السومرية نيوز – دوليات

بات من الجلي انتهاك إسرائيل للقانون الدولي وحقوق الإنسان، في حربها التي تشنها على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وذلك بعد نزعها مقومات الحياة عن الشعب الفلسطيني، واستهدافها للمدنيين المُلزمة بحمايتهم أمام المواثيق والإتفاقيات الدولية.
وإتفاقية جنيف هي سلسلة من المعاهدات الدولية المبرمة في جنيف، بين عامي 1864 و1949، بهدف حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.

وتمت الموافقة على بروتوكولين إضافيين لاتفاقية 1949 في عام 1977.

وتعرّف الاتفاقية الشخص المدني الذي من حقه الحماية، بأنه ذلك الشخص الذي في لحظة ما، وبأي شكل من الأشكال، يجد نفسه في حالة قيام نزاع أو احتلال في أيدي طرف في النزاع.

طرح فكرة الاتفاقية وإنشاؤها
ويلات الحرب والخسائر البشرية الفادحة ولّدت الفكرة


ارتبط تطور اتفاقيات جنيف ارتباطاً وثيقاً بالصليب الأحمر، وبمؤسِّسه هنري دونان، أول فائز بجائزة نوبل للسلام في العالم، وهو رجل أعمال وناشط اجتماعي.

وقد بادر هنري بطرح فكرة إبرام معاهدة دولية تحكم الحرب، بعد أن شاهد معاناة الجنود الجرحى في معركة "سولفرينو" في عام 1859، في شمال إيطاليا، خلال الحرب الفرنسية النمساوية.
وكانت الحرب الأهلية في أمريكا في ذلك الوقت قد أسفرت عن مقتل ما بين 600 ألف ومليون شخص في 4 سنوات فقط.

كما كانت أوروبا في تلك الحقبة تعيش سلسلةً من الحروب، بسبب صراع القوى العظمى في الشرق الأوسط، وكانت الخسائر البشرية هائلة، حيث لقي 25 ألف بريطاني، و100 ألف فرنسي، وما يصل إلى مليون روسي حتفهم، وكلهم تقريباً بسبب المرض والإهمال.

في عام 1863، تمكَّن دونان من إنشاء لجنة تستكشف إمكانية وجود منظمة دولية خاصة تقدم المساعدات الإنسانية للجنود الجرحى، والتي أصبحت في نهاية المطاف لجنة الصليب الأحمر الدولية.

التصديق على اتفاقية جنيف 1949
تم التصديق على اتفاقية عام 1864 في غضون ثلاث سنوات من قِبل جميع القوى الأوروبية الكبرى، بالإضافة إلى العديد من الدول الأخرى، على غرار الولايات المتحدة، والبرازيل، والمكسيك.

ثم تم تعديل الاتفاقية وتوسيع نطاقها بموجب اتفاقية جنيف الثانية عام 1906، وتم تطبيق أحكامها على الحرب البحرية من خلال اتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و1907.

ونصّت اتفاقية جنيف الثالثة، المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب (1929)، على الحصانة من الاستيلاء والتدمير لجميع المنشآت المخصصة لعلاج الجرحى والمرضى من الجنود والعاملين فيها، كما شددت على الاستقبال المحايد لجميع المقاتلين وعلاجهم، وأيضاً وفّرت حماية للمدنيين الذين يقدمون المساعدة للجرحى.

اتفاقيات جنيف 1949 الأربع بعد الحرب العالمية الثانية
وبحسب موقع BRITANNICA قام مؤتمر الصليب الأحمر الدولي في ستوكهولم، عام 1948، بتوسيع وتدوين الأحكام القائمة، وذلك بعدما اتهمت عدة دول بانتهاك بنودها في الحرب العالمية الثانية، فقد أضيف إليها على سبيل المثال بند يؤكد على ضرورة "حماية كرامة الأسرى الشخصية".

