جنوب أفريقيا ذات نسب لنا في النّضال
تاريخ النشر: 17th, January 2024 GMT
أثير- مكتب أثير في دمشق
إعداد: الأديبة والكاتبة غادة العيسى مديرة المسرح القومي السوري
الجنوب لم يعد اتجاها بالبوصلة المعدنية التقليدية بعد الآن، بل أصبحَ هو البوصلة الإنسانية التي تتصدر المشهد، والأسمر أصبحَ لون الإنسانية بأسمى تجلّياتها.
إنّها إفريقيا بجنوبها، تُسقط من قاموسها مصطلح عدم الانحياز، وتنحاز عن سبق إصرارٍ وترصد للحياة والحقّ في الحياة، تنحاز للمظلوم المسجون في بلده، المقطوع عن مسيرة الأمم، المرمي على قارعة الإنسانية، تقول كلمتها لكن لا تمضي، بل ترفع الأيدي السمراء لتدلّ على الحقيقة وتناصرها، لتقول للمجرم كفاكَ توغلا في الإجرام.
إنّها جنوب إفريقيا التي طالما ذاقت وعانت الظّلم الذي ما زال طعمهُ تحت نكهة الحريّة التي نالتها بعد نضال ودماء ورجولة، فهي ذات نسب في النّضال.
أمام محكمة متعددة المشارب والنوايا يقفُ حفيد مانديلا ليطلب العدالةَ لشعب يُقتل على مدار الثواني والدقائق.
العالم كلّه يشخَص بنظرهِ إلى هناك حيث قال الرجل الأول في البلاد رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا:لم أشعر بالفخر قَطّ كما أشعر اليوم، ونحن نشعر أيضا بالفخر لفخرك ونتمنى لو كان للعالم قلب يشبه قلبك المفعم بالإنسانية، عالم رفضت بعض دوله الحياد وترادفت مع الحق، حقُّ شعبٍ كامل، حتى لا تكون المجازر مصيره، دول لم يتلوث ضمير حكامها باللا إنسانية حد السكوت عن صراخ الدم من الأوردةِ النازفة في بلد يذبح على مدار الساعة؟؟
هل تنجح بلد مانديلا في الإشارةِ إلى بلدانِ العالم التي تعاقب الضّحية وتثيب الجاني؟
هل تنجحُ الجباهُ السمراء في وضع العالم أمام نفسه؟
وهل سيبقى ميزان العدالة مختلاً إلى ما لا نهاية؟؟
هي أيام سوداء زادتها الحرب أياما بعد المئة في مسلسل القصف والقتل والدمار والسكوت الوقح، والسؤال الأهم هل سيتابع العالم الفرجة على مسلسل الدّم؟؟
وحدها بلدُ مانديلا رفضت الفرجة، ودخلت فنَّ الإخراج بشكلٍ مختلف… إخراج الأحداث عن سكّتها.
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
الفصل العنصري مقلوبا في جنوب إفريقيا
ترجمة - بدر بن خميس الظفري -
في مارس الماضي، ظهر (إرنست روتس)، وهو ناشط جنوب إفريقي يدافع عن ما يسميه «حقوق البيض»، في مقابلة مع تاكر كارلسون على قناته في يوتيوب في حلقة حملت عنوانا مضللا: «رجل متهم بالخيانة لأنه تحدّث إلى تاكر عن قتل البيض في جنوب إفريقيا». وكما هو معتاد في عالم كارلسون، احتوى العنوان على أكثر من مغالطة؛ فلم يُتهم أحد بالخيانة بسبب حديثه إلى كارلسون، ولا يُقتل البيض في جنوب إفريقيا بمعدلات تفوق ما يعانيه بقية السكان.
لكن العنوان أصاب في نقطة واحدة: لقد سبق لروتس أن ظهر مع كارلسون في لقاء سابق، عرض فيه نظرية مظلومية كاملة لجمهور حركة «اجعلوا أمريكا عظيمة من جديد». فحوى ادعائه، كما لخّصه كارلسون، هو أن جنوب إفريقيا اليوم عنصرية جدا ضد البيض، بل «أكثر مما كانت عليه فترة الفصل العنصري ضد السود».
