عربي21:
2025-10-16@18:18:03 GMT

غزة وإنسانيتنا المتعبة حتى حين

تاريخ النشر: 1st, January 2024 GMT

إنها لأيام بالغة الثقل، يحتار بها أعتى الكُتَّاب تجربة وخبرة بأحداث الحياة فيها، فماذا -يا ترى- يستطيع القلم أن يكتب؟ وكيف يعبر؟ وأنّى له وحبر الكتابة نفسه إنما يسيل بدم إخوتنا! ليس هناك في غزة أو عموم فلسطين، فلا "هناك" في الأمر، وليس أهل غزة أو فلسطين "جيرانا" لنا كما يجرؤ المزيفون على القول، وإنما هذا الضرب والقصف والقتل والتجويع والتعطيش والهدم والأشلاء والدماء إنما هو في أجسادنا نحن الذين نشاهد؛ دون أن ندري أن الجروح ليست جميعها تُرى وإنما الفيصل فيها أن تُحس، فإنما تُقصف بيوتنا، تتآكل أرواحنا، تثور دماؤنا علينا وهي لا تدري متى تسيل.



تزداد جراحنا عمقا لأنها مخذولة، سلبت حتى حق الظهور إلى العلن، نمضي ويتأصل الجرح فينا بالإضافة لشعور لا يُعبَرُ عنه بالذنب، فحينما لا ننصر أنفسنا في غزة وفلسطين مرات عديدة لا يسكن الجرح أو يصمت، بل يزداد توغلا والتهابا في الداخل، فإنما تتعود الكائنات الأخرى الأبعد عن البشرية والإنسانية بمسافة على الأحداث المريرة، فكيف يمكن لإنسان أن يرى بعضا منه يُقطع ويُمزّق بل يُؤكل، يهجّر بعيدا عن جسده ويستمر في الحياة؟ نشعر بأننا مشاركون على نحو ما غامض في قتل أنفسنا واستنزاف طاقتنا وقواتنا، يخجلنا الصمت وتقتلنا قلة الحيلة، نتمنى لو استطعنا التنكر حتى لأنفسنا لكي لا نُسلّم بأن جزءا عزيزا من قلوبنا وأرواحنا وأنفسنا يقذف بأعتى الأسلحة المحرمة منذ أكثر من نحو ثلاثة أشهر، فيُستشهد الآلاف ويجرح ويصاب أضعافهم؛ نشاهد في المقابل، نمصمص الشفاة، نتواصى بالمقاطعة وترك منتجات الدول التي تعين المحتل الغاصب، نحاول إقناع أنفسنا بأنه دور رادع فتاك أو حتى مناسب، نهدأ وتتناسى الأمور بعد مضي المأساة فننسى حتى المقاطعة كما فعلناه وتناسيناها مرات عديدة من قبل.

يُلبس البعض أعذاره ثوب المنطقية، يحمل المقاومة الفلسطينية المسئولية، يتقولون بأنه لم يكن من داع لكي تبدأ المواجهة التي تكاد تكون الأولى في تاريخ العرب، فقد تعوّدنا أن يبدأ الكيان الغاصب الحرب علينا خاصة في داخل حدودنا المحتلة، يكون لنا حق الدفاع عن النفس، ويبقى له حق المبادرة وإحسان إعداد التفاصيل البالغة الأهمية؛ من المكان والأجواء وتحصين نفسه وإرهاقنا بالصمود والاستبسال أمام ضرباته، لكن كسرت المقاومة الفلسطينية المعادلة تماما، محت من الوجود معنى التفوق الصهيوني والغربي على العقلية العربية، بل إننا نستطيع تكرار الخيبة على أعدائنا مرتين في نفس التوقيت خلال 50 عاما دون أن يعي الدرس أو يستوعبه أو حتى يتفهمه، وإن كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات كاد يضيّع انتصار 10 رمضان/ 6 أكتوبر 1973م فإن المقاومة لن تكرر ذلك!

يريد البعض تلبيس الأمور على الأمة أكثر بإفهام فصائل المقاومة بأن الصمت وتقبل الواقع خير وسيلة لبقاء الآمنين والصغار والنساء على قيد الحياة، إلا أنهم لا يفهموننا: أي حياة هي؟ يُقتلُ الفلسطينيون عند المسجد الأقصى والمعابر بدم بارد كالثلج؛ من جنود تجمعوا في فلسطين ليهينوا الدم العربي دون أن يخافوا ردعا أو حتى مجرد رد..

