حتى لا ننسى: حصار اللقمة يطوّق قطاع غزة
تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT
أثير – مكتب أثير في دمشق
جائعون.. الدمار يحيط بكل الأشياء والأشخاص والحالات، لا شيء في الأفق إلا خفافيش الظّلام التي تملأ الأفق الصدئ، صوت حشرجات الأطفال تتكدس كغيوم سوداء في سماء عقول الآباء والأمهات.
كل شيء يبكي.. الأشجار المحروقة ترفع أذرعها للسّماء متوسّلة، فصوت أنين الجرحى والأمهات الثكالى نفذ إلى صميم عروقها، فصارت تشعر وتتألم.
صارت البيوت نائمة على امتداد الأراضي المحروقة، نوافذها لم تعد مشرعة فقد امتطاها الخراب، وأعمدتها لم تعد واقفة، لم يتعبها الوقوف، إنما كسر ظهرها النوم على الأرض، وضعت ثقلها ولم ترتح، تقاعدت عن حمل ثقل البيوت، ماتت فصارت البيوت قبوراً وعافت أهلها.
بين كلّ هذه المواجع يسكن الأطفال، أقصد من بقي من الأطفال مع بقايا الأهل، تحت حائط نصفة مائل والنصف الآخر متهالك، في ظله هناك أطفال صبروا كثيراً، ينتظرون أن يشرق ضمير العالم ويسفر عن لقمة خبز، أو حفنة حليب بودرة لطفلٍ رضيع لايزال فيه بقية من حياة.
في حصار اللّقمة.. قد لا يكون الموضوع مشجعاً للخوض في مفرداتٍ قد لا تقوى ولا تتسع لحمل المعاني، دبابات، طائرات، كل أنواع الأسلحة تحاصر طفلاً جائعاً أو امرأة ثكلى أو والد منكوب.
يجب أن يجوعوا.. الجوع أولاً بعد ذلك يموتوا..
لا يسمح لهم العالم بممارسة حقهم في المضغ والهضم، غريزة الجوع لا يحتاجونها
هكذا يقول العالم المتحضر!!!!
أين يحصل ذلك؟!
ليس بعيداً من هنا.. وهناك.. وكلّ الأمكنة
حيث الضّمير أخذ غفوة أبدية
في عالم الذي لم تعد تعنيه الضحية إلا إذا أراد بيعها، هنا حيث صارت غزة في الأسر وتحت النار، وبلا ماء أو طعام.
هل من نسمة حياء أو هبة خجل تجعل العالم الوقح يشعر أنه يفقد من أوردته آخر نقطة من الدم، التي بتحليلها يثبت أنه لم يعد ينتمي للجنس الإنساني.
تحجر البشر “قد يحزن الحجر من نعتهم بهذه الصفة” ولا مخلوق قد يفعل ذلك سوى البشر، وبئس ما يفعل البشر.
صبرا أيها الطفل الفلسطيني على البلوى فقد ولدت في محيط يسرع لإغداق عدوك بالعطايا
ويصم أذنيه عن شكواك..
لا تبكي يا بني فالبكاء عملة فقدت مفعولها.
اليوم العملة المتدوالة عملة المصالح والرياء.
هو الفلسطيني الذي قتلت إسرائيل نباتات أرضه، نعم بدأت بحربها من هناك، من نبتة الزرع والشجرة المثمرة والزيتون التي تعينه على المقاومة.
وقتلت الحيوانات التي لا ذنب لها إلا أنها في أرض يجب أن يموت أهلها.
حتى أدوات الصيد عاملها الإسرائيلي معاملة الأحياء، خاف منها، لربما ساعدت الفلسطيني على الحياة لذلك حكم على كل هذه الأدوات بالإعدام.
رحلة كيس الطحين الذي يدخل بهويته المعروفة من الأمم المتحدة كمساعدات، يتوقف كثيراً ويتعرض للتفتيش والانتظار. وعلى مرأى من دبابات الاحتلال يأخذ شاب كيس دقيق بعد طول انتظار ومعاناة ويبدأ بتقبيله مراراً ويقول “والله أخذتو من تحت الدبابة”.
إنها الحرب الجديدة القديمة، حرب اللقمة في مسار انعدام نواميس بعض الدول.
المقرر الخاص للأمم المتحدة مايكل فخري يقول: إن إسرائيل تستخدم الجوع سلاحاً لإيذاء وقتل المدنيين في قطاع غزة، ولم نشهد منذ الحرب العالمية الثانية مجاعةً سريعة وكاملة للمدنيين كما حدث في غزة، وبسبب سوء التغذية يتعرض جيل كامل لخطر الإعاقات الجسدية والإدراكية الدائمة، وهو ما يسميه الأطباء “التقزّم”.