وضع المؤتمر أربع اتفاقيات تمت الموافقة عليها في جنيف، في 12 أغسطس/آب 1949:

اتفاقية جنيف الأولى لحماية الجرحى في الحرب البريّة

هذه الاتفاقية تمثل النسخة المنقحة الرابعة لاتفاقية جنيف، بشأن الجرحى والمرضى، وتعقب الاتفاقيات التي تم اعتمادها في 1864 و1906 و1929 وتضم 64 مادة. وتشمل الاتفاقية أيضاً موظفي الصحة، والوحدات الدينية، والوحدات الطبية، ووسائل النقل الطبي. كما تعترف الاتفاقية بالشارات المميزة، وتضم ملحقَيْن اثنين يشملان مشروع اتفاق بشأن مناطق المستشفيات، وبطاقة نموذجية لموظفي الصحة والدين.

اتفاقية جنيف الثانية لحماية الناجين من السفن الغارقة في وقت الحرب

جاءت لتحلّ محل اتفاقية لاهاي لعام 1907، المخصصة لحماية الجرحى والمرضى الجنود والمدنيين على حد سواء في حالة الحرب البحرية. وهي شبيهة في أحكامها إلى حدٍّ كبير بالأحكام الواردة في اتفاقية جنيف الأولى، من حيث الهيكل والمحتوى.

وتضم 63 مادة تنطبق على وجه التحديد على الحرب البحرية، حيث توفر الحماية، على سبيل المثال، للسفن المستشفيات. كما تضم الاتفاقية ملحقاً يحوي نموذج بطاقة خاصاً بالموظفين الطبيين والدينيين.

اتفاقية جنيف الثالثة لحماية أسرى الحرب
حلَّت هذه الاتفاقية محل اتفاقية أسرى الحرب لعام 1929. وتضم 143 مادة، في حين اقتصرت اتفاقية 1929 على 97 مادة فقط.

وسَّعت الاتفاقية فئات الأشخاص الذين لهم الحق في التمتع بوضع أسرى الحرب طبقاً للاتفاقيتين الأولى والثانية.

كما عرَّفت الاتفاقية أسرى الحرب بشكل أدق، نظراً لظروف الاعتقال، ومكانه، ومواردهم المالية، والإعانات التي يتسلمونها، والإجراءات القضائية المتخذة ضدهم.

وقد أقرت الاتفاقية مبدأ إطلاق سراح الأسرى، وإعادتهم إلى وطنهم من دون تأخير بعد انتهاء الأعمال العدائية.

وتضم الاتفاقية أيضاً خمسة ملاحق، تضم لوائح النماذج المختلفة، وبطاقات التعريف، وبطاقات أخرى.

وتحظر الاتفاقية ترحيل الأفراد أو الجماعات، وأخذهم كرهائن، والتعذيب، والعقاب الجماعي، والجرائم التي تشكل "اعتداء على الكرامة الشخصية"، وفرض الأحكام القضائية (بما في ذلك عمليات الإعدام)، دون ضمانات الإجراءات القانونية الواجبة، ومعاملة التمييز العنصري على أساس العرق أو الدين أو الجنسية أو المعتقدات السياسية.

حروب الاستقلال تفرض بروتوكولات إضافية لاتفاقية جنيف 1949
اتفاقيات جنيف لم تعد كافية لحماية المدنيين في النزاعات


في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، أي بعد عام 1945، لم تعد اتفاقيات جنيف كافية لحماية المدنيين في النزاعات.
حيث عُرف ذلك العصر بتراجع القوى العظمى القديمة وصعود قوتين عظميين، هما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وبعد أن كانا حليفين أثناء الحرب العالمية الثانية أصبحا متنافسين على الساحة العالمية.

كما كانت نهاية الحرب البداية لنهاية الاستعمار، وظفر دول كثيرة حول العالم باستقلالها، حيث استقلت الهند من بريطانيا، واستقلت إندونيسيا من هولندا، والفلبين من أمريكا، كما استقل عدد من الدول العربية من حكم الانتداب الذي فُرض عليها من قبل القوى العظمى.

قُتل الملايين من البشر، وشُرِّد ملايين آخرون، ناهيك عن انهيار الاقتصاد الأوروبي، ودمار كبير للبنية التحتية الصناعية الأوروبية.

