الصراع في البحر الأحمر: السعي لـالهيمنة العالمية
تاريخ النشر: 7th, February 2024 GMT
الصراع في البحر الأحمر: السعي لـ"الهيمنة العالمية"
لم تكن الهيمنة البريطانية مبنية على استراتيجية «توازن القوى»، التي تحاول أميركا تطبيقها اليوم، بمنع أي قوة من الظهور في المسرح العالمي.
انخراط أميركي مكلف في الشرق الأوسط دفاعًا عن "إسرائيل" كقاعدة إمبريالية متقدمة للهيمنة الغربية، ومحاولة "السيطرة على الأمواج" بالقوة العسكرية.
ترتبط العمليات البحرية في البحر الأحمر، إلى حدّ بعيد، بالسيطرة على ممرات الملاحة وطرقها الاستراتيجية، لأنها تشكّل المفتاح الأساسي للسيطرة العالمية.
استفاد البريطانيون من السلام الذي تحقّق نتيجة تسويات «الوفاق الأوروبي» عام 1815، وأدّوا دور "الراكب بالمجان" free rider، على حساب دول أوروبا الأخرى.
استراتيجية إدارة بايدن سعت للانخراط في صراع بالوكالة مع الروس، واندفعت لاحتواء الصين عبر تحالفات في محيطها الجغرافي، وتطويقها بقواعد عسكرية.
أمور عديدة تجعل قدرة الأميركيين على فرض نمط إمبراطوري وفرض "السلام الأميركي" والسيطرة العالمية، أمراً أصعب، فالانخراط العسكري مكلف ويحتّم مواجهة مقابلة تكاليفها كبيرة على أميركا والعالم.
* * *
في وقت تستمر عمليات التحالف الأميركي في البحر الأحمر، أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، مهمة مماثلة، لكن مستقلة للاتحاد الأوروبي، أطلق عليها اسم "أسبايرز"، مهمتها "حماية السفن في البحر الأحمر"، كما قال من دون تحديد الدولة الأوروبية، التي ستقود تلك العملية.
واللافت، في هذه المهمّات العسكرية البحرية، قيام الأميركيين والأوروبيين بمهمات بحرية عسكرية في البحر الأحمر، لمواجهة حركة "أنصار الله"، التي قالت إنها ستفرض حظراً على السفن المتجهة إلى "إسرائيل"، أو التي يملكها إسرائيليون، بهدف وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، علماً بأنه كان من الأجدى أن يعالج الأميركيون والأوروبيون سبب المشكلة وجذورها، لا نتائجها.
واقعياً، ترتبط العمليات البحرية في البحر الأحمر، إلى حدّ بعيد، بالسيطرة على ممرات الملاحة وطرقها الاستراتيجية، لأنها تشكّل المفتاح الأساسي للسيطرة العالمية، علماً بأن التاريخ العالمي يشير إلى أن السيطرة على البحار والطرق الملاحية كانت سبباً رئيساً في هيمنة بريطانيا على العالم، وسبباً في نجاح ما يسمى "السلام البريطاني" Pax Britannica.
كان يُنظر إلى "السلام البريطاني" (1815-1914)، أو قرن "السلام الأوروبي"، حين بلغت بريطانيا ذروتها كقوة مهيمنة، على أنه دليل على أن أداء دور "الموازن من خارج الصراع" يمكن أن يكون استراتيجية كبرى ممتازة لقوة مهيمنة.
أمّا الأمور، التي ساهمت في إرساء "السلام البريطاني"، أو الهيمنة البريطانية على العالم، فهي:
1. الانتصار في الحروب ضد نابليون.
2. قدرات اقتصادية وعسكرية هائلة من أجل تحقيق مكانة القوة العظمى.
3. تفوّق بحري وتكنولوجيا عالية وقوات برية هائلة من أجل المساهمة في توازن القوى الأوروبية.
4. الاعتراف العالمي بوضع بريطانيا قوةً عظمى.
وتشير الدراسات إلى أن قدرة بريطانيا على بناء إمبراطورية عالمية، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت ممكنة بفضل تفوقها البحري. خلال تلك الفترة، اعتمدت السياسة الخارجية البريطانية، بصورة كبيرة، على ما يسمى استراتيجية "حكم الأمواج".
وهي استراتيجية تستلزم تطوير أسطول قوي للدفاع عن المصالح البريطانية على مستوى العالم، وخصوصاً مستعمراتها وخطوطها التجارية، بالإضافة إلى قيام البحرية الملكية بالتحكم والسيطرة على الطرق المائية الاستراتيجية لدعم المصالح البريطانية.
وعليه، باتت بريطانيا قادرة على فرض شروطها في جميع أنحاء العالم، وهو أمر ضروري للمحافظة على هيمنتها ونفوذها في العالم.
ووفق التصور نفسه، فإن انتشار الولايات المتحدة العسكري في مياه الشرق الأوسط، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية، وخصوصاً في الخليج وباب المندب، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، والمحيط الهندي، مدفوعاً باهتمامها بالمحافظة على طرق التجارة البحرية وحرية الملاحة، أمرٌ يشي بمحاولتها السعي لممارسة نفوذ عالمي شبيه بنفوذ بريطانيا العظمى خلال فترة "السلام البريطاني".