أهي حياة منزوعة الكرامة والفاعلية معا؟ يرتع العدو تحت ضغط السلاح في ربوعنا هناك، يُغتال منا مجرد الشعور بالبقاء على قيد الحياة، نستهلك الحياة أو تستهلكنا دون أمل في ردعه أو إيقاف مخططاته، فإذا ما همَّ بعض من الأمة بالبدء في المنحنى التصاعدي الطويل لدحره راح البعض يلومهم ويكرر على مساعنا وجوب المسالمة للنجاة، ورحم الله المتنبي إذ يقول:

يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ
وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ

وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني
وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ

تساهم المواقع الإخبارية مع مواقع التواصل في تجسيد شعورنا بانتظار دورنا في الفاعلية وتقديم شيء مادي ملموس بعد المقاطعة التي نتمنى دوامها واستمرار تفعيلها، يرانا صغارنا محملقين في الشاشات متمنين فعل شيء ما أمام حقيقة تكالب الأنظمة الغربية ضدنا، يستمر العدوان على المدنيين ومنع سُبل الحياة عنهم.. كبر صغارنا وصاروا شبابا، نضج هذا الجيل الذي طالما تمنى غيرنا أن يتناسى قضاياه وعلى رأسها فلسطين، تسألنا أعينهم: ماذا نحن فاعلون أمام دموع الصغار اليتامى والكبار المفجوعين في أطفالهم وأقرانهم إن لم يكن آباؤهم أو أندادهم؟

نختزل الرد داخل أنفسنا، يقوى يقيننا بعدالة وقوة قضيتنا مع اكتمال تجرد العدو من كل معاني الإنسانية، وصمت وتواطؤ الغرب رسميا في القرن الحادي والعشرين مع جريمة بشعة في حق قطاع غزة كله، وإن يوم عودة حضارتنا ليؤذن بالإشراق ومحو لحظة عربية طالت وحضارة مادية ربضت على صدر العالم فجعلتنا نمر بأحداث مريرة، ويوم تسود حضارتنا مجددا -بإذن الله- ستعرف الأرض معاني العدل واستحقاق المحاسبة والأمن الحقيقيين.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة فلسطين المقاومة الإنسانية فلسطين غزة الاحتلال المقاومة الإنسانية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

غزة تكسر غطرسة الصهاينة.. انتصار الإرادة على السلاح

 

 

 

عباس المسكري

 

بعد أكثر من عامين من القتال الشرس والدمار الهائل، سجّلت غزة صفحة جديدة في سجل الصمود العربي، حين أجبرت رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو على التراجع والبدء في الانسحاب من القطاع، بعدما كان يتوعّد باحتلاله الكامل و«إنهاء المقاومة إلى الأبد»، لكن كما جرت العادة في تاريخ هذه الأرض الصلبة، سقطت حسابات القوة أمام عزيمة لا تُقهر، وانهارت أوهام التفوق العسكري أمام إرادة شعب لم يعرف إلا الصمود، ليثبت للعالم أن الشعوب الحرة لا تُهزم مهما طال زمن الحصار والعدوان.

منذ بداية العدوان، راهن نتنياهو على أنَّ آلة الحرب المتطورة ستخضع غزة في أسابيع، وأن الحصار والدمار سيفككان جبهة المُقاومة من الداخل، ودعمه في ذلك حلفاؤه في واشنطن وبعض العواصم الغربية، الذين منحوه الغطاء السياسي والسلاح المتطور، ظنًّا منهم أنَّ الانتصار سيكون سريعًا وحاسمًا، ولكن ما جرى على الأرض كان عكس ذلك تمامًا، فقد تحوّلت غزة إلى ميدان يبتلع الجنود والدبابات، وتحوّل كل شارع وحي إلى معركة مفتوحة أربكت حسابات الاحتلال وأرهقت جيشه، لتتحطم غطرسة القوة على صخرة الصمود الشعبي والمقاوم.

ولم يكن صمود المقاومة في غزة معزولًا عن محيطها المقاوم؛ بل وجدت في الأمة امتدادًا يسندها ويشد من أزرها، من لبنان إلى العراق، ومن إيران إلى اليمن، امتد خندق المقاومة واتسع نطاق المعركة، وبرَز الدور اليمني بشكلٍ خاص كعاملٍ قلب الموازين الإقليمية، حين انطلقت الصواريخ والمُسيَّرات من صنعاء باتجاه البحر الأحمر والعمق والموانئ الإسرائيلية؛ ففرضت معادلة جديدة جعلت الاحتلال يشعر أن النَّار تقترب من خاصرته البحرية والتجارية. ولقد أربكت تلك الضربات حسابات تل أبيب ودفعت نتنياهو إلى إعادة التفكير في جدوى استمرار الحرب، بعد أن تحولت المعركة من حدود غزة إلى مساحة جغرافية أوسع تهدد أمنه الاقتصادي والإستراتيجي. وهكذا، لم يكن رضوخ نتنياهو لخطة السلام إلّا نتيجة مباشرة لتكامل جبهات المقاومة وتنسيقها؛ حيث لم تعد المعركة تخص غزة وحدها؛ بل الأمة بأكملها التي نهضت من سباتها وأعلنت أن زمن الهيمنة قد ولّى.

ولم يكن صمود غزة مجرد ردّ فعل غاضب؛ بل ثمرة إعداد طويل وعقيدة قتالية راسخة تؤمن بأن المعركة ليست توازن قوى؛ بل صراع إرادة، فمن الأنفاق إلى الصواريخ الدقيقة، ومن الكمائن المُحكمة إلى الهجمات المفاجئة، استطاعت المقاومة أن تُبقي الاحتلال في حالة استنزاف دائم، فتكسَّرت هيبته العسكرية أمام العالم، ولم تفلح محاولات نتنياهو في كسر الحاضنة الشعبية للمقاومة؛ بل زاد القصف والحصار الشعبَ إصرارًا على الصمود، لتتحول كل بيتٍ في غزة إلى جبهة دعم معنوي وميداني.

