عباس المسكري

 

بعد أكثر من عامين من القتال الشرس والدمار الهائل، سجّلت غزة صفحة جديدة في سجل الصمود العربي، حين أجبرت رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو على التراجع والبدء في الانسحاب من القطاع، بعدما كان يتوعّد باحتلاله الكامل و«إنهاء المقاومة إلى الأبد»، لكن كما جرت العادة في تاريخ هذه الأرض الصلبة، سقطت حسابات القوة أمام عزيمة لا تُقهر، وانهارت أوهام التفوق العسكري أمام إرادة شعب لم يعرف إلا الصمود، ليثبت للعالم أن الشعوب الحرة لا تُهزم مهما طال زمن الحصار والعدوان.

منذ بداية العدوان، راهن نتنياهو على أنَّ آلة الحرب المتطورة ستخضع غزة في أسابيع، وأن الحصار والدمار سيفككان جبهة المُقاومة من الداخل، ودعمه في ذلك حلفاؤه في واشنطن وبعض العواصم الغربية، الذين منحوه الغطاء السياسي والسلاح المتطور، ظنًّا منهم أنَّ الانتصار سيكون سريعًا وحاسمًا، ولكن ما جرى على الأرض كان عكس ذلك تمامًا، فقد تحوّلت غزة إلى ميدان يبتلع الجنود والدبابات، وتحوّل كل شارع وحي إلى معركة مفتوحة أربكت حسابات الاحتلال وأرهقت جيشه، لتتحطم غطرسة القوة على صخرة الصمود الشعبي والمقاوم.

ولم يكن صمود المقاومة في غزة معزولًا عن محيطها المقاوم؛ بل وجدت في الأمة امتدادًا يسندها ويشد من أزرها، من لبنان إلى العراق، ومن إيران إلى اليمن، امتد خندق المقاومة واتسع نطاق المعركة، وبرَز الدور اليمني بشكلٍ خاص كعاملٍ قلب الموازين الإقليمية، حين انطلقت الصواريخ والمُسيَّرات من صنعاء باتجاه البحر الأحمر والعمق والموانئ الإسرائيلية؛ ففرضت معادلة جديدة جعلت الاحتلال يشعر أن النَّار تقترب من خاصرته البحرية والتجارية. ولقد أربكت تلك الضربات حسابات تل أبيب ودفعت نتنياهو إلى إعادة التفكير في جدوى استمرار الحرب، بعد أن تحولت المعركة من حدود غزة إلى مساحة جغرافية أوسع تهدد أمنه الاقتصادي والإستراتيجي. وهكذا، لم يكن رضوخ نتنياهو لخطة السلام إلّا نتيجة مباشرة لتكامل جبهات المقاومة وتنسيقها؛ حيث لم تعد المعركة تخص غزة وحدها؛ بل الأمة بأكملها التي نهضت من سباتها وأعلنت أن زمن الهيمنة قد ولّى.

ولم يكن صمود غزة مجرد ردّ فعل غاضب؛ بل ثمرة إعداد طويل وعقيدة قتالية راسخة تؤمن بأن المعركة ليست توازن قوى؛ بل صراع إرادة، فمن الأنفاق إلى الصواريخ الدقيقة، ومن الكمائن المُحكمة إلى الهجمات المفاجئة، استطاعت المقاومة أن تُبقي الاحتلال في حالة استنزاف دائم، فتكسَّرت هيبته العسكرية أمام العالم، ولم تفلح محاولات نتنياهو في كسر الحاضنة الشعبية للمقاومة؛ بل زاد القصف والحصار الشعبَ إصرارًا على الصمود، لتتحول كل بيتٍ في غزة إلى جبهة دعم معنوي وميداني.

قرار نتنياهو بالانسحاب من غزة لم يكن خطوة تكتيكية كما يحاول أن يصورها؛ بل اعترافا ضمنيا بالفشل والهزيمة؛ فلقد تهاوت أسطورته السياسية التي بناها على «الأمن والقوة»، وبدأت الانقسامات داخل المؤسسة الإسرائيلية تظهر بوضوح بين قادة الجيش والحكومة، وسط غضب شعبي متزايد من الخسائر البشرية والمادية التي تكبّدها الاحتلال دون تحقيق أي هدف حقيقي، ولقد أرادها حربًا تُعيد له مجده السياسي، فإذا بها تتحول إلى بوابة سقوطه الأخلاقي والعسكري، وتكشف زيف خطابه أمام الداخل الإسرائيلي والعالم.

