جديدة، وتضاعفت الفجوة. إن أخطر ما في الغياب أنه قابل لكل تأويل، وأننا نملأ صمته بتصوراتنا لا بحقيقته. من يغيب للعقاب يخطئ حين يظن أن الطرف الآخر سيتألم كما يتألم هو. ومن يغيب كحاجة نفسية يخطئ حين يتوقع أن يُفهم غيابه دون شرح.

العلاقات تنضج حين يتعلّم الطرفان أن الغياب لا يعني دائمًا الهجر، وأن الصمت لا يعني بالضرورة رفضًا. أحيانًا تكون المسافة وسيلة لإعادة التوازن، لا لهدم الجسور. ومع ذلك، من الضروري أن يتعلّم الإنسان التعبير عن حاجته للابتعاد دون أن يجعلها سيفًا مسلطًا على مشاعر الآخر. فالسكوت لا يصلح دائمًا لغة، لأن القلوب تفسّر على طريقتها، وكل قلب له قاموسه الخاص.

في العمق، الغياب اختبار للنوايا. من يغيب عقابًا يراهن على ضعف الآخر، ومن يغيب حبًا يراهن على قوته الداخلية. الأول يريد أن يثبت أنه الأهم، والثاني يريد أن يستعيد نفسه ليعود أفضل. لكن النتيجة لا تتوقف على الغائب وحده، بل على وعي الطرفين بمعنى العلاقة. فالعلاقة التي تقوم على نضج عاطفي تحتمل الغياب ولا تنكسر، أما تلك التي تقوم على التعلق المفرط فكل ابتعاد فيها يبدو نهاية.

الغياب أيضًا مرآة تكشف مقدار الأمان في العلاقة. من يشعر بالأمان لا يخشى غيابًا مؤقتًا، لأنه يثق في الرسالة غير المنطوقة: "أنا هنا حتى وإن لم أكن قريبًا". أما من عاش الخوف والهشاشة في مشاعره، فيرى كل غياب تهديدًا. لذلك فإن الطريقة التي نتعامل بها مع الغياب تكشف عن تاريخنا العاطفي، لا عن تصرف الآخر فحسب.

كم من شخص غاب ظنًا أنه يُعلّم الآخر قيمة وجوده، فوجد أنه خسر مكانه نهائيًا. وكم من آخر ابتعد طلبًا للسكينة، فوجد أن المسافة قرّبته أكثر من نفسه ومن الآخر. فليست كل عودة ممكنة بعد الغياب، ولا كل غياب يستحق العودة. المهم هو الوعي بالنية التي دفعته، لأن النية تصنع الفارق بين الوجع والنضج.

الحب الناضج لا يستخدم الغياب وسيلة ضغط، بل يحترم المسافة كمساحة شخصية لا تُفسَّر دائمًا على أنها عقاب. العلاقات التي تنجو هي تلك التي لا تحتاج إلى الغياب لتثبت قيمتها، بل تعرف كيف تُرمم نفسها بالحوار والتفاهم. لأن أقسى ما يمكن أن يحدث هو أن يتعوّد الطرفان على الغياب، فيصبح الصمت بينهما عادة لا اختيارًا.

وفي النهاية، الغياب الذي يشفي لا يؤذي، والغياب الذي يؤذي لا يشفي. قد نحتاج أن نبتعد لنعرف مدى احتياجنا للحب، لكننا نخسر الحب ذاته عندما نجعل الغياب وسيلة للسيطرة بدل أن يكون فرصة للوعي. فالقلب الذي يستخدم الغياب عقابًا يطلب الخضوع، أما القلب الذي يختار الغياب راحةً فيطلب السلام. والفرق بينهما هو الفرق بين حبٍّ يريد امتلاك الآخر، وحبٍّ يريد أن يبقى دون أن يُؤذي أحدًا.

طباعة شارك الغياب العلاقات الإنساني الألم

مقالات مشابهة

  • رهف تموت بردًا
  • رئيس بنجلاديش يعلن التنحي عن منصبه: أشعر بالإهانة
  • د. إيمان شاهين تكتب: اتيكيت التعامل بين الأزواج في الإسلام
  • جلالة السُّلطان يتلقّى رسالة من السيد شهاب
  • شروط نتنياهو تكتب الفشل للمرحلة الثانية في غزة
  • الأرض على موعد مع شهب التوأميات
  • الإمارات: ملتزمون بتعزيز الجهود الدولية للاستجابة للأزمات
  • السيد شهاب يستعرض التعاون العسكري بين عُمان ولبنان
  • د. منال إمام تكتب: الإنسان المصري.. حالة فريدة عبر الزمن
  • د. أمل منصور تكتب: بين الغياب كعقاب والغياب كحاجة نفسية