بروتوكولان إضافيان لاتفاقيات جنيف 1949 لحماية المدنيين

بعد أربع سنوات من المفاوضات التي رعاها الصليب الأحمر، تمت الموافقة في عام 1977 على بروتوكولين إضافيين لاتفاقيات عام 1949، ينصّان على حماية الجنود والمدنيين على السواء.

وتتناول معظم مواد الاتفاقية مسائل وضع الأشخاص المتمتعين بالحماية ومعاملتهم، وتميز وضع الأجانب في إقليم أحد أطراف النزاع، ووضع المدنيين في الإقليم المحتل.

وتوضح مواد الاتفاقية أيضاً التزامات قوة الاحتلال تجاه السكان المدنيين، وتضم أحكاماً تفصيلية بشأن الإغاثة الإنسانية في الإقليم المحتل. كما تضم نظاماً معيناً لمعاملة المعتقلين المدنيين، وثلاثة ملحقات تضم نموذج اتفاقية بشأن المستشفيات والمناطق الآمنة، ولوائح نموذجية بشأن الإغاثة الإنسانية، وبطاقات نموذجية.

مجالات تطبيق إتفاقية جنيف 1949
الدول الأطراف في اتفاقية جنيف 1949


دخلت اتفاقيات جنيف حيز التنفيذ، في 21 أكتوبر/تشرين الأول 1950، واستمر التصديق عليها طوال عقود، حيث صادقت 74 دولة على الاتفاقيات في الخمسينيات، و48 دولة في الستينيات، و20 دولة وقعت الاتفاقيات في السبعينيات، و20 دولة أخرى في الثمانينيات. وفي التسعينيات صادقت 26 دولة على الاتفاقيات، أغلبها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا السابقة. وبعد سبعة تصديقات جديدة منذ عام 2000، وصل عدد الدول الأعضاء إلى 194، لتكون بذلك اتفاقيات جنيف أكثر الاتفاقيات الواجبة التطبيق في العالم.

اتفاقية جنيف 1949 من التشريعات الوطنية إلى القوانين الدولية

وسَّعت جنيف اتفاقياتها عام 1949 عن طريق تقنين مبدأ "الاختصاص القضائي العالمي في قوانينها" بالمحاكم الوطنية، وبذلك يتسنى لها مقاضاة مرتكبي جرائم الحرب فيها حتى إن ارتكبت في بلاد أخرى.

وينص المبدأ على أن تتعهد "كل الدول بالبحث عن مرتكبي جرائم خطيرة معينة، منها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ومقاضاتهم، حتى إذا لم تكن للدول روابط مهمة بالمتهم أو بالأعمال التي ارتُكبت"، ولتطبيق ذلك على الدول أن تدمج هذا المفهوم في قوانينها الوطنية.

ونصّ القانون الدولي على أنَّ هذا النوع من الجرائم لا يتقادم، وذلك تفادياً للتهرب من العقاب المترتب عنها، ويصبح بذلك من الممكن محاكمة مخترقي القانون ولو بعد عقود.

وقد انعكست أهمية اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية في إنشاء محاكم جرائم الحرب ليوغوسلافيا (1993)، ورواندا (1994)، وفي نظام روما الأساسي (1998)، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية.

إتفاقية جنيف 1849: خروقات جسيمة من الدول العظمى
خرق أمريكا للاتفاقية في غزو العراق

خرقت أمريكا 7 بنود في اتفاقية جنيف خلال معركة الفلوجة، حيث قامت بمحاصرة الفلوجة والنجف وتطويقهما عسكرياً أولاً، ومن ثم توجيه العقوبات الجماعية لسكانهما، دون أي تمييز أو تحديد، ومن الأمثلة على هذه الحقيقة البديهية حلقات من الشهود التاريخيين، نشرتها شبكة "بي بي سي"، يروي فيها العقيد الأمريكي أندرو ميلبورن كيف كان يقاتل في معركة الفلوجة في العراق، عام 2004، حيث ذكر أن "المعركة التي شُنت في المدينة لإخضاع المقاومة شارك فيها 20 ألف عسكري أمريكي، تدعمهم الدبابات والطائرات، فيما سكان المدينة البالغ عددهم 250 ألف نسمة ليس فيهم سوى 2500 مقاتل فقط، وقت الهجوم، وفقاً لتقرير كانت قد نشرته صحيفة مورننغ ستار البريطانية.