محكمة العدل الدّولية قضت بأن تصرفات إسرائيل “قد ترقى” إلى مستوى الإبادة الجماعية.
(قد) هنا حرف تقليل، وقد يكون أول مرة يعرب حرف تقليل من فداحة الجريمة.
و(ترقى) أفعال لا تمتّ للرقي بصلة
تصرفات إسرائيل جرائم ضد الإنسانية وهي تنزلق لمستوى الإبادة.. بل وتنحدر لأسفل من مستوى الإبادة…
هذا صحيح وماذا بعد؟
ماذا يترتب على أن الأمم المتحدة تعرف وتعترف؟!
وما الذي فعلته أو ستفعله؟
لا شيء.. لا شيء مطلقاً
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
«حاملة الطائرات التي لا تغرق: إسرائيل، لماذا تخشى السعودية أكثر مما تخشى إيران؟»
«حاملة الطائرات التي لا تغرق: إسرائيل، لماذا تخشى السعودية أكثر مما تخشى إيران؟»
محمد الحسن محمد نور
حين ننظر إلى المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط من منظور القرار الأمريكي في واشنطن، فإن السؤال الأكثر إلحاحًا لا يدور حول أخلاقية دعم هذا الطرف أو ذاك، بل حول حساب الربح والخسارة في معادلة معقدة. لماذا تظل الولايات المتحدة متمسكة بدعم إسرائيل دعمًا مطلقًا، حتى عندما تتجاوز تصرفاتها حدود القانون الدولي وتسبب إحراجًا دبلوماسيا لواشنطن؟
الجواب لا يكمن في نقطة واحدة، بل في شبكة من المصالح المتشابكة التي تشكل عقيدة استراتيجية راسخة. فإسرائيل، برغم مساحتها الصغيرة، هي أكثر من مجرد دولة حليفة؛ إنها حاملة طائرات غير قابلة للغرق، ومختبر ميداني للتكنولوجيا العسكرية المتطورة، ووكيل موثوق لتنفيذ عمليات تحفظ واشنطن لنفسها تبعاتها المباشرة. هذا الدور التشغيلي الفريد يعطي لإسرائيل قيمة لا تُقدَّر بثمن في منطقة يعتبر الاستقرار فيها شحيحًا والولاءات متقلبة. ولكن تبقى هذه العلاقة محكومة بحسابات البراغماتية الصرفة، فالدعم الأمريكي لا ينبع من عاطفة أبدية، بل من تقاطع مصالح يُعاد تقييمه باستمرار تحت ضوء المتغيرات الإقليمية.
وفي الجهة المقابلة من هذه المعادلة، تقف المملكة العربية السعودية كعملاق جيوسياسي يطرح نفسه بديلاً استراتيجيا جذابًا لأمريكا. وربما مرعبًا لإسرائيل. فبرغم أن مساحة إسرائيل لا تقارن بمساحة السعودية الشاسعة، وبرغم أن ثروة الأخيرة الهائلة تجعلها شريكًا اقتصاديًا لا يُستهان به كما أشار ترمب، إلا أن المقارنة الحقيقية ليست في الجغرافيا أو الثروة وحدهما.
فالسعودية تمتلك ما هو أثمن: نسبة عالية من الاستقرار الداخلي والإقليمي، وغياب الأعداء المباشرين الذين يحيطون بإسرائيل من كل حدب وصوب، ونفوذ ديني وثقافي يمتد لقلب العالم الإسلامي. والأهم من وجهة النظر الأمريكية، أن شراكة السعودية لا ترهق أمريكا بالحروب العديمة الجدوى، ولا تفرض عليها الدخول في صراعات مباشرة؛ بل تقدم نفسها كقوة مستقرة قادرة على إدارة ملفاتها الأمنية بنفسها، وتكون ركيزةً للاستقرار الإقليمي بدلاً من أن تكون بؤرة للصراع الدائم. هذا الواقع يطرح سؤالاً وجوديًا في أروقة تل أبيب: هل تخشى إسرائيل أن تكون السعودية بديلاً لها في يوم ما؟ الخشية حاضرة وبقوة، ولكنها ليست خشية من زوال، بل خشية من إعادة ترتيب للأولويات.