ورغم هذا الانتصار العظيم والمُشرِّف، يخرج علينا من سراديب اللغط السياسي من غُسلت عقولهم بما يمليه عليهم علماء السلاطين، مدّعين أن المقاومة لم تنتصر ويتجاهلون عن عمد أن الاحتلال ينسحب تحت النار، وأن غزة التي أرادوا إخضاعها أصبحت عنوانًا للعزة والكرامة، أولئك الذين اعتادوا تبرير الضعف باسم الواقعية والاعتدال، لا يرون في صمود الشعوب إلّا تهورًا، ولا في مقاومة المحتل إلا مغامرة، لأنهم فقدوا البوصلة منذ زمن، ونسوا أن الكرامة لا تُشترى بالمناصب ولا تُقاس بحسابات الربح والخسارة.

وعلى الرغم من الرسائل المسمومة التي كانت تتدفق من منابر العرب المُتصهينين، أولئك الذين وصفوا المقاومة بأبشع الأوصاف وتطاولوا على تضحياتها، غير أن ذلك لم يزد رجالها إلّا إيمانًا بالله ثم بقضيتهم المقدسة، فكلما اشتدت الحملة الإعلامية ضدهم، ازدادوا ثباتًا وإصرارًا على المضيّ في الطريق الذي رسموه بالدم واليقين؛ لأنهم يعلمون أن الحق لا يُقاس بعدد المؤيدين؛ بل بصدق الإيمان به، وبقدرة المؤمنين على التضحية في سبيله.

إن ما حدث في غزة ليس مجرد تراجع عسكري للاحتلال؛ بل انتصار للإنسان الفلسطيني الذي أثبت للعالم أن القوة لا تقهر الشعوب الحرة، وأن الاحتلال مهما أمتلك من سلاحٍ ودعمٍ دولي، يبقى هشًّا أمام إرادة البقاء والحرية، ولقد قدّمت غزة للعالم درسًا جديدًا في الصمود، ورسالة واضحة مفادها أن الاحتلال لا يمكن أن يستمر في وجه أمة تؤمن بحقها في الحياة والكرامة، وأن الشعوب التي تعرف طريقها إلى الحرية لا تُهزم مهما اشتد البلاء.

اليوم، حين ينسحب نتنياهو من غزة مكسور الأنف، يدرك الجميع أن معادلة الصراع قد تغيّرت، فغزة الصغيرة المحاصرة انتصرت على أعتى قوة في المنطقة، لا بالعدد ولا بالعدة؛ بل بالإيمان والوعي والكرامة، وسيبقى صوت غزة شاهدًا على أن الشعوب الحرة لا تُهزم، وأن من خان القضية سيظل في مزبلة التاريخ، مهما علا صوته في زمن الانكسار.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

غزة.. انتصار الكرامة وتوحد الإنسانية

 

 

 

صالح بن سعيد الحمداني

 

ها هي غزة تلك البقعة الصغيرة على خارطة العالم تعود من تحت الركام شامخة كعهدها تحمل في ملامحها حكاية أمةٍ تنبض من جديد في عروقها الكرامة والإيمان ولم تمت، توقفت أصوات القنابل وخفت دويّ الصواريخ، لكنّ صوت النصر ارتفع من بين أنقاض البيوت ومن صدور الأمهات والآباء والأطفال، يُعلن أن غزة العزة لم تنكسر، وأنَّ المقاومة سطّرت صفحة جديدة من تاريخ الصمود العربي والإسلامي والإنساني.

لقد عمّت الفرحة المدن العربية والإسلامية وتسابقت القلوب قبل الكلمات في التعبير عن الفخر والاعتزاز بما أنجزه أبطال المقاومة في وجه آلة الدمار التي أرادت أن تطفئ نور الحياة في غزة لكنها لم تدرك أنَّ هذا الشعب الذي عاش على وقع الحصار والحرمان لسنوات طويلة لا يعرف الانحناء ولن يعرفه لأنهم أحفاد أبطال سطروا التاريخ بدمائهم وكرامتهم وبطولاتهم التي تغذي جيلًا بعد جيل معنى كل هذه المعاني السامية.

لم يكن انتصار غزة فرحة تخص الفلسطينيين وحدهم ولكنه عيد تتقاسمه الأمة بأسرها فرحة عمَّت القلوب في شوارع كل مدينة عربية وإسلامية بل والعالم أجمع، حيث الأحرار الذين سطروا للإنسانية صورًا مشرقة بمظاهراتهم ووقفاتهم، عمت الفرحة كل مدينة وخرجت الأصوات بالدعاء والتهليل رافعة راية المقاومة مشيدة ببطولة أولئك الذين واجهوا الموت بصدورهم العارية وإيمانهم الراسخ، في الأزقة الشعبية كما في الجامعات والمقاهي كانت غزة حديث الناس ومصدر إلهامٍ للأجيال الجديدة التي رأت في المقاومة درسًا في الكرامة والسيادة والإصرار. أما في العواصم الإسلامية فقد امتزجت الدموع بالفرح؛ إذ شعر المسلمون بأن جرح فلسطين هو جرحهم، وأن نصرها نصر لهم، وأن كل طلقة صمود أطلقت في وجه العدوان كانت دفاعًا عن عقيدة وعن أمةٍ بأكملها.

حتى أولئك الذين قد يكونون بعيدين عن الجغرافيا، لم يكونوا بعيدين عن الوجدان، فكُل إنسان حُر في هذا العالم أحسّ أن غزة لا تدافع عن نفسها فقط، وإنما عن قيمة الإنسان عن حقه في الحياة والكرامة وعن معاني العدالة التي حاولت القوى الظالمة طمسها لعقود طويلة، لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية- بكل فصائلها وتنوعها- أن الإرادة أقوى من السلاح وأن العدل أقوى من الطغيان وصمدت في وجه أعتى الجيوش وأحدث التقنيات العسكرية لكنها كانت تمتلك ما لا يمكن قياسه بالمقاييس المادية الإيمان، إيمانٌ بعدالة القضية وبأنَّ النصر وعدٌ من الله لا يتحقق إلا بالصبر والثبات.

سقط الشهداء نعم، لكنهم ارتقوا وهم يرسمون ملامح مستقبلٍ جديدٍ للأمة، قادةٌ تركوا خلفهم وصاياهم بأن لا تُرفع راية الاستسلام ونساءٌ قدمن أبناءهن فداءً للوطن وشيخٌ يبتسم وسط الركام لأنه يعلم أنَّ الدم الطاهر لا يذهب سدى. أما الأطفال الذين حملوا حجارتهم الصغيرة في وجه الدبابات فقد علموا العالم كله أن الطفولة في غزة تولد وهي تعرف معنى البطولة، لقد تعلمنا من أولئك الأطفال الأبطال معنى الشجاعة وقول كلمة الحق وعدم الخنوع والجبن والعار.

إنَّ هذا النصر لم يكن عسكريًا فحسب، لقد كان نصرًا للروح والإيمان والإنسانية؛ إذ أعاد التوازن إلى الضمير العالمي وأجبر كثيرًا من الإعلام المُضلِّل على أن يُراجع روايته بعدما رأى الملايين حول العالم الحقيقة كما هي شعبٌ أعزل يقاتل من أجل حريته في مواجهة احتلالٍ لا يعرف سوى لغة القوة والعقاب الجماعي، وعندما توقفت الحرب تنفست الأمهات في غزة الصعداء، لكن الدموع لم تتوقف فقد كانت دموعًا من نوعٍ آخر دموع الفرح المشوب بالحزن والاعتزاز الممتزج بالحنين إلى الشهداء.

في كل بيتٍ غزّي، حكاية فخر وفي كل شارعٍ لوحة من بطولاتٍ لا تُحصى، وتحت وأسفل كل ركام جثث ما زالت تنتظر الدفن والإكرام، كل شبر في غزة يتحدث عن بطولات وظلم وعربدة وبطش، ولكن كان هناك رب يحفظ عباده، وعباد تمسكوا بوعد ربهم؛ فنالوا الكرامة؛ فالشهيد عند ربه مُكرَّم، والبطل يعيش ملامح النصر، ولا عزاء لكل صهيوني ملعون.