جرائم الحرب ضد المدنيين في سوريا

بحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية، كان الفشل الكارثي في حماية المدنيين واضحاً في الغارة الجوية التي شنَّها التحالف بقيادة الولايات المتحدة على الرقة في سوريا، عام 2017، والتي خلَّفت أكثر من 1600 قتيل من المدنيين، وفي التدمير المتعمد الذي قامت به القوات الروسية والسورية للبنية التحتية المدنية والأرواح في حلب وإدلب وأماكن أخرى، ما أدى إلى نزوح جماعي للملايين، يرقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وحسب دوناتيلا روفيرا، كبيرة المستشارين في برنامج مواجهة الأزمات في منظمة العفو الدولية، فإن "العديد من عمليات القصف افتقرت إلى الدقة، بينما اتَّسمت عشرات آلاف عمليات القصف المدفعي بالعشوائية؛ لذا ليس من المستغرب أن يُقتل ويصاب مئات المدنيين"، كما نقل عنها التقرير المذكور.

غارات جوية على رؤوس المدنيين في الصومال

ولا يزال الصومال يعاني من أسوأ الأزمات المتعلقة بحقوق الإنسان والأزمات الإنسانية في العالم. لقد انتهكت جميع أطراف النزاع، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 لحماية المدنيين.

ورغم تكثيف ضرباتها الجوية في حربها السرية في الصومال، على مدى العامين الماضيين، فقد تقاعست الولايات المتحدة عن الاعتراف بوقوع ضحية مدنية واحدة، إلى أن دفعها تحقيق منظمة العفو الدولية إلى ذلك، حين كشفت

بأدلة دامغة تشمل الصور الفوتوغرافية، وشهادات شهود العيان، أن الغارات الجوية الأمريكية قتلت ما مجموعه 14 مدنياً، وأصابت 8 آخرين في 5 هجمات.

وذكرت أنه في إحدى الحالات أسفرت غارة جوية أمريكية على أرض زراعية، بالقرب من قرية دار السلام، عن مقتل ثلاثة مزارعين محليين في ساعات الصباح الباكر، يوم 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وكانوا يستريحون في العراء، بعد العمل خلال الليل في حفر قنوات الري.

الاحتلال الإسرائيلي يخرق اتفاقيات جنيف 1949 في عدوانه على غزة

استهدف الاحتلال الإسرائيلي المدنيين الفلسطينيين بشكل متكرر خلال العمليات العسكرية في غزة، منذ عام 2008، ما تسبب في دمار كبير وخسائر في الأرواح البشرية.   وفي عدوانها المكثف على قطاع غزة المحتل، منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لا تزال إسرائيل تواصل خروقاتها لاتفاقية جنيف 1949، وذلك عبر غاراتها العشوائية التي تسببت في سقوط أعداد كبيرة في صفوف المدنيين، وتدمير متعمد لممتلكاتهم ومستشفياتهم ومؤسساتهم التعليمية والدينية.

حيث أدّت عمليات القصف الجوي التي نفذها الاحتلال إلى دمار مروّع، وفي بعض الحالات قضت على عائلات بأكملها، ففي حوالي الساعة 8:20 مساءً، من يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، شنَّت القوات الإسرائيلية غارةً جويةً على مبنى سكني مكون من ثلاثة طوابق في حي الزيتون بمدينة غزة، حيث كانت تقيم ثلاثة أجيال من عائلة الدوس. وقُتل في الهجوم 15 من أفراد الأسرة، منهم سبعة أطفال، ومن بين الضحايا عوني وابتسام الدوس، وأحفادهما عوني (12 عاماً)، وابتسام (17 عاماً)، وعادل وإلهام الدوس وأبناؤهما الخمسة، وكان الطفل آدم، الذي لم يتجاوز عمره 18 شهراً، أصغر الضحايا، وفق تقرير منظمة العفو الدولية.

كما ذكرت هيومن رايتس ووتش استخدام الحكومة الإسرائيلية تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب في قطاع غزة، وهو ما يعد جريمة حرب تحظرها اتفاقيات جنيف 1949.

