جاء ترامب أخيرا إلى المنطقة للتأكيد على نفاذ خطته لوقف الحرب على غزّة، الخطّة التي نُفّذت المرحلة الأولى منها منقوصة، فـ"إسرائيل" ليست في صدد وقف الحرب بالمعنى الشامل، هي في صدد تحويل الحرب إلى أشكال أخرى، تلك التي يعرفها فلسطينيو الضفة الغربية، ويعرفها اليوم اللبنانيون، ولا سيما أهل الجنوب منهم، الأكثر دفعا للثمن إلى جانب الفلسطينيين في مواجهة الشرّ "الإسرائيلي"، وللمفارقة، تعرفها مناطق في سوريا بالرغم من كون "إسرائيل" بادأت السوريين العدوان دون ردّ منهم.

فقد قتلت اليوم الثلاثاء (14 تشرين الأول/ أكتوبر) خمسة فلسطينيين في غزّة بدعوى اجتيازهم الخطّ الأصفر (خطّ جديد ابتكرته خطّة ترامب)، وهي دعاوى للعدوان سوف تنوّع عليها في الأيام والشهور القادمة.

"إسرائيل" سوف تجد إلى جانب القتل والاغتيالات والمداهمات أدوات أخرى لمعاقبة الغزّيين، بإغلاق المعابر وتشديد الحصار ومنع إعادة الإعمار، (حين كتابة هذه المقالة كانت "إسرائيل" قد أعلنت إغلاقها معبر رفح يوم الأربعاء- 15 تشرين الأول/ أكتوبر)؛ وهي فيما ينبغي أن يكون الملف الأسهل، أي ملف تبادل الأسرى، تلاعبت فيه، فلم تكتف بأنها قلصت أعداد المفرج عنهم من المحكومين بالمؤبد، وامتنعت عن الإفراج عن رموز الحركة الوطنية من الفصائل كلها، فإنّها تقريبا لم تفرج عن أكثر معتقلي حماس، الحركة التي نفّذت عملية السابع من تشرين/ أكتوبر، وخاضت هذه الملحمة المستحيلة طوال عامين من البأس والصمود وفي غمرة الإبادة وفي معاندة لكل ألوان القهر والخذلان. فبحسب الأرقام المنشورة تكاد تكون حركة حماس قد بيّضت السجون من المحكومين بالمؤبد من جميع الفصائل وأكثرهم من حركة فتح، مع بقاء أعداد قليلة من المحكومين بالمؤبد من تلك الفصائل، بينما بقي أكثر منتسبي حماس المحكومين بالمؤبد في السجون، في مفارقة تاريخية مركّبة، لأنّ البعض لن يحفظ لهذه الحركة دورها في الإفراج عن معتقلي الفصائل، بل سينال منها، كما هو مجرب في صفقات تبادل سابقة قادتها هذه الحركة، وهي الفصيل الفلسطيني الوحيد الذي تمكن من قيادة صفقات تبادل أسرى من داخل فلسطين.

الحدث كلّه فلسطيني، من أوّله إلى آخره، ابتداء ومسارا، محنة وبلاء، مقاومة وصبرا وصمودا، ومعاناة تتصدّع منها الجبال، وتنهار من هولها أمم ومجتمعات وشعوب، وتسقط من بطشها البالغ دول وإمبراطوريات، ولكنّ هذه المقاومة المحاصرة منعدمة الإمكانات، ظلت واقفة على أقدامها حتى آخر لحظة، وهذا المجتمع الصغير المحشور في 365 كيلومترا مربعا احتمل ما لا يمكن لأيّ مجتمع بشريّ آخر احتماله.

وهذا ليس احتفاء وافتخارا مجرّدين، ولكنهما مفجوعان تماما، فيهما من الوجع والألم والقهر والغصة أكثر من معان أخرى قد تحضر في المقام، أو قد يحب بعض من الناس استحضارها؛ فلا الفقد العظيم، ولا الدمار الشامل، ولا الجراح التي لا تبرأ، ولا الآثار العميقة الناجمة عن سعة الإبادة واستمرار النزوح وويلات الحياة اليومية، ولا الخيبات الأكثر إيلاما من القريب والبعيد، ولا الحيرة الملتاعة الجامعة للملاحقين في الإبادة وهم يحاولون فهم أدنى شيء من هذا الذي يجري عليهم، لا شيء من ذلك يغيب عن نظر أحد حين قراءته للحدث في لحظته الراهنة، مهما كانت هذه القراءة، وفي أيّ اتجاه ذهبت.