قرار نتنياهو بالانسحاب من غزة لم يكن خطوة تكتيكية كما يحاول أن يصورها؛ بل اعترافا ضمنيا بالفشل والهزيمة؛ فلقد تهاوت أسطورته السياسية التي بناها على «الأمن والقوة»، وبدأت الانقسامات داخل المؤسسة الإسرائيلية تظهر بوضوح بين قادة الجيش والحكومة، وسط غضب شعبي متزايد من الخسائر البشرية والمادية التي تكبّدها الاحتلال دون تحقيق أي هدف حقيقي، ولقد أرادها حربًا تُعيد له مجده السياسي، فإذا بها تتحول إلى بوابة سقوطه الأخلاقي والعسكري، وتكشف زيف خطابه أمام الداخل الإسرائيلي والعالم.

ورغم هذا الانتصار العظيم والمُشرِّف، يخرج علينا من سراديب اللغط السياسي من غُسلت عقولهم بما يمليه عليهم علماء السلاطين، مدّعين أن المقاومة لم تنتصر ويتجاهلون عن عمد أن الاحتلال ينسحب تحت النار، وأن غزة التي أرادوا إخضاعها أصبحت عنوانًا للعزة والكرامة، أولئك الذين اعتادوا تبرير الضعف باسم الواقعية والاعتدال، لا يرون في صمود الشعوب إلّا تهورًا، ولا في مقاومة المحتل إلا مغامرة، لأنهم فقدوا البوصلة منذ زمن، ونسوا أن الكرامة لا تُشترى بالمناصب ولا تُقاس بحسابات الربح والخسارة.

وعلى الرغم من الرسائل المسمومة التي كانت تتدفق من منابر العرب المُتصهينين، أولئك الذين وصفوا المقاومة بأبشع الأوصاف وتطاولوا على تضحياتها، غير أن ذلك لم يزد رجالها إلّا إيمانًا بالله ثم بقضيتهم المقدسة، فكلما اشتدت الحملة الإعلامية ضدهم، ازدادوا ثباتًا وإصرارًا على المضيّ في الطريق الذي رسموه بالدم واليقين؛ لأنهم يعلمون أن الحق لا يُقاس بعدد المؤيدين؛ بل بصدق الإيمان به، وبقدرة المؤمنين على التضحية في سبيله.

إن ما حدث في غزة ليس مجرد تراجع عسكري للاحتلال؛ بل انتصار للإنسان الفلسطيني الذي أثبت للعالم أن القوة لا تقهر الشعوب الحرة، وأن الاحتلال مهما أمتلك من سلاحٍ ودعمٍ دولي، يبقى هشًّا أمام إرادة البقاء والحرية، ولقد قدّمت غزة للعالم درسًا جديدًا في الصمود، ورسالة واضحة مفادها أن الاحتلال لا يمكن أن يستمر في وجه أمة تؤمن بحقها في الحياة والكرامة، وأن الشعوب التي تعرف طريقها إلى الحرية لا تُهزم مهما اشتد البلاء.

اليوم، حين ينسحب نتنياهو من غزة مكسور الأنف، يدرك الجميع أن معادلة الصراع قد تغيّرت، فغزة الصغيرة المحاصرة انتصرت على أعتى قوة في المنطقة، لا بالعدد ولا بالعدة؛ بل بالإيمان والوعي والكرامة، وسيبقى صوت غزة شاهدًا على أن الشعوب الحرة لا تُهزم، وأن من خان القضية سيظل في مزبلة التاريخ، مهما علا صوته في زمن الانكسار.

مقالات مشابهة

  • “الجبهة الشعبية”: دماء القادة اليمنيين التي امتزجت بدماء غزة ولن تذهب هدراً
  • مواقع عبرية: الأسلحة التي سلمها الجيش للعملاء بغزة سقطت بيد القسام
  • ما قصة جثة خليل دواس التي أثارت الجدل بين حماس وإسرائيل؟
  • بريطانيا تحاكم أشخاصا بتهمة دعم حركة تؤيد فلسطين
  • الاحتلال يعترف بهوية الجثة الرابعة التي تسلمها أمس من المقاومة أمس
  • خبراء: التضامن الدولي مع فلسطين يتزايد بعد 7 أكتوبر والمقاومة اكتسبت مزيدا من الشرعية
  • غزة تكسر غطرسة الصهاينة.. انتصار الإرادة على السلاح
  • الفاشر تحت القصف.. وتنسيقية لجان المقاومة تؤكد: “الأرواح التي ماتت بصمت لن تُنسى وهذا الخذلان لن يُمحى”
  • ترامب: الباب مفتوح أمام قيام دولة فلسطين
  • تحضيرًا لكأس العرب.. المنتخب الرديف يسقط أمام فلسطين وديًا