وقد أدلى المسؤولون الإسرائيليون بتصريحات علنية، أعربوا فيها عن هدفهم المتمثل في حرمان المدنيين في غزة من الغذاء والماء والوقود، فضلاً عن إعاقتهم عمداً عن الوصول للمساعدات الإنسانية، التي لا غنى عنها لبقائهم على قيد الحياة.

المصدر: السومرية العراقية

كلمات دلالية: الحرب العالمیة الثانیة منظمة العفو الدولیة أکتوبر تشرین الأول الولایات المتحدة لحمایة المدنیین حمایة المدنیین المدنیین فی جرائم الحرب أسرى الحرب فی عام

إقرأ أيضاً:

القدس.. الحرب التي لا تنتهي!

 

 

من خطة الاستيطان E1 إلى احتلال مدينة غزة، تعمل “إسرائيل” على تفكيك أيّ إمكانية لقيام دولة فلسطينية.
إنّ مساعي “إسرائيل” العدوانية لإعادة تشكيل جغرافيا وسياسة القدس والأراضي الفلسطينية الأوسع ليست عفوية ولا دفاعية. إنها نتيجة استراتيجية طويلة الأمد لمحو إمكانية السيادة الفلسطينية، التي يسعى إليها البعض في المجتمع الدولي مؤخراً، وفرض سردية إسرائيلية حصرية للسيطرة.
من القدس إلى غزة، تعمل كلّ خطوة مدمّرة من جانب “إسرائيل” على ترسيخ سلطتها، وتهجير الفلسطينيين، وزعزعة استقرار المنطقة. ومن دون تدخّل دولي جادّ، ستمتد العواقب إلى ما هو أبعد من الأرض المقدّسة.
أصبح هذا التحوّل جلياً في عام 2017م، عندما حطّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقوداً من الإجماع الدولي باعترافه بالقدس عاصمةً موحّدةً لـ “إسرائيل” ونقله السفارة الأمريكية إليها.
هذا الإجراء الأحادي، المُغلّف ضمن ما يُسمّى “صفقة القرن”، أعطى “إسرائيل” الضوء الأخضر لتسريع خططها في القدس.
توسّعت المستوطنات، وتضاعفت عمليات هدم منازل الفلسطينيين، وزادت القيود على الوصول إلى الأماكن المقدّسة. بالنسبة للفلسطينيين، لم يُقوّض إعلان ترامب حلّ الدولتين فحسب، بل قضى عليه تماماً.
فسّرت “إسرائيل” مباركة واشنطن على أنها ترخيص لترسيخ السيادة على القدس على حساب الوجود الفلسطيني وحقوقه. ولم تُسرّع خطوة ترامب سوى عملية كانت جارية بالفعل. فقد فرضت “إسرائيل” تدابير تهدف إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني في القدس وفرض سيطرتها الحصرية على أماكنه المقدّسة.
في عام 2015م، أشعلت القيود المفروضة على الوصول إلى المسجد الأقصى واقتحامات المستوطنين شرارة انتفاضة القدس، التي خلّفت آلاف الجرحى والمعتقلين والشهداء. بعد عامين، أثار تركيب البوابات الإلكترونية على مداخل الأقصى احتجاجات فلسطينية حاشدة، مما أجبر “إسرائيل” على التراجع المُحرج.
ومع ذلك، لم يتغيّر المسار الأوسع: فقد تصاعدت عمليات هدم المنازل، واستمرت عمليات الطرد، واقتحمت جماعات المستوطنين المسجد الأقصى بوتيرة متزايدة، غالباً تحت الحماية المباشرة لقوات الأمن الإسرائيلية.
قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه، إلى جانب شخصيات من اليمين المتطرّف مثل إيتمار بن غفير، بزيارات رفيعة المستوى إلى سلوان، وهو حيّ فلسطيني في القدس الشرقية المحتلة، وإلى المسجد الأقصى لإرسال رسالة مفادها: ستُعاد صياغة القدس وفقاً لشروط “إسرائيل”، بغضّ النظر عن القانون الدولي أو قرون من الوصاية الدينية.