في جنوب إفريقيا، لا يُقابل هذا النوع من الشكوى الاستعراضية بالتجريم أو الإعدام كما قد يحدث في بعض الدول، بل يُقابل في الغالب بالسخرية وموجات من الصور الساخرة التي تستهزئ بفكرة أن البيض ، وخصوصا الأفريكانيين اليمينيين الساخطين، مضطهدون من قبل الحكومة. والواقع أن لا فئة استفادت من إرث الفصل العنصري الاقتصادي أكثر من البيض، ومع ذلك، لا تزال هناك قلة صاخبة تزعم أنها ضحية تمييز مؤسسي.
لكن حيثما ذهب تاكر كارلسون، تبعه دونالد ترامب. ففي فبراير، وبعد أن أوقف مساعدات إنسانية منقذة للحياة لبرامج الإيدز والملاريا في إفريقيا، وقّع الرئيس ترامب أمرًا تنفيذيًا يمنح وضع «لاجئ» لـ«الأقلية الإثنية من الأفريكانيين»، وهم غالبا من البيض. وفي منتصف مايو، استأجرت الحكومة الأمريكية طائرة نقلت نحو 60 لاجئًا جديدًا إلى الولايات المتحدة، حيث استُقبلوا بحفاوة.
كما نقول في جنوب إفريقيا: «الفلاح يصنع خطة».
وعلى عكس ما ورد في أمر ترامب التنفيذي، لا يوجد أي دليل على أن حقوق البيض في جنوب إفريقيا تُنتهك بصورة منهجية، أو أن ملاك الأراضي البيض يواجهون عنفًا غير متناسب.
فهم يمتلكون مزارع تغطي نصف مساحة البلاد تقريبا، رغم أنهم لا يشكلون سوى 7% من السكان. ولم يُصادر أي عقار مملوك للبيض بموجب قانون الأراضي الجديد الذي أشار إليه ترامب.
يأتي هؤلاء الناشطون ويغادرون جنوب إفريقيا دون عوائق، ولا تُفرض عليهم أي عقوبات. وهي امتيازات لم تُمنَح للمعارضين السود أثناء الفصل العنصري، الذين تعرضوا للمنع والسجن والنفي. ومؤخرًا، دعا حزب معارض إلى توجيه تهم الخيانة لمجموعة من الناشطين، لكن تمرير ذلك عبر المحكمة العليا في البلاد، ذات التوجه الليبرالي، يبدو احتمالًا بعيدًا.
إذن، ما الذي يحدث في «أمة قوس قزح» التي أسسها نيلسون مانديلا؟ ولماذا يبدي ترامب وحركته، المعروفان بعدم اكتراثهما بالشأن الإفريقي، هذا الاهتمام بمجموعة بعينها من مواطني جنوب إفريقيا؟ الجواب القصير: لأنهم بيض. أما الجواب الأشمل فهو أن الانتقال في جنوب إفريقيا من الفصل العنصري إلى الديمقراطية مفهوم بشكل خاطئ على نطاق واسع. كما قال المحلل السياسي رالف ماثيغا: «العبارة الأنسب لوصف ذلك هي - الاستبدال الانتقالي- ، أي أن النظام القديم لم يمت، بل لا يزال يتنفس».
المعجزة الحقيقية في انتخابات 1994 لم تكن في انتقال السلطة السلمي فحسب، بل في أن مهندسي نظام الفصل العنصري أنفسهم سُمح لهم بالمشاركة. حصلوا على 20% من الأصوات، وتولوا أدوارًا قيادية في الحكومة، وكان لهم تأثير كبير في صياغة الدستور الجديد، الذي جاء مثاليًا من منظور القوميين الأفريكانيين: لم يُطلب منهم التخلي عن امتيازاتهم مقابل دستور يضمن حقوقهم.
ولا تزال معظم ثروة جنوب إفريقيا الخاصة في أيدي البيض. ورغم أن حياة الأغلبية السوداء تحسنت من حيث الحقوق الأساسية مثل حرية التنقل والاقتراع، إلا أن البلاد تُعد، بحسب كثير من المقاييس، الأكثر لامساواة في العالم. ويظل البيض أكبر المستفيدين من هذا الترتيب، مع أن الطبقة الوسطى الأفريكانية، التي نشأت في ظل الفصل العنصري، تعاني اليوم لتدبّر أمورها. ويزيد الطين بلّة، تفشي الفساد والمحسوبية في الحكومة، حيث تستفيد نخبة سوداء صغيرة مرتبطة بالحزب الحاكم (المؤتمر الوطني الإفريقي) من موارد الدولة.