فالقلق الإسرائيلي العميق لا يتعلق باحتمال أن تتخلى واشنطن عن دعمها بين عشية وضحاها، بل بأن يتقلص دورها من حليف استراتيجي لا غنى عنه، إلى مجرد أداة واحدة ضمن عدة أدوات في صندوق أدوات السياسة الأمريكية. إن صعود التحالف الأمريكي-السعودي ليكون المحور المركزي في المنطقة يعني ببساطة أن القيمة التفاوضية لإسرائيل ستهبط، وأن قدرتها على الحصول على دعم غير مشروط لأجندتها الأمنية ستنخفض.
ولهذا، نرى أن إسرائيل تعمل جاهدة على إبقاء ملفات المنطقة ساخنة ومفتوحة، وتقاوم أي محاولة لترتيب الوضع الإقليمي على نحو يقلل من أهميتها العسكرية والاستخباراتية لواشنطن – من مقاومة الاتفاق النووي الإيراني 2015، مرورًا بالضغط لإفشال انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وصولاً إلى عرقلة أي تقارب سعودي-إيراني حقيقي. إنها تدرك أن نفوذها مرتبط باستمرار حالة الطوارئ والصراع، فيما تقدم السعودية نفسها كضامن للاستقرار والطاقة والعلاقات الاقتصادية الواسعة، وهي سلع تزداد قيمتها في عالم تتزايد فيه المنافسة مع الصين وروسيا. وإذا حدث هذا التحول وأصبحت الرياض الشريك الأول لواشنطن، فإن المشهد سيتغير جذريًا.
فالسؤال المصيري هو: إذا تحول ميزان القوة لصالح السعودية، هل يزيد هذا من نفوذ أمريكا أم ينقصه؟ الإجابة معقدة وتحتوي على تناقضات.
على المدى القصير، قد يوسع هذا التحول من نفوذ أمريكا، إذ ستمتلك واشنطن بوابة مباشرة إلى قلب العالم العربي والإسلامي عبر شريك قوي ومستقر، قادر على تحقيق استقرار أوسع قد يخفف من حاجة الولايات المتحدة للتدخل المباشر المكلف.
لكن على المدى الطويل، قد تأتي الخسارة من حيث لا تُحتسب. فاستبدال حليف عسكري منضبط مثل إسرائيل، يتحرك كذراع تنفيذي سريع وحاد، بشريك كبير ذي أجندة وطنية مستقلة مثل السعودية، يعني أن واشنطن قد تفقد السيطرة على تفاصيل المشهد. قد تتبع الرياض سياسات اقتصادية أو تقاربًا مع منافسي أمريكا مثل الصين، أو تتبنى مواقف متصلبة في ملفات مثل إيران أو اليمن تتعارض مع الحسابات الأمريكية الدقيقة.
والأخطر من ذلك داخليًا، أن أي تحول في الدعم التاريخي لإسرائيل سيشعل حربًا سياسية ضارية داخل الولايات المتحدة بين المحافظين الإنجيليين والليبراليين وأصحاب المصالح، مما يُضعف قدرة واشنطن على تطبيق سياسة خارجية متسقة وقوية، وهو أكبر هدية يمكن تقديمها لمنافسيها على الساحة العالمية.
في الختام، إن اللعبة الكبرى التي تدور رحاها في الشرق الأوسط اليوم ليست بين السعودية وإسرائيل فحسب، بل هي اختبار حقيقي لذكاء الاستراتيجية الأمريكية نفسها. فالنفوذ الحقيقي لا يكمن في الانحياز الأعمى لحليف واحد، مهما بلغت قوته، بل في الفن الدقيق لإدارة التوازن بين جميع القوى في الساحة، وجعل كل طرف يشعر أنه في حاجة إلى الوسيط الأمريكي بطريقة مختلفة. المصلحة الأمريكية العليا ليست في دعم إسرائيل لأنها الأقوى عسكريًا، ولا في التحول إلى السعودية لأنها الأغنى، بل في منع أي منهما من أن تصبح قويةً لدرجة الاستغناء عن واشنطن، أو أن تشعر بالأمان لدرجة السير في طريق مستقل. الخطر الذي يتهدد النفوذ الأمريكي ليس من منافس خارجي يظهر فجأة، بل من تحول التنافس الخفي بين حلفائه إلى صراع مفتوح، يُجبر واشنطن على الاختيار فتخسر أحد رهاناتها.
وفي النهاية، الولايات المتحدة لا تخسر عندما يتقاتل أعداؤها… بل عندما يتصالح حلفاؤها.
الوسومأمريكا إسرائيل إيران الشرق الأوسط الصين الملف النووي الإيراني دونالد ترامب روسيا سوريا محمد الحسن محمد نور واشنطن