لكن الفارق بين "السلام البريطاني" ومحاولة الولايات المتحدة فرض نموذج مشابه، بعنوان "السلام الأميركي"، يتجلى في الانخراط الأميركي المكلف عسكرياً في العالم، ومحاولة السيطرة على العالم عبر المواجهة المباشرة مع القوى الكبرى في النظام، وهو ما لم تفعله بريطانيا خلال فترات سيطرتها، التي أدركت تكلفة الانخراط العسكري المكلف وتوسعه.
وتذكر الدراسات التاريخية أنه، حتى خلال الحروب النابليونية، وعندما اضطرت بريطانيا إلى مواجهة جماح الصعود المحتمل لقوى أوروبية عظمى أخرى وكبحه، حافظت على استراتيجية "الانعزال" التي ساعدتها على المحافظة على نفوذها.
ولخّص نايجل جونز، أحد المؤرخين المهمين في هذا الإطار، الاستراتيجية البريطانية الكبرى في القرن التاسع عشر، قائلاً إن "بريطانيا، التي كانت تحكم أمواج العالم، كانت راضية بأن تهتم بشؤونها على هامش أوروبا، وتركّز جهودها واهتمامها بشأن الثراء والبحبوحة ودعم الصناعة الفيكتورية، فاتسعت إمبراطوريتها حتى حكمت ربع الكرة الأرضية"، في حين كان الأوروبيون مشغولين بالاقتتال وتوازن القوى فيما بينهم.
وهكذا، خلال القرن التاسع عشر، لم تكن الهيمنة البريطانية مبنية على استراتيجية «توازن القوى»، التي تحاول أميركا أن تطبّقها اليوم، فتقوم بمحاولة منع أي قوة من الظهور في المسرح العالمي.
بل استفاد البريطانيون من السلام الذي تحقّق نتيجة تسويات «الوفاق الأوروبي» عام 1815، وأدّوا دور "الراكب بالمجان" free rider، على حساب الدول الأوروبية الأخرى. وهكذا، استفاد البريطانيون ووسّعوا نفوذهم وصناعتهم ونعموا بالبحبوحة على حساب الدول الأخرى التي اقتتل فيما بينها وعانت تكاليف الحروب.
في النتيجة، إن الاستراتيجية التي تتبعها إدارة بايدن، والتي سعت للانخراط في صراع بالوكالة مع الروس، واندفعت إلى احتواء الصين عبر تأسيس تحالفات في محيطها الجغرافي، وتطويقها بقواعد عسكرية، بالإضافة إلى الانخراط المكلف في الشرق الأوسط من أجل الدفاع عن "إسرائيل" وترسيخها قاعدة غربية متقدمة للهيمنة الغربية، ومحاولة "السيطرة على الأمواج" بالقوة العسكرية...
كل هذه الأمور تجعل قدرة الأميركيين على فرض نمط إمبراطوري شبيه بالإمبراطورية البريطانية، وفرض "السلام الأميركي" Pax Americana والسيطرة العالمية، أمراً أصعب، لأن الانخراط العسكري مكلف ويحتّم مواجهة مقابلة، ستكون تكاليفها كبيرة أيضاً على الأميركيين والعالم.
*د. ليلى نقولا أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
المصدر | الميادين نتالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: اليمن أميركا بريطانيا الصراع البحر الأحمر السلام البريطاني السلام الأميركي فلسطين الحرب على غزة القوات المسلحة اليمنية الهيمنة العالمية السلام البریطانی فی البحر الأحمر السیطرة على
إقرأ أيضاً:
إبراهيم شقلاوي يكتب: آن للسودان أن يرقص على رؤوس الأفاعي
الرقص على رؤوس الأفاعي مقولة شهيرة ارتبطت بالرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، في توصيفه لواقع سياسي معقد تطلّب إدارة توازنات دقيقة داخليًا وخارجيًا. واليوم، تكاد العبارة تنطبق على المشهد السوداني، وسط تحولات إقليمية كبرى تعيد تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط. فالحرب بين إيران وإسرائيل بصرف النظر عن مالاتها تعبّر عن مرحلة جديدة تتشابك فيها المصالح، وتتنوع أدوات النفوذ، حيث أضحت المواجهة العسكرية جزءًا من مشروع استراتيجي أوسع يعيد رسم خرائط الهيمنة الإقليمية في المنطقة.
في هذا السياق، يجد السودان نفسه في موقع بالغ الحساسية، تتقاطع فيه التحديات الداخلية مع صراعات إقليمية متسارعة، تجعله جزءًا من معادلات تتجاوز حدوده.
ويأتي الحراك الأميركي في المنطقة، مدعومًا بتأييد غير مشروط لإسرائيل، وتمويل الحرب عبر قوى خليجية – بحسب مراقبين – ضمن مشروع لإعادة هندسة النظام الإقليمي، وإنتاج أنظمة سياسية عربية جديدة، لا تكتفي بالولاء، بل تندمج بالكامل في مشروع التطبيع وفق المشروع الإبراهيمي . إذ لم يعد المطلوب أنظمة موالية فحسب، بل بنى سياسية وثقافية تتماهى مع تصوّر إسرائيلي-أميركي للمنطقة، يُعيد ضبط الإقليم وفق معايير الهيمنة الناعمة والتحكم المستدام.
وسط هذه المتغيرات، يبرز السودان كحالة استثنائية تحمل إمكانات استراتيجية واعدة، إذا أُحسن توظيف التوازنات الإقليمية، واللعب على خطوط التماس بحذر وذكاء. ورغم الجراح الداخلية المفتوحة، وتعقيد الأزمات السياسية والاجتماعية، فإن السودان يمتلك موقعًا جيوسياسيًا بالغ الأهمية، وموارد طبيعية وبشرية ضخمة، وموقعًا إقليميًا يربطه بالقرن الأفريقي ومحيط البحر الأحمر والخليج العربي في آنٍ واحد. وإذا كان بعض الفاعلين الإقليميين مهددين بالذوبان أو السقوط في فوضى ممنهجة، فإن السودان، إن أحسن ترتيب بيته الداخلي، قادر على التحوّل من دولة كانت على هامش الصراع إلى دولة مركزية مؤثرة في معادلات ما بعد الصراع.
ومع اتساع رقعة الحرب في الخليج، وارتفاع كلفتها، وتزايد احتمالات الانهيار في بعض دوله، قد يصبح السودان الوجهة الأقرب والأكثر قابلية لاستقبال تدفقات بشرية واقتصادية هائلة، سواء من مواطنيه العائدين من هناك، أو من عربٍ قد تدفعهم الأوضاع إلى الهجرة بحثًا عن أمن مفقود. هذه الموجات المتوقعة من النزوح العربي والخليجي نحو السودان قد تُشكل، إذا أُديرت بوعي، رافعة اقتصادية ضخمة تسهم في تحريك عجلة الإنتاج، وتوسيع السوق المحلي، وزيادة الطلب على الخدمات والسلع والمساكن، فضلًا عن إمكانية استثمار رؤوس الأموال الهاربة في قطاعات واعدة كالتعدين، الزراعة، والطاقة والثروة الحيوانية .
إن التحول الإقليمي المقبل لا يقتصر على الاقتصاد، بل يمتد إلى بنية الأمن في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. وإذا نجح السودان في استعادة الاستقرار، فقد يتحول جيشه – بما أثبته من كفاءة قتالية – إلى ركيزة إقليمية لحفظ التوازن. ومع تراجع الأدوار الخليجية، تتعاظم قيمة السودان كفاعل استراتيجي، ويغدو جيشه طرفًا مطلوبًا في معادلات الأمن الإقليمي، بما يعزز نفوذه السياسي والتفاوضي في لحظة تعاد فيها هندسة المنطقة.
لكن جميع السيناريوهات تظل مرهونة بقدرة السودان على التقاط لحظته التاريخية، باعتبارها فرصة لتأسيس مسار استراتيجي جديد. فالنجاح مرهون بالتحرك المدروس، وتجنّب استنساخ تجارب الماضي، وامتلاك رؤية وطنية عقلانية تتجاوز الانقسامات، وتؤسس لدولة فاعلة لا منفعلة. ويتطلب ذلك قيادة تدرك حساسية التوقيت، وتبني سياساتها الخارجية على براغماتية هادئة توازن بين المصالح الوطنية والنفوذ الإقليمي ، بعيدًا عن الشعارات والاستقطاب الأيديولوجي.
السودان لم يعد فاعلًا هامشيًا في الإقليم، بل أضحى مركزًا استراتيجيًا في قلب التحولات الجيوسياسية الجارية. فالخرائط الجديدة تُرسم خلف الكواليس، والفراغ الذي خلّفه تراجع النفوذ الخليجي في البحر الأحمر لا بد أن يُملأ. وإن لم يبادر السودان إلى ملئه، فسيفعل ذلك فاعلون آخرون.
لذا، فإن اللحظة تقتضي وعيًا استراتيجيًا عقلانيًا، يتجاوز الحسابات العاطفية والماضي المثقل بالجراح، ويدرك أن التحولات الكبرى – مهما بدت مدمّرة – تحمل في طياتها فرصًا لمن يُحسن قراءتها بذكاء وواقعية.
وبحسب ما نراه من وجه الحقيقة لقد آن للسودان أن يرقص على رؤوس الأفاعي. وليس في ذلك مجازفة متهورة، بل استجابة لطبيعة اللحظة التاريخية التي لا تسمح بالتقوقع أو الانتظار. فالأفاعي تتحرك، والخرائط يُعاد رسمها، والمصالح تتبدل. ومن يمتلك القدرة على السير فوق الحبال المشدودة دون أن يسقط، هو من سيكون له نصيب في صناعة التاريخ وكتابته. وربما يكون السودان، بثقله الجيواستراتيجي، أمام بوابة مختلفة، لا تفتحها القوة وحدها، بل يُفتح قفلها بالعقل، والرؤية، والبصيرة.
إبراهيم شقلاوي
إنضم لقناة النيلين على واتساب