انهيار الطبقة الوسطى ظاهرة عالمية، لكن في جنوب إفريقيا، كما في بعض مناطق أمريكا، يتخذ شكلًا عرقيًا واضحًا. وقد دخلت هذه الشكاوى المجال الأمريكي عندما نشر لوبي الأفريكانيين خطاب «إبادة البيض»، متزامنًا مع صعود ترامب. يقولون إن الحكومة مسؤولة عن حملة عنف ممنهجة ضد الفلاحين البيض. (علمًا بأن كلمة «بير» تعني «مزارع» بالأفريكانية، لكنها تعني أيضًا «الزعيم» أو «السيد»).
لا شك أن كثيرين من سكان الريف، كما سكان المدن، يواجهون مستويات عنف تُشبه أحيانًا زمن الحرب، بفعل انعدام المساواة، وضعف الشرطة، وتفشي العصابات، وسرقة المواشي. لكن الادعاء بأن الحكومة متواطئة في قتل الفلاحين البيض، ناهيك عن ارتكاب إبادة جماعية، هو تزوير للواقع ومحاولة لإعادة كتابة تاريخ جنوب إفريقيا. المفارقة أن الفصل العنصري ذاته لم يُصنّف كجريمة إبادة، ولم يجرؤ أي مؤرخ جاد على الادعاء خلاف ذلك.
لنُنصف روتس ورفاقه في شيء: فهم يفهمون ثقافة حركة ترامب وآلياتها الإعلامية بعمق. والغريب أن «حروب الثقافة» الأمريكية وجدت صدى واسعًا في دوائر النخبة الجنوب إفريقية. قد يُظن أن أحد مزايا العيش في أقصى جنوب إفريقيا هو تجنّب تفاصيل محفظة نانسي بيلوسي الاستثمارية، أو الحديث اليومي عن كمبيوتر هانتر بايدن المحمول، لكن ذلك غير صحيح.
من خلال ظهوره على قناة كارلسون، ونشاطه على منصة (إكس)، واستغلاله لمواقف شخصيات بيضاء جنوب إفريقية بارزة مثل إيلون ماسك، المقرب من إدارة ترامب، نجح اللوبي الأفريكاني اليميني في جعل قضيته من مواضيع النقاش الجيوسياسي العالمي.
وأتى الدليل القاطع يوم الأربعاء، خلال لقاء الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا مع ترامب في المكتب البيضاوي. في لحظة محرجة بامتياز، عرض فريق ترامب فيديو مجمّعًا عن السياسي السابق في المؤتمر الوطني، يوليوس ماليما، الذي يُعرف بإثارته للجدل، وبغنائه نشيدًا مناهضًا للفصل العنصري يُفسر أحيانًا بـ«اقتل البوير». بالنسبة لماسك ووزير الخارجية ماركو روبيو، يعد هذا النشيد تحريضًا على الإبادة، رغم عدم وجود دليل على ارتباطه بحوادث عنف.
خنوع رامافوزا أمام هجوم ترامب لم يكن مفاجئًا؛ فهو رجل يهوى الرفاهية، ولم يعتد على التحدي. ولحسن الحظ، كان هناك رجال أعمال ولاعبو جولف حاولوا تهدئة النقاش. لكن الأمر أوضح من أن يُخفى، وهو أن الاحتيال العنصري مستمر.
فجنوب إفريقيا، التي أسهمت في صياغة مفهوم تفوّق البيض، تقدم لنا هنا درسًا حيًّا: هذا مشروع لقلب السردية التاريخية، لجعل المضطهدين بالأمس هم الجلادون اليوم، ولتصوير البيض كضحايا للتمييز العنصري العكسي، بل حتى للإبادة. إنه جزء من خطاب «استبدال البيض» العالمي.
نعم، جنوب إفريقيا الديمقراطية دولة متعثرة، عنيفة، وفاسدة في نواحٍ كثيرة. لكن التسامح الذي مُنح للأقلية البيضاء بعد الفصل العنصري كان لحظة استثنائية من النبل الإنساني. وعبر تخليهم عن هذه اللحظة، بقبولهم وضع «اللاجئ» وادعائهم المظلومية، أصبح الأفريكانيون اليمينيون مجرد كومبارس في مسرحية حركة ترامب الصاخبة والفارغة.
ريتشارد بوبلاك صحفي وصانع أفلام مقيم في جوهانسبرغ
خدمة نيويورك تايمز