E1 والضفة الغربية المحتلة
امتدّت هذه الاستراتيجية منذ ذلك الحين إلى الضفة الغربية المحتلة بطرق تكشف عن غايتها الكاملة. في أغسطس 2025م، أحيت “إسرائيل” خطة E1 الاستيطانية المتوقّفة منذ فترة طويلة، وسمحت ببناء نحو 3500 وحدة سكنية شرق القدس.
للوهلة الأولى، قد يبدو هذا بمثابة توسّع آخر للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي غير القانوني واسع النطاق، لكنّ آثاره أكثر تدميراً بكثير. منطقة E1 هي قطعة أرض تمتدّ على طول الضفة الغربية المحتلة، تربط القدس بمعاليه أدوميم، إحدى أكبر المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية، وتقسمها في الوقت نفسه.
وبفصل القدس الشرقية المحتلة عن باقي الأراضي، وفصل تجمّعات شمال وجنوب الضفة الغربية عن بعضها البعض، ستجعل E1 إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافياً أمراً شبه مستحيل. ولم يتردّد المسؤولون الإسرائيليون في إعلان نواياهم. فقد صرّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش صراحةً بأنّ الموافقة على البناء في E1 «تدفن فكرة الدولة الفلسطينية”.
وهذه الصراحة تكشف ما يعرفه الفلسطينيون منذ زمن: المستوطنات غير الشرعية لا تهدف إلى نقص المساكن أو الأمن؛ بل هي أدوات ضمّ. ومن خلال E1 ومشاريع مماثلة، تُضفي “إسرائيل” طابعاً رسمياً على ما تسمّيه “السيادة الفعلية”، موسّعةً بذلك سيطرتها على الأراضي المحتلة، منتهكة اتفاقية جنيف الرابعة وقرارات الأمم المتحدة المتكرّرة.
إذا كانت المنطقة E1 تُمثّل استراتيجية “إسرائيل” لتقسيم الضفة الغربية المحتلة، فإنّ غزة تكشف عن الوجه الآخر للعملة: الهيمنة العسكرية المباشرة والتهجير القسري.
في أغسطس2025م، وافقت “إسرائيل” على خطة للسيطرة على مدينة غزة، مما قد يؤدّي إلى تهجير أكثر من مليون من سكانها تحت ستار “الأمن”. أُمرت العائلات بالإخلاء، وأُجبرت على اللجوء إلى ملاجئ غير آمنة ومكتظة في جنوب غزة، بينما تُحذّر تقارير المنظّمات الإنسانية من وفيات ناجمة عن الجوع وكارثة إنسانية متفاقمة.
وباحتلالها مدينة غزة، تُنفّذ “إسرائيل” خطة لإعادة تشكيل هذا الجيب بشكل دائم، كما فعلت في القدس الشرقية المحتلة والضفة الغربية المحتلة. وبالنظر إلى هذه التطورات مجتمعةً، فإنها تكشف عن استراتيجية توسّع مُنسّقة.
وفي القدس، تسعى الإجراءات التقييدية والاستفزازات في الأقصى إلى تقليص الوجود الفلسطيني وتعزيز سيادة المستوطنين. أما في الضفة الغربية المحتلة، فتهدف المنطقة E1 إلى تجزئة الأرض الفلسطينية إلى الحدّ الذي تصبح فيه الدولة الفلسطينية ضرباً من الخيال. في غزة، يُشير النزوح الجماعي والاحتلال العسكري إلى نية “إسرائيل” إعادة تشكيل المنطقة بالكامل. هذا محوٌ للوجود الفلسطيني، ولطالما كان كذلك.
صمت عالمي، مقاومة محلية
العواقب وخيمة وفورية. ستقاوم المجتمعات الفلسطينية المجزّأة، المجرّدة من السيادة والمعرّضة للعنف المستمر، كما كانت دائماً. ستُقابل هذه المقاومة، سواء في شوارع القدس أو قرى الضفة الغربية المحتلة أو مخيمات اللاجئين في غزة، حتماً بمزيد من القوة الإسرائيلية، مما يُؤجّج دوامة لا نهاية لها من سفك الدماء.
وخارج فلسطين، تُهدّد هذه الاستفزازات بجذب قوى إقليمية، مما يُزعزع استقرار الأردن ولبنان وغيرهما.
ويرى الأردن، الوصي على المسجد الأقصى، أنّ كلّ اعتداء إسرائيلي على القدس يُمثّل تهديداً مباشراً لسيادته واستقراره الداخلي، ولا سيما بالنظر إلى العدد الكبير من السكان الفلسطينيين داخل حدوده. لبنان، الذي يعاني أصلاً من شلل سياسي وانهيار اقتصادي، يواجه توتراً مستمراً على طول حدوده الجنوبية مع تصاعد التوغّلات العسكرية والغارات الجوية الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه، وسّعت “إسرائيل” نطاق وجودها العسكري في المنطقة، حيث ضربت أهدافاً في سوريا ولبنان واليمن، وكان أبرزها هجوم غير مبرّر على قطر. هذه الإجراءات، وإن لم تكن مرتبطة مباشرة بمشروع “إسرائيل” التوسّعي في فلسطين، تُظهر كيف يُزعزع عدوانها العسكري استقرار الشرق الأوسط بشكل متزايد.
لا يمكن للمجتمع الدولي أن يبقى مكتوف الأيدي. فالإدانات الصادرة عن بروكسل أو بيانات الأمم المتحدة لا قيمة لها إن لم تُقابل بإجراءات ملموسة. فلطالما أظهرت “إسرائيل” أنها ستتجاهل الرأي العامّ الدولي ما لم تُواجه عواقب. المطلوب هو المساءلة: الضغط من خلال العزلة الدبلوماسية، وفرض قيود على مبيعات الأسلحة، وفرض عقوبات تستهدف مؤسسات المستوطنات. في الوقت نفسه، يجب التمسّك بحقوق الفلسطينيين كمبدأ مُلزم في القانون الدولي.
الرأي العامّ العالمي آخذ في التغيّر. ومع ذلك، يجب ترجمة هذه الموجة إلى سياسات لمنع المأساة التي تنتظرنا. البديل واضح: الصمت سيشجّع “إسرائيل” على المضي قدماً في ضمّ الضفة الغربية المحتلة، وتهجير سكان غزة، وإلغاء الوضع الراهن للقدس.
القدس ليست مجرّد نزاع محلي؛ إنها مقياس لالتزام العالم بالعدالة. غزة ليست ساحة معركة فحسب؛ إنها اختبار للإنسانية. وخطة E1 ليست مسألة تقنية لتقسيم مناطق؛ إنها مخطط لإنكار دائم للدولة الفلسطينية.
إنها مجتمعة تُشكّل مشروعاً توسّعياً لا يهدّد الفلسطينيين فحسب، بل استقرار المنطقة بأسرها. ما لم يتحرّك العالم بحزم، فإنّ سعي “إسرائيل” للسيطرة الكاملة سيقودنا جميعاً إلى صراع لا نهاية له.
صحفي فلسطيني.

مقالات مشابهة

  • ماذا تعرف عن قلادة النيل التي منحها السيسي للرئيس الأمريكي؟
  • القدس.. الحرب التي لا تنتهي!
  • وضع لبنان مُختلف.. ماذا سيحدث إن خرقت حماس هدنة غزة؟
  • «فخور برئيس بلدي».. طارق لطفى يحتفي بـ السيسي بعد توقيع اتفاقية شرم الشيخ للسلام
  • رغم اتفاقية السلام.. الرقب: هناك تخوفات داخل الشارع الفلسطيني بعودة الحرب
  • يوروجست.. اتفاقية على طاولة الاتحاد الأوروبي ووزارة العدل
  • السوداني يتوجه الى شرم الشيخ للمشاركة في إتفاقية السلام في غزة
  • وزير الخارجية يثمن الجهود الأممية الداعمة لحماية المدنيين الفلسطينيين
  • مندوب السودان في جنيف: عودة أكثر من مليوني نازح ولاجئ إلى مناطقهم
  • تعرف على ترتيب مجموعات تصفيات كأس العالم عن أمريكا الوسطى والكاريبي