أما في العالم العربي والإسلامي، فقد كان وقف الحرب بمثابة لحظة صحوة، شعر الكثيرون أن الأمة لا تزال حيّة، رغم محاولات التشويه وإشاعة اليأس، وأن فلسطين لا تزال البوصلة التي يمكن أن توحد الصفوف، مهما تفرقت السياسات واختلفت الأجندات. لقد جاءت فرحة النصر في غزة لتوقظ الضمائر، ولتذكِّرنا أنَّ العروبة ليست شعارًا، لكنها موقف، وأن الإسلام ليس طقوسًا فحسب، وإنما قيم عدل ورحمة ونصرة للمظلوم. ولذا رأينا كيف تفاعل الناس من كل الأديان والألوان من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية مع مأساة غزة، وكيف تحوّلت المعاناة إلى منصةٍ عالمية للحق والحرية، فكان انتصار الإنسانية قبل السياسة.

ما حدث في غزة لم يكن مجرد نصر عسكري أو سياسي، وإنما نصر أخلاقي وإنساني بكل المقاييس. لقد فضحت الحرب القيم الزائفة التي ترفعها بعض الدول تحت شعارات "حقوق الإنسان"، بينما كانت تتواطأ بالصمت أو الدعم للعدوان. وفي المقابل أضاءت غزة وجه الإنسانية الحقيقي، حين توحدت الشعوب الحرة من المسلمين والمسيحيين واليهود الأحرار والملحدين في رفض الظلم والمطالبة بوقف القتل، فكُل لافتة رُفعت في لندن أو نيويورك أو جوهانسبرج، كانت تقول بصوت واحد "غزة ليست وحدها".

لقد انتصرت الإنسانية حين رأى العالم أن هناك من لا يبيع مواقفه، وأن الضمير الإنساني لا يزال قادرًا على الحياة، رغم كل محاولات التزييف. غزة اليوم تتحول من وجع الحصار إلى فجر الكرامة، وستبقى غزة رمزًا للكرامة العربية وصوتًا لا يخبو في ذاكرة الأمة؟ لقد علَّمت غزة الجميع أن النصر لا يأتي من قصور السياسة، ولا من موائد المفاوضات؛ بل من الميدان ومن صبر الأمهات ومن سواعد المقاتلين ومن دماء الشهداء التي تكتب التاريخ بمدادٍ من العزة. وها هو العالم اليوم يرى أن الواقع قد تغيّر. لقد أثبتت المقاومة أنها رقمٌ صعب لا يمكن تجاوزه وأن إرادة الشعوب أقوى من أي تطبيعٍ أو تواطؤٍ أو خذلان، وأن نصر غزة هو نصر لكل حُر ولكل قلبٍ ما زال يؤمن أن الحق لا يموت مهما طال ليله.

 

وبعد عامين من المذابح والتهجير والجوع والعطش والحرمان والحصار، نعيش فرحة وقف الحرب وانتصار المقاومة لا نحتفل بنهاية معركة فقط، وإنما ببداية وعيٍ جديد.. وعيٌ بأن الأمل لا يموت، وأن الشعوب الحرة قادرة على صنع التاريخ، متى ما آمنت بعدالة قضاياها وتمسكت بوحدتها. غزة لم تنتصر وحدها، فقد انتصرت الأمة فيها، وانتصر الإنسان في كل مكان، وستظل كلماتها خالدة في وجداننا "هنا صمدنا وهنا قاومنا وهنا انتصرنا لأننا آمنا بالله أولًا وبأن الحرية لا تُمنح؛ بل تُنتزع بدماء الأحرار".

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • نائب الأمين العام لحركة “الجهاد”: فصائل المقاومة لم توافق على نزع السلاح
  • حركة الجهاد: المقاومة الفلسطينية لم توافق على أي بند لنزع السلاح
  • محلل سياسي: صفقة “طوفان الأحرار” انتصار تاريخي للمقاومة في معركة الإرادة والاستخبارات
  • تحليل: صفقة نهاية حرب غزة أسقطت أهدافها و"نتنياهو" رضخ للمقاومة
  • صفقة نهاية حرب غزة أسقطت أهدافها و"نتنياهو" رضخ للمقاومة صاغرًا
  • تحليل: صفقة نهاية حرب غزة أسقطت أهدافها و"نتنياهو" رضخ للمقاومة صاغرًا
  • أحمد موسى: نتنياهو فشل في إعادة الرهائن رغم الإبادة التي قام بها
  • غزة.. انتصار الكرامة وتوحد الإنسانية
  • غزة.. أسطورة الصمود التي كسرت هيبة الاحتلال وأعادت للحق صوته