لكن هذا الحدث الفلسطيني، الغزي قبل أيّ شيء، هو الأقل حضورا في النتائج كلها، ولا أدلّ على ذلك من دعوة مصر، بطلب من ترامب، لنتنياهو لحضور قمة شرم الشيخ، وهو الأمر الذي لم يتمّ، لأنّ نتنياهو نفسه رفض، خشية من صورة يصافح بها الرئيس الفلسطيني، أو خطابات يسمعها عن حلّ الدولتين، تهدد شبكة تحالفاته مع التيار الديني القومي في "إسرائيل". وقد حصل هذا بالرغم من كون مصر إحدى الدول التي وقّعت على نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية (وإن لم تنضم رسميّا للمحكمة لعدم مصادقة البرلمان المصري على ذلك)، وهو ما يعني أنّ مصر كانت الدولة العربية التي خطت عمليّا نحو كسر قرار المحكمة الجنائية الدولية الملاحق لنتنياهو، ورفع العزلة عن "إسرائيل"، وعن رئيس حكومتها وزعيم الإبادة الجماعية بنيامين نتنياهو، في حين تدور الدعاية المصرية حول ادعاءات عن عظمة الدولة المصرية تأكدت بالمفاوضات التي أنجزت فيها وبعقد قمّة شرم الشيخ!

لا بدّ، والحالة هذه، من نظرة على ما سمّاه الإعلام العربي بـ"وثيقة الضمانات"، وسمّاها البيت الأبيض بحسب المنشور على موقعه الرسمي: "إعلان ترامب للسلام والازدهار الدائمين" (علينا أن نتذكر خطة ترامب التصفوية للقضية الفلسطينية التي أطلقها في العام 2020 وسماها "السلام من أجل الازدهار" وهي التي عرفت باسم "صفقة القرن"). وثيقة "الضمانات" الأخيرة هذه وقعها ترامب مع زعماء دول الوساطة: مصر وقطر وتركيا، (تركيا التي دخلت متأخرة على خطّ الوساطة بعد إبادة عامين، حينما بدا لأردوغان أن الفرصة سانحة لتحصيل بعض المكاسب لحكمه ودولته).

هذه الوثيقة وإن نصّت على: "نحن ندعم ونقف خلف الجهود المخلصة للرئيس ترامب لإنهاء الحرب في غزة"، فإنّها لم تذكر لا حلّ الدولتين ولا حقّ الفلسطينيين في تجسيد هويتهم القومية في دولّة تُعبّر عنهم، وأقصى ما ذكرتهم به هو قولها: "نحن ندرك أن السلام الدائم هو ذلك الذي يتمكّن فيه كل من الفلسطينيين والإسرائيليين من الازدهار مع صون حقوقهم الإنسانية الأساسية وضمان أمنهم وصون كرامتهم"، دون أدنى إشارة إلى المظلومية الفلسطينية، ولا إلى التفاوت بين تجسيد الهوية الإسرائيلية في دولة توقع الإبادة على شعب محروم حتى من التطلع إلى أن تكون له دولة. هذا التطلع الفلسطيني بالنضال، جرت الإشارة إليه بالإدانة ضمنا في الوثيقة حين قولها: "نحن متّحدون في عزمنا على تفكيك التطرّف والراديكالية بجميع أشكالها، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يزدهر حين تطبيع العنف والعنصرية فيه، أو حين تهدّد الأيديولوجيات المتطرّفة نسيج الحياة المدنية. ونلتزم بمعالجة الظروف التي تتيح للتطرف أن ينمو". والأخطر من ذلك كلّه تحويل الإبادة ووقفها بالنحو الناقص الذي سمح لـ"إسرائيل" فرض شروطها إلى فرصة لاستئناف مسار التطبيع الإبراهيمي، وذلك بقولها: "نرحّب بالتقدّم الذي تحقق في إقامة ترتيبات سلام شاملة ودائمة في قطاع غزة، وكذلك بالعلاقات الودية والمثمرة المتبادلة بين إسرائيل وجيرانها الإقليميين".

لقد وفّرت الملحمة الغزية ابتداء ومسارا، فرصة لدول هذه المنطقة وشعوبها، للتحرر من الهيمنة، وامتلاك الإرادة، وتعزيز الذات دولا ومجتمعات وشعوبا؛ لها وزن في واقع البشر وتدافعهم السياسي والحضاري، وقد أثبتت هذه الملحمة القدرة على الفعل، ومحدودية القدرة الإسرائيلية مهما امتلكت "إسرائيل" من قوّة فائضة متعددة الأوجه مدعومة بالقوّة الأمريكية الجبارة غير المسبوقة في تاريخ البشر، بيد أنّه وباستثناء قلّة من بعض المقاومات في المنطقة التي قررت أن تشارك الغزيين شيئا من الدم والفعل، رفض الجميع الالتحاق بهذه الفرصة، وأعادوا استثمارها عكسيّا لتحصيل مكاسب ضيقة، ليس فقط من كيس الفلسطيني كما هو معتاد تاريخيّا منذ أواخر الدولة العثمانية وإلى اليوم، ولكن على حساب الفلسطيني بالكامل، في سلوك ليس بالجديد، إذ هو استمرار للاستثمار التاريخي في الدم الفلسطيني في المقايضات الرخيصة، هذه المرة بجعل الفلسطيني الذي عانى الإبادة وقودا لإعادة إنتاج النظام الإقليمي الذي تُسيّد فيه "إسرائيل"، وبجعل وقف الإبادة قناعا إنسانيّا زائفا لتجميل الهيمنة والاستعمار والاستيطان والاستمرار في قهر الفلسطينيين!

x.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه ترامب الفلسطينيين غزة فلسطين غزة ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات اقتصاد صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ة التی

إقرأ أيضاً:

عاجل. انطلاق أعمال قمة شرم الشيخ.. ترامب: سنوقّع وثيقة شاملة بشأن الاتفاق بين إسرائيل وحماس

انطلاق أعمال قمة شرم الشيخ.. ترامب: سنوقّع وثيقة شاملة بشأن الاتفاق بين إسرائيل وحماس اعلان

انطلاق أعمال قمة شرم الشيخ.. ترامب: سنوقّع وثيقة شاملة بشأن الاتفاق بين إسرائيل وحماس

انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة أخبار اعلان اعلان اخترنا لك نتنياهو من الكنيست: السنوات المقبلة سنوات السلام.. وترامب للرئيس الإسرائيلي: لماذا لا تمنحه العفو؟ بالصور – الإسرائيليون يحتفلون بالإفراج عن آخر الرهائن المتبقين على قيد الحياة لدى حماس ماذا ينتظر العالم من قمة شرم الشيخ؟ مظلوم عبدي يعلن عن "تفاهم مبدئي" لدمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن وزارتي الدفاع والداخلية صفقة غزة: هل تختلف هدنة ترامب عن اتفاق لبنان الهشّ؟ اعلان اعلان الاكثر قراءة 1 مباشر. أعضاء الكنيست يصفقون وقوفا لترامب.. حماس تسلّم جميع الرهائن الأحياء وإسرائيل تبدأ بالإفراج عن الأسرى 2 الاتحاد الأوروبي يطلق نظام الدخول والخروج الرقمي.. ما هو وكيف يعمل؟ 3 لماذا لا ينبغي للرجال تجاهل تمارين الساقين؟ 4 كنوز مدفونة منذ 2500 عام.. اكتشاف مقبرة غامضة تروي حكاية حضارة مجهولة 5 بدء عملية تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس وتل أبيب تُعيد النظر في أسماء الأسرى الفلسطينيين اعلان اعلان

Loader Search

ابحث مفاتيح اليوم

إسرائيل غزة حركة حماس دونالد ترامب دراسة أسرى حزب الله الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مصر لبنان السرطان - بحث علمي الضفة الغربية الموضوعات أوروبا العالم الأعمال Green Next الصحة السفر الثقافة فيديو برامج خدمات مباشر نشرة الأخبار الطقس آخر الأخبار تابعونا تطبيقات تطبيقات التواصل الأدوات والخدمات Africanews عرض المزيد حول يورونيوز الخدمات التجارية الشروط والأحكام سياسة الكوكيز سياسة الخصوصية اتصل العمل في يورونيوز صحفيونا لولوجية الويب: غير متوافق تعديل خيارات ملفات الارتباط تابعونا النشرة الإخبارية حقوق الطبع والنشر © يورونيوز 2025

مقالات مشابهة

  • موقع كندي: خطة ترامب في غزة “قناع للهيمنة” يتجاهل عقود الإبادة والقهر الفلسطيني
  • البيت الأبيض ينشر فحوى وثيقة الضمانات التي وقعها الوسطاء في شرم الشيخ
  • ترامب: سنوقع على وثيقة شاملة بشأن الاتفاق بين إسرائيل وحماس
  • قادة مصر والولايات المتحدة وقطر وتركيا يوقعون وثيقة بشأن الاتفاق بين إسرائيل وحماس
  • عاجل. انطلاق أعمال قمة شرم الشيخ.. ترامب: سنوقّع وثيقة شاملة بشأن الاتفاق بين إسرائيل وحماس
  • أحمد موسى: نتنياهو فشل في إعادة الرهائن رغم الإبادة التي قام بها
  • إيران ترفض حديث ترامب عن تطبيع محتمل مع إسرائيل وتصفه بـ”أحلام يقظة”
  • ما قصة الكلمات المهينة التي وجهها كوشنر إلى عباس؟ (فيديو)
  • إيران توضح موقفها من حديث ترامب عن تطبيع علاقتها مع إسرائيل