«الإيكواس».. خدَمتها السياسةُ أم أضرتها؟
تاريخ النشر: 29th, February 2024 GMT
محمد المنى - أبوظبي
كانت الأعوام الثلاثة الماضية الأخيرة أصعب فترة مرت على «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» (إيكواس) منذ إنشائها قبل قرابة نصف قرن من الآن، إذ شهدت بدايةً من عام 2020 أحداثاً كانت بمثابة امتحان عسير لتماسك المجموعة ولقدرتها على الاستمرار وتحقيق التكامل والتصدي للأزمات. فقد شهدت أربعُ دول أعضاء في المجموعة، هي مالي وبوركينا فاسو وغينيا والنيجر، انقلاباتٍ عسكريةً أُطيح فيها برؤساءَ منتخبين لهذه الدول، ما اضطر الإيكواس لفرض عقوبات ضدها تباعاً، الأمر الذي عطل جهودَ التعاون الاقتصادي، وأضرَّ بخطط التكامل، وجعلَ المجموعة أمام خيارين: إما التدخل العسكري لإعادة النظام الدستوري بما يترتب على ذلك من مخاطر وتداعيات، أو التعايش مع الانقلابات العسكرية كأمر واقع لا مفر منه.
ردت مجموعة الإيكواس على الانقلابات العسكرية في كل من مالي وغينيا وبوركينا فاسو، بتعليق عضويتها تباعاً في المجموعة، ومعاقبتها اقتصادياً، لكن الإيكواس اضطرت للتراجع عن تهديدها بعمل عسكري في النيجر، خاصة بعد ما بدا «هجمةً مرتدة» من جانب الدول الثلاث، مالي وبوركينا فاسو والنيجر، حين قررت الخروجَ مجتمعةً من المجموعة.
وساهمت الأحداث المتلاحقة والأزمات المتتالية في تغيير نظرة الإيكواس لنفسها، وفي إثارة التساؤل مجدداً حول جدوى انغماسها في القضايا ذات الطابع السياسي بدلاً من التركيز على ملفات التكامل الاقتصادي والتبادل التجاري.
وعلى ضوء تلك الأحداث والأزمات، يثير هذا الملف الصحفي التحليلي الخاص بعضَ التساؤلات محاولاً الرد عليها:
هل استطاعت الإيكواس الوصول إلى الأهداف والغايات والقيم التي تبنتها ووعدت بالسعي لتحقيقها كتكتل إقليمي؟ وما الآثار المترتبة على انخراطها في أزمات ذات طابع سياسي؟ وهل تحافظ على وحدتها وتتجاوز حالةَ الانقسام الحالية؟
فكرة التكامل.. 15 دولة
وُجدت عدة تكتلات اقتصادية أفريقية، مثل الجماعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا (الإيكاس) عام 1983، والهيئة الحكومية للتنمية (الإيجاد) عام 1986، واتحاد المغرب العربي عام 1989، ومجموعة التنمية لجنوب أفريقيا (السادك) عام 1992، والسوق المشترك لشرق وجنوب أفريقيا (الكوميسا) عام 1993.. لكن أقدمها وأكبرها جميعاً هي المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، واختصارها باللغة الفرنسية (CÉDÉAO) وباللغة الإنجليزية (ECOWAS)، وقد تأسست في لاغوس يوم 28 مايو 1975، بحضور 15 دولة عضواً هي: بنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغامبيا وغانا وغينيا وغينيا بيساو وليبيريا ومالي والنيجر ونيجيريا وموريتانيا والسنغال وسيراليون والتوغو. ثم انضمت إليها جزر الرأس الأخضر عام 1976، لكن انسحبت منها موريتانيا عام 2000 ليصبح العدد مجدداً 15 دولة عضواً. وللإيكواس مفوضية مقرها أبوجا، ولها برلمان ومحكمة عدل خاصة و«بنك إيكواس للاستثمار والتنمية».. إلخ.
الاقتصاد والتجارة البينية
وفقاً لنص الاتفاق المنشئ للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، عام 1975، فإن «هدف المجموعة هو تعزيز التعاون والتنمية في جميع مجالات النشاط الاقتصادي، وخاصة في مجالات الصناعة والنقل والاتصالات والطاقة الزراعة والموارد الطبيعية والتجارة والقضايا النقدية والمالية». وهو هدف أكده الاتفاق المعدَّل عام 1993 وتوسَّع في بيانه. واستطاعت الإيكواس أن تصبح فاعلاً مهماً في الخريطة الاقتصادية القارية، بفضل حجمها الديموغرافي (حوالي 430 مليون نسمة) وامتدادها الجغرافي (نحو 5.115 مليون كيلو متر مربع) وثرواتها الطبيعية المتنوعة (معدنية وزراعية وحيوانية.. إلخ).
وبلغ حجم التجارة البينية داخل فضاء الإيكواس في عام 2011 نحو 24.436 مليار دولار، ليتراجع قليلاً في عام 2016 مسجلاً 21.741 مليار دولار. ورغم ذلك فقد ظلت نسبة التجارة البينية داخل هذا الفضاء تتراوح بين 12 و15 في المئة من إجمالي التجارة الخارجية للمجموعة.
وعلى مدى 49 عاماً من عمرها، لم تستطع الإيكواس تحقيق طموحاتها في مجال التكامل الاقتصادي، رغم أنه كان الهدف الأول والأساسي لقيامها، وقد أكد عليه مخططها لتحرير التجارة (ETLS) عام 1979، وكذلك الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA) الذي تعود بداياته إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي، قبل تطويره عام 1994 ليصبح أكثر استقلالاً عن البنك المركزي الفرنسي. وكذلك السياسة الصناعية المشتركة لغرب أفريقيا (WACIP) الصادرة عام 2010 بغية الوصول بالتجارة البينية إلى 40٪ بحلول عام 2030.
لقد تأخرت خطط التكامل الاقتصادي بين دول الإيكواس وتعثرت، ولعل تعثرها الأكبر كان هذا الذي أدى مؤخراً إلى خروج ثلاث دول، هي مالي وبوركينا فاسو والنيجر، من عضوية المجموعة، ومن منطقة الفرنك الأفريقي، على خلفيات سياسية تتعلق بطبيعة أنظمة الحكم، وبموقف الإيكواس منها.
التعاون في سياق مضطرب
يعد إقليم منطقة غرب أفريقيا أحد أكثر أقاليم القارة الأفريقية التي تعرضت لاضطرابات داخلية وانقلابات عسكرية منذ ستينيات القرن الماضي. فقد عرفت التوغو انقلابين بين عامي 1963 و1967، وشهدت نيجيريا سلسلة انقلابات، بدايةً من عام 1966، ودخلت في العام التالي حربَ بيافرا الأهلية، وشهدت بوركينا فاسو عدة انقلابات عسكرية بدايةً من عام 1966. كما عرفت مالي أول انقلاب عسكري فيها عام 1968 تلته عدة انقلابات. وعرفت النيجر خمسة انقلابات عسكرية منذ عام 1974، وشهدت غينيا بيساو أول انقلاب عسكري ناجح فيها عام 1980، وفي العام نفسه، شهدت ليبيريا انقلاباً عسكرياً، قبل أن تشهد حربين أهليتين. كما عرفت غانا سلسلة انقلابات عسكرية منذ عام 1966، أما كوت ديفوار فأول انقلاب شهدته كان في عام 1999، وقد أطلق شرارةَ حرب أهلية دامت خمس سنوات. وشهدت بنين انقلاباً عسكرياً عام 1972، أما سيراليون التي شهدت حرباً أهليةً بين عامي 1991 و2002 فعرفت ثلاثة انقلابات عسكرية خلال الفترة ذاتها. وإن لم تعرف غامبيا إلا انقلاباً عسكرياً ناجحاً واحداً، كان في عام 1994 بقيادة يحيى جامي، فقد طبع التوتر علاقتها بالسنغال المجاور إلى أن حدث تدخل عسكري من الإيكواس انتهى بإخراج الرئيس جامي من السلطة عام 2017.
ورغم السياق السياسي والأمني المضطرب الذي ولدت فيه الإيكواس، فإن مؤسسيها أرادوها منظمةً إقليمية تُعنى أساساً بقضايا التعاون الاقتصادي، متأثرين في ذلك بتجربة السوق الأوروبية المشتركة التي انطلقت من بداية اقتصادية متواضعة.
قواعد وآليات
وتحت ضغط الأحداث والقلاقل الداخلية التي شكلت تهديداً للأمن الإقليمي، تحولت الإيكواس في التسعينيات نحو الاهتمام بقضايا السياسة والأمن والسلم، وبدأت تضع الوثائق وتصدر القرارات وتؤسس الأجهزة المعنية بقضايا الأمن والديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد.
وكانت البداية في 22 أبريل 1978 حين تبنّت دول المجموعة «بروتوكول عدم الاعتداء» الذي ينص على «حظر استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها من جانب الدول الأعضاء». ثم تبنت في مايو من العام التالي «بروتوكول المساعدة المتبادلة»، وهو القانون الأساسي لنظام الأمن الجماعي الإقليمي لدول المجموعة.
واعتمدت الإيكواس قواعد وآليات لفرض احترام النظم الدستورية، ولحل النزاعات وتسويتها، لعل أهمها:
1- آلية منع وإدارة وحل الصراع وحفظ السلم والأمن: وتسعى هذه الآلية التي أقرتها الدول الأعضاء في قمة لومي يوم 10 ديسمبر 1999 إلى حماية السلم والأمن والاستقرار وإنشاء نظام لمراقبتها داخل المنطقة، وتشكيل قوات لحفظ السلام الإقليمي. وتضم هذه الآلية أجهزةً أهمُّها: مجلس الوساطة والأمن، مجلس الدفاع والأمن، ومجموعة مراقبة وقف إطلاق النار.
2- البروتوكول التكميلي حول الديمقراطية والحكم الرشيد: وقد تبنته المجموعة يوم 21 ديسمبر 2001، وهو يمنع أي تغيير غير دستوري للسلطة، ويحدد مبادئ متعلقة بالانتخابات، ويتضمن إمكانية فرض عقوبات بحق الدول الأعضاء التي تنتهك مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
3- إطار منع الصراع: وهو لائحة تبناها مجلس الوساطة والأمن في 16 يناير 2008، وقد اشتملت على 14 مكوِّناً تشمل الديمقراطية والحكم المدني، وحقوق الإنسان وحكم القانون، وحرية الإعلام، والمصادر الطبيعية للحكم، وتمكين الشباب والنساء، وثقافة السلام.
إيقاف الحروب الأهلية
كانت الحرب الأهلية الأولى في ليبيريا (1990- 1997) الاختبار الأول للميثاق الدفاعي لمجموعة الإيكواس، حيث وجدت المجموعةُ نفسَها مرغمةً على الانخراط في الصراع الليبيري الداخلي قبل أن تضع القواعدَ العملياتية لميثاقها الدفاعي.
وتفجر العنف في ليبيريا أوائل عام 1990 حين شنت «الجبهة الوطنية القومية الليبيرية» بقيادة تشارلز تايلور تمردَها ضد حكومة صامويل دو، لتنشب حرب أهلية تعد الأسوأ من نوعها في أفريقيا. وعندئذ أنشأت الإيكواس قوة تدخل قوامها 20 ألف جندي، أُطلق عليها اسم «الخوذ البيضاء». وبعد تفجