عربي21:
2025-12-15@05:23:28 GMT

إعادة اكتشاف علي عزَّتبيغوڤيتش

تاريخ النشر: 2nd, February 2024 GMT

حين هُدينا إلى القرار الشاق بإعادة ترجمة الآثار الكاملة لعلي عزَّتبيغوڤيتش ترجمة جديدة كاملة(1)، تبتعدُ قدر الإمكان عن تحيُّزات المترجمين وجهلهم، حتى يستطيع القارئ التعرُّف إلى الرجل تعرُّفا سليما، ومن ثم، يتمكَّن من الإفادة منه إفادة عمليَّة؛ تكشَّفَ لنا -بمجرَّد استغراقنا في العمل- أن قرارنا هذا كان توفيقا إلهيّا محضا، إذ تبيَّنت لنا ثلاثة إشكالات رئيسة؛ سترسُم -بعملنا هذا- صورة مُختلفة للرجل عمَّا أَلِفَهُ القارئ العربي:

أول هذه الإشكالات هو الأثر الماركسي العميق في فكره، والذي "يُشبِهُ" أثر النسق نفسه عند الشهيد علي شريعتي، وسائر مُفكري الجيل ممن اضطلعوا بنقد الماركسية، وكانوا في طليعة المواجهة معها.

وهو أثرٌ جاهد مُترجمون أمثال الأستاذ عدس لمحوه تقريبا، حتى لا يكاد القارئ يربط الربط التلقائي المفترض بين "البيان الشيوعي" و"الإعلان الإسلامي"! وهو وإن كان فعلا تحدوه "حُسن نيَّة" من المترجم، إلا أنه قد شوَّه الصورة النهائية للرجل ونصوصه؛ إذ غيَّر طبيعتها وتوجيهها. فإن هذا التأثُّر -بنسق الخصم- فطري طبيعي، لا يمكن للمفكر/ المتكلم/ المتفلسف التخلُّص منه؛ إذ من المحتم عليه التأثُّر بنيويّا -وربما بغير وعي- بالمنهجيات والأنساق الفكريَّة التي يُساجلها وينقدها. وهذه بعض مخاطر العمل الفكري الجاد، التي يعرفها من اضطلع به.

كان عزَّتبيغوڤيتش ابنا بارّا للسياق الشيوعي اليوغوسلاڤي، ولا يُمكن استيعاب كافَّة الإشكالات والموضوعات التي يتناولها، إلا بوصفها إجابة -أولا- عن الأسئلة والتحديات التي يطرحها هذا السياق، ثم يلي ذلك التعاطي معها بوصفها إجابات عن السياق العام للانحطاط الإسلامي. ومن ثم؛ كان الأثر الماركسي أثرا يتجاوز الأطر البنيوية الكامنة، إلى الاصطلاح والإشكالات الاجتماعية والنفسية (الحركيَّة والفلسفيَّة)
صحيح أن المنتج الفكري النهائي يبقى مُستقلّا، يحمل دمغة صاحبه وصبغة مُعتقداته؛ بيد أن الرصد الأمين لمثل هذا الأثر المتحقِّق، ودقَّة بيان مواطنه للقارئ؛ يُعين على استيعاب هنات النسق الفكري وأسبابها ومصادرها. وإذا كان الفكر البشري كله بتعريفه، يحفلُ بالهنات والنواقص الفطرية؛ فإن الهدف من إبرازها ليس هو "محاكمة" المفكر أو إدانته، وإنما أنسَنَته، وإدراك نواقص النسق تكريسا للإفادة الحقيقيَّة منه في بناءٍ يَكفُلُ استمرار مسيرة التراكُم الفكري للأمة الواحدة. إذ لا يُمكن قطعا الإفادة من أيَّة نسق فكري بشري، دون إدراك مواطن قوَّته وضعفه (استغلالا للأولى وتلافيا للأخيرة)، فما بالك بأنساق أعلام الوقت؛ الذين يُفتَرضُ بنا تدارُس نتاجهم تدارُسا تفصيليّا جادّا، لمواصلة المسيرة!

لقد كان عزَّتبيغوڤيتش ابنا بارّا للسياق الشيوعي اليوغوسلاڤي، ولا يُمكن استيعاب كافَّة الإشكالات والموضوعات التي يتناولها، إلا بوصفها إجابة -أولا- عن الأسئلة والتحديات التي يطرحها هذا السياق، ثم يلي ذلك التعاطي معها بوصفها إجابات عن السياق العام للانحطاط الإسلامي. ومن ثم؛ كان الأثر الماركسي أثرا يتجاوز الأطر البنيوية الكامنة، إلى الاصطلاح والإشكالات الاجتماعية والنفسية (الحركيَّة والفلسفيَّة). وجليٌّ أنه ليس أثرا لا واعيا مُجرَّدا، إذ أن قسما منه بارِزٌ واع، خصوصا في استعماله اصطلاحات ماركسيَّة صريحة (مثل: قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والوجود والوعي، والقاعدة والبنية الفوقيَّة.. إلخ). وإذا كان أحد الموضوعين المركزيين في كتابه: "الإعلان الإسلامي" هو نقد الهوة المشهودة بين النخبة والجماهير المسلمة؛ فبدهي أن يسعى الأستاذ -بصورة أو بأخرى- لا لتلافي هذه المنقَصَة فحسب، وإنما ليصير هو نفسه قدوة في ذلك؛ ليستحق ثقة الجماهير البوسنويَّة، التي حملته على أعناقها إلى سُدَّة الحكم في كل انتخابات حُرَّة خاضها!

وقد تمثَّل ثاني هذه الإشكالات في أن فكر الرجل -في حقيقة ما ظهر لنا- ليس "مُنضبطا انضباطا شرعيّا" بحسب موازين أهل هذا العصر الاختزاليَّة الساذجة، إذ هو يندرِجُ تحت ما قد يُطلَق عليه بالإنكليزيَّة: "unorthodox"؛ فلا هو بالذي يُرضي المزاج الأشعري ولا السلفي، ولا حتى الشيعي! وهذا متوقَّعٌ وطبيعي ومفهوم، بل وهو ديدن كل مفكر كبير؛ إذ لا يُمكن تصنيفه بحسب القوالِب التي تواضع عليها سابقوه، وإلا ما اكتسب هذه القامة التركيبيَّة، ولا صار لفكره هذه القيمة التجديدية. فإن قيمة المفكر الأصيل أن يكون نسيجا وحده، وأن يصير فكره بعده مذهبا جديدا؛ يُثري مسيرة الفكر الإسلامي بإخلاصه وصدقه في تحري الحق، لا في تقليد من سبقوه. وهذا جليٌّ بارِزٌ في أنساق أكابر مُفكري الإسلام المحدَثين -منذ السيد جمال الدين الأفغاني- فكلهم مُتكلِّمٌ بالعقائد، صاحب مذهب جديد؛ أدرك ذلك أم لم يُدرِكه، أراده أم لم يُرِده!

ويبدو أن هذا قد تجلَّى واضحا للمترجمين السابقين، خصوصا الأستاذ عدس؛ فلم يُرضِهم ولم يَرضوه. ورغم أن عدس نفسه -بناء على معرفتي الشخصيَّة به- لا يُمكن عَدُّه من المتمذهبين بشيءٍ من هذا المشهور، المذكور آنفا؛ فإنه كان يُحسَبُ "إسلاميّا"، بحسب تعريف العرب المحدَثين للفظة إبَّان الربع الأخير من القرن العشرين. هذا التحيُّز المبدئي، هو ما جعل الترجمة السابقة لكتابي: "الإسلام بين الشرق والغرب"، و"الإعلان الإسلامي"؛ تصوغ عزَّتبيغوڤيتش بوصفه مُفكرا "إسلاميّا"، في حين أن الرجُل لا يُمكن بحال -بناء على نصوصه- تصنيفه بحسب هذا التصنيف كما يُدركه العرب. وقد كان أن اتَّسعت مساحة تأول المترجم أكثر في الكتابين المذكورين؛ فجعلت منه مُفكرا عربيّا إسلاميّا، رغم أنه فيلسوف أوروپي مسلم، وشتَّان!

ثالث الإشكالات، التي تجلَّت لنا إذ غُصنا في نصوصه؛ فهي باقة حداثيَّة من المؤثرات، التي تُرسِّخُ صورته بوصفه فيلسوفا أخلاقيّا أوروپيّا يلتزِمُ بالإسلام. ولعلَّ أبرز عناصر هذه الباقة ثلاثة: أولها هيمنة خُرافة التقدُّم وأولويَّة التحديث -بالمعنى الأوروپي- على المستوى السطحي من مستويات رؤيته النظريَّة (خصوصا في كتابيه: "الإعلان الإسلامي" و"عوائق النهضة الإسلامية")، وذلك رغم أنه يرفضها على مستويات أعمق؛ تتجلى أشد ما تتجلَّى في الاطراد الصادق لنسقه الكُلي في مؤلفه العمدة: "الإسلام بين الشرق والغرب"
ويبدو أن مهمة الترجمة الدقيقة الفصيحة للنصوص، ودمجها بذلك في المجال التداولي العربي؛ لم تكن أولويَّة لهؤلاء المترجمين جميعا، وإنما كانت أولويَّة "المتقن" منهم هي إعادة رسم صورة عزَّتبيغوڤيتش، بوصفه مفكرا عربيّا إسلاميّا، أو مُتكلما على الطراز التُراثي؛ لتُلائم مُخيلة الإسلاميين العرب! وهي كارثة نزعت الرجل من سياقه الأوروپي، وقلَّصت فُرَص استيعابه على وجه الدقة، وبالتالي إمكانية الإفادة الحقيقيَّة منه؛ فصيَّرته مُجرَّد صَرْعة للمراهقين وأشباه المثقفين. هذه الصياغة المُضَلِّلَة نفسها، هي التي حجبت لا حقيقة عزَّتبيغوڤيتش فحسب، بوصفه فيلسوفا أخلاقيّا أوروپيّا يلتزمُ بالإسلام، رغم بنوَّته للحداثة؛ وإنما شوَّشَت أثر مدوَّنة الفلسفة المثاليَّة في فكره، وشوَّهَت نهجه الحركي بوصفه فيلسوفا يؤمن بالعمل السياسي داخل أُطُر الواقع الممكن (وإن رفضها نظريّا!)، مُستعينا بمقلوب خطَّة العدو؛ مع التزام أخلاقي صارم بالإسلام، يُجاهد ليطَّرِد بقيمه في كل حين.

وكما كان عزَّتبيغوڤيتش ابنا بارّا لسياقه الشيوعي اليوغوسلاڤي، مُلتزما أولا بقضاياه وتحدياته؛ فكذلك كان ابنا بارّا لسياقه الأوروپي العام -حديث التحرُّر من الشيوعيَّة- ومُعبرا عن لحظته التاريخيَّة. إذ بعد سقوط الأنظمة الشيوعيَّة في أوروپا (1989-1990م)، لم يكن بروز مفكر وقانوني على رأس البوسنة أمرا شاذّا بالمرَّة، في هذه البقعة من العالم (رغم أنه لا زال بعيدا البُعد كله عن الواقع العربي، الرسمي أو الحركي!)؛ فعلى التوازي، أدَّت أول انتخابات حرة في أوروپا إلى فوز الشاعر والكاتب المسرحي التشيكي ڤاتسلاڤ هاڤيل برئاسة بلاده، كما فاز برئاسة بُلغاريا الأكاديمي والفيلسوف جيليو جيليف، وانتصرت الجماهير في كرواتيا للمؤرخ فرانيو توجمان. وقد كان المشترك بين الأربعة أنهم من كبار المثقفين، وأنهم مُعارضون سابقون للأنظمة الشيوعيَّة؛ اضطهدوا واعتُقلوا في ظلها، وأن لهم مؤلَّفات أثَّرت في الرأي العام لبُلدانهم، وأعادت تشكيل الخطاب السياسي بل والرؤية الكونية لأقوامهم.

ولعلَّ النظرة المتأنية على الجارة البلقانية كرواتيا، تكشف لنا عن بعض المشترك بين علي عزَّتبيغوڤيتش وفرانيو توجمان: محاكمتهما في ظلِّ النظام الشيوعي اليوغوسلاڤي، بتُهمة: بث "الدعاية المعادية" للنظام، والحكم عليهما بالسجن، ثم حين بدأ الصرب عدوانهم على كرواتيا (1991م) والبوسنة (1992م)؛ صوَّرت الدعاية الصربية المعادية عزَّتبيغوڤيتش وتوجمان بوصفهما عدوين قوميين متطرفين ومسلحين، رغم أن بلديهما آنذاك كانا أعزلين تماما. وحملت تلك الدعاية على مؤلفاتهما، إذ اعتبرت أن بعض نصوصهما كان لها الأثر المباشر في "تدمير" يوغوسلاڤيا. وقد كان "الإعلان الإسلامي" هو المقصود في حالة عزَّتبيغوڤيتش.

أما ثالث الإشكالات، التي تجلَّت لنا إذ غُصنا في نصوصه؛ فهي باقة حداثيَّة من المؤثرات، التي تُرسِّخُ صورته بوصفه فيلسوفا أخلاقيّا أوروپيّا يلتزِمُ بالإسلام. ولعلَّ أبرز عناصر هذه الباقة ثلاثة: أولها هيمنة خُرافة التقدُّم وأولويَّة التحديث -بالمعنى الأوروپي- على المستوى السطحي من مستويات رؤيته النظريَّة (خصوصا في كتابيه: "الإعلان الإسلامي" و"عوائق النهضة الإسلامية")، وذلك رغم أنه يرفضها على مستويات أعمق؛ تتجلى أشد ما تتجلَّى في الاطراد الصادق لنسقه الكُلي في مؤلفه العمدة: "الإسلام بين الشرق والغرب". وهو حين يُحاول معالجة هذا التناقُض، يؤكد -مثله في ذلك مثل أكثر "المفكرين الإصلاحيين" إبَّان القرن العشرين- أن الإسلام سيُخفف من غلواء هذه الخرافة، وسيحدُّ من أضرارها! ومن ثم، نجده حينا يُحاول إعادة تعريف التقدُّم (رغم أنه تجاهل آنفا تعريف "منفعة الناس"، التي يقبل على أساسها علوم الغرب!)؛ لئلا يرفضه ولا يقبله على عواهنه. وهو معذورٌ، إذ لا يستطيع التخفُّف من وطأة هذه الخرافة ورفضها بالكُليَّة، وذلك كما يُصرِّح -في غير موضع- بأن غاية ما يصبو إليه هو نزع الرداء الأسطوري الذي تتدثَّر به، والأخذ البراغماتي منها ابتغاء "ما ينفع الناس".

هذا الإيمان العميق بأدوات التحديث (مثل: التعليم النظامي وصيرورة التصنيع)، وحتمية تبني الإسلام لها؛ يؤرقه في كل موطن، كما كان يؤرق كل مفكر مسلم مخلص من أبناء جيله. فلا يلبث أن يعود إليه ما بين آونة وأخرى، محاولا إعادة صياغته؛ إذ يؤكد على أن التقدُّم المادي والتقني، بغير أساس أخلاقي وروحي؛ سيُفضي إلى البربرية، كما يتجلَّى من الأمثلة الغربية المعاصرة. ويبدو أن إسباغ صبغة أخلاقية على التحديث، جريا على عادة الفلاسفة المثاليين وفلسفات عصر النهضة؛ كان هو آخر ما تمخَّضت عنه عبقريته الفذَّة، حين لم يستطع تجاوز ضخامة البنيان العلموي والتقني الغربي دون الأخذ منه.

ويتجسَّد العنصر الثاني من هذه الباقة في هيمنة الذهنيَّة القانونيَّة عليه حتى النُخاع، وذلك بحُكم المهنة، وبما انطبع في روحه من انضباط جواني مصدره الفلسفات المثاليَّة. بيد أنه حين يطَّرِدُ مع هذا الأثر أحيانا، فإنه يميلُ به إلى رؤية آليَّة انضباطيَّة برانيَّة، يرفضها نسقه الواعي رفضا قاطعا، بل ويكاد يبغض كل ما يعبر عنها. وهو تناقُضٌ يؤنسِنُ النسق الفكري، وينزع عنه رداء العصمة، ويستثير إعجاب القارئ البصير.

صحيح أن الصورة الجديدة -التي اتضحت لنا- هي صورة مُسلم مُلتزم، بل شديد الالتزام بحدود الشرع ومعاييره الأخلاقيَّة؛ بيد أنه مُفكر أوروپي حداثي بامتياز، "مُتحرِّر" ومُطَّرِدٌ فكريّا إلى مدى قد يُثير حفيظة الحداثيين والمحافظين العرب في آن معا
أما العنصر الثالث من عناصر هذه الباقة الحداثيَّة؛ فهو القاعدة الفكريَّة السُنيَّة الحداثيَّة، وعظيم تأثُّره بالتيارات الإصلاحيَّة، وتحديدا بالمدرسة المصريَّة؛ إذ تأثر -هو وجيله كله- بعدد كبير من المفكرين المصريين أبناء القرن العشرين، مثله في ذلك مثل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. أضف إليه عمق تأثُّره بالعلَّامة محمد إقبال اللاهوري، وشدَّة إعجابه بتجربته، واطراد أخذه عنه. لكنَّه رغم هذا التأثُّر العميق لا يصير مفكرا هنديّا ولا عربيّا ولا تُركيّا.. إلخ، وإنما يظلُّ مفكرا أوروپيّا بوسنويّا، شديد الاعتزاز بذلك دون غلو.

هذه الصورة التي أظهرها لنا العمل في ترجمة ومراجعة وتحرير نصوص عزَّتبيغوڤيتش، فصيَّرها بذلك صورة إشكاليَّة (بما أنها ستُعيد رسم ملامح الرجل من جديد بما يُخالف ما درج عليه القارئ العربي)؛ جعلتنا نُدرِكُ أن الرجل قد نُزع -نزعا شبه كامل- من سياقه الفكري والثقافي عند تقديمه للقارئ العربي أول مرة، بل ومن سياقه السياسي كذلك، رغم كثرة تسليط الضوء على جهاده ضد الصرب!

صحيح أن الصورة الجديدة -التي اتضحت لنا- هي صورة مُسلم مُلتزم، بل شديد الالتزام بحدود الشرع ومعاييره الأخلاقيَّة؛ بيد أنه مُفكر أوروپي حداثي بامتياز، "مُتحرِّر" ومُطَّرِدٌ فكريّا إلى مدى قد يُثير حفيظة الحداثيين والمحافظين العرب في آن معا، وذلك إلى حدٍّ يُمكن أن يُقارَن فيه حينا بمحمد أسد رحمهما الله.

لقد كانت الصورة مفاجئة لنا، كما سيُفاجأ بها القارئ البصير متى كان مُستعدا للاكتشاف والتعلُّم.

والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
__________
[1]- راجع مقالنا: لماذا علي عزَّتبيغوڤيتش؟!

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترجمة الفكري المسلمين كتب المسلمين الفكر شخصيات ترجمة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة إسلامی ا لا ی مکن رغم أنه ومن ثم علی عز التی ی التی ت صورة م بید أن فکری ا رغم أن

إقرأ أيضاً:

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)

 

*تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)*

*الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام*

 

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير

[email protected]

 

ختمت البروفيسور آمال قرامي تقديمها للطبعة الثانية التي ستصدر قريباً من كتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، قائلة:

“يصدر المُؤلَف في فترة حرجة من تاريخ السودان استشرى فيها العنف وتفتت فيه النسيج الاجتماعي، وكثرت فيها الخيبات والمآسي وبرزت فيها علامات التراجع عن أهداف الثورة السودانية. فهل يكون هذا المُؤلَف ملاذ الحائرين/ات والباحثين عن فهم أسباب ما يجري؟”

البروفيسور آمال قرامي

أستاذة الفكر الإسلامي والدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، تونس

 

*المفكر محمود محمد طه يرفض المثول أمام المحكمة*

 

قامت *محكمة الخرطوم العليا الشرعية* بتوجيه أمر إلى المفكر محمود محمد طه للمثول أمامها، غير أنه رفض أن يوقع على طلب المحكمة ليمثل أمامها يوم الاثنين 18 نوفمبر 1968. وقد فصلت صحيفة الأيام السودانية في ذلك، فأوضحت بأن محمود محمد طه قال إن القضاة السودانيين لا يملكون أية صلاحيات لتكفير أي إنسان أو إعلان ردته عن الإسلام. وأضاف بإن ما يدعوا إليه القضاة الآن هو الشريعة المرحلية للإسلام وأن موقفهم نفسه يوضح أن مثل هذا الفهم لا يصلح لإنسانية القرن العشرين. وفي عدد اليوم الثاني الاثنين 18 نوفمبر 1968، كتب الكاتب الصحفي بشير محمد سعيد (1926-1993) في مدخل حوار أجراه مع محمود محمد طه، قائلاً: “رد (الأستاذ محمود) الموظف الذي جاءه رداً (مهذباً) وقاطعاً.. حدثه أنه يرفض المثول أمام المحكمة”.

أرجع *الإخوان الجمهوريون* امتناع محمود محمد طه من المثول أمام المحكمة إلى أنه لا يريد أن يعطيها وزناً لا تستحقه، وحتى يضعها في موضعها ويعطيها حجمها، وقدرها الذي لا تعدوه. فالمحكمة ليس من اختصاصها ولا من اختصاص أية محكمة أخرى أن تنظر في مثل هذه القضية.. فهي قضية فكر ودين وليس للمحاكم وصاية على الفكر، والرأي، والاعتقاد. وقد تحدث العديد من القانونيين بعدم اختصاص المحكمة، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، تحدث محمد إبراهيم خليل المحامي، قائلاً: “ليس من اختصاص المحاكم الشرعية في السودان أن تحكم بكفر أحد أو إعلان ردته”. ومما يدل على عدم اختصاص المحكمة التي نظرت في القضية، أن حكمها جاء غيابياً، بسبب عجزها عن إحضار المتهم أمامها أو إجباره على الحضور، كما أنها لم تستطع تنفيذ الحكم الذي أصدرته. يضاف إلى ذلك، أن محمود محمد طه ظل يدعو إلى تطوير الشريعة الإسلامية، فلا يمكن أن يمثل أمام محكمة شريعة، تعمل بالشريعة السلفية، التي يدعو هو لتطويرها.

 

*انعقاد المحكمة*

 

جاء في صدر الصحف المحلية أن *المحكمة الشرعية العليا* برئاسة القاضي توفيق أحمد صديق عضو محكمة الاستئناف الشرعية العليا عقدت صباح يوم الاثنين 18 نوفمبر 1968 جلسة خاصة للنظر في الدعوى التي رفعها الشيخان الأمين داود وحسين محمد زكي ضد أفكار محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري. استمعت المحكمة لخطابي المدعيين الأمين داؤود، وحسين محمد زكي وإلى شهودهما. طلب المدعيان من المحكمة الآتي:

1. إعلان ردة محمود محمد طه عن الإسلام، بما يثبت عليه من الأدلة.

2. حل حزبه لخطورته على المجتمع الإسلامي.

3. مصادرة كتبه، وإغلاق دار حزبه.

4. إصدار بيان للجمهور يوضح رأي العلماء في معتقدات المدعى عليه.

5. تطليق زوجته المسلمة منه.

6. لا يسمح له أو لأي من أتباعه بالتحدث باسم الدين أو تفسير آيات القرآن.

7. مؤاخذة من يعتنق مذهبه بعد هذا الإعلان، وفصله إن كان موظفاً، ومحاربته إن كان غير موظف وتطليق زوجته المسلمة منه.

8. الصفح عمن تاب واناب وعاد الى حظيرة الإسلام من متبعيه أو من يعتنقون مبدأه.

 

عُقدت *المحكمة الشرعية العليا* برئاسة القاضي توفيق أحمد صديق عضو محكمة الاستئناف الشرعية العليا جلسة خاصة في صباح الاثنين 18 نوفمبر 1968 للنظر في الدعوى رقم 1035/1968. استمعت المحكمة لخطابي المدعيين الأمين داود، وحسين محمد زكي، وإلى شهودهما. استغرقت أقوال المدعيين وشهودهما ثلاث ساعات ثم رفعت المحكمة جلستها لمدة ثلث ساعة فقط. وعند انعقادها للمرة الثانية قرأ القاضي حيثيات الحكم التي جاء فيها أن المحكمة، بعد السماع لادعاء المدعيين، وسماع الشهود، تأكد لديها أن المدعى عليه قد ارتد عن الإسلام، وعليه فإن المحكمة تحكم بردة محمود محمد طه عن الإسلام غيابياً. بهذه البساطة والعبثية يحكم قاضي المحكمة، فإذا سلمنا جدلاً بهذه المحكمة التي تمثل أنصع نموذج للفوضى القانونية والعبث بالنظام الديمقراطي، وتعاطينا مع معطيات انعقادها، فهل يعقل أن تكفي ثلاث ساعات للاستماع لخطبتي المدعيين وشهودهما؟ ثم هل يكفي ثلث الساعة للتداول لإصدار حكم في قضية موضوعها الأفكار؟ هل تكفي هذه الثلاث ساعات وثلث لمحاكمة مفكر نشر حتى تاريخ انعقاد المحكمة، (14) كتاباً، ونشر أكثر من مائتي مقالاً صحفياً، وأصدر عشرات البيانات، إلى جانب تنظيم عشرات المحاضرات واللقاءات الإعلامية، فضلاً عن إرسال الرسائل إلى الرؤساء والعلماء والمفكرين حول العالم؟ لا أعتقد أننا في حاجة للإجابة على هذه الأسئلة، فالصورة واضحة للقراء الكرام، وليس هناك وصف دقيق ينطبق على هذه المحكمة، أكثر من الوصف الذي أطلقه عليها الإخوان الجمهوريون في كتاباتهم ومنشوراتهم، بأنها “المحكمة المهزلة”. فكل الخطوات التي اتبعت من أجل انعقاد هذه المحكمة من دسائس ومؤامرات وكيفية تشكيل ومداولات وحيثيات وصدور الحكم… إلخ كلها تؤكد بأنها “المحكمة المهزلة” التي جرت على القضاء السوداني العار ما سيبقى على صفحات التاريخ، إلى نهاية التاريخ. لقد مثلت هذه المحكمة قمة الفوضى القانونية، وعبرت عن عبث القضاء الشرعي، كما وصفه محمود محمد طه، قائلاً: “هل أهينت رجولة الرجال، وامتهنت حرية الأحرار، واضطهدت عقول ذوي الأفكار، في القرن العشرين، وفي سوداننا الحبيب، بمثل هذا العبث الذي يتورط فيه القضاة الشرعيون؟”. لقد عُقدت هذه المحكمة المهزلة بمؤامرة واسعة شارك فيها القضاة الشرعيون، والقادة السياسيون، ورجال الدين، ومشايخ *الأزهر*، وأساتذة *جامعة أم درمان الإسلامية*… إلخ.

 

*محكمة الردة 1968 تمهيد لمؤامرات التحالف الديني العريض (1968- 1985)*

 

شكَّل انعقاد محكمة الردة، المحكمة المهزلة عار القضاء السوداني، وإصدارها الحكم بردة المفكر محمود محمد طه في 18 نوفمبر 1968، لحظة تكوين لتحالف ديني عريض ضد المفكر محمود محمد طه وتلاميذه *الإخوان الجمهوريين*. فما أن أصدرت المحكمة حكمها، حتى توالت الخطابات من مكونات ذلك التحالف الديني العريض من خارج السودان، حيث المؤسسات الإسلامية وعلمائها، التي هي محور كتابنا المشار إليه أعلاه، موجهة إلى وزير الشؤون الدينية والأوقاف في السودان، وهي تحمل التأييد لحكم الردة، وتحمل الفتوى بردة محمود محمد طه عن الإسلام، حيث كفر *الأزهر* المفكر محمود محمد طه، وافتى المجلس التأسيسي *لرابطة العالم الإسلامي* بردة المفكر محمود محمد طه عن الإسلام، كما ييرد التفصيل لاحقاً. كذلك مثَّل الحكم بالردة، سابقة خطيرة، حيث تم استدعاؤه والأخذ به مع فتوتي *الأزهر* و *رابطة العالم الإسلامي* في محاكمة يناير 1985، التي حكمت على محمود محمد طه بالإعدام، كما سيرد التفصيل في الحلقات القادمة.

نلتقي في الحلقة السابعة.

الوسومالذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى الفهم الجديد للإسلام تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي تشكيل التحالف الديني العريض

مقالات مشابهة

  • اكتشاف علامة مبكرة لتطور مرض السكري من النوع الأول
  • رابطةُ العالم الإسلامي تُدين الهجومَ الإرهابيَّ قرب تدمُر السورية
  • اكتشاف لوحة فسيفساء تعود إلى الحقبة البيزنطية بريف دمشق
  • مفاجأة لعشاق السلسلة..اكتشاف كوكب حرب النجوم الحقيقي
  • اكتشاف علامة مبكرة لتطور الذهان عند الشباب
  • الوحدة إلى نهائي كأس «أبوظبي الإسلامي»
  • اكتشاف المواهب الرياضية بمركز شباب اليمن بالاسكندرية
  • اكتشاف جدار حجري عمره 7 آلاف عام تحت الماء قبالة فرنسا
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • اكتشاف سبب لزيادة خطر أمراض القلب والسكري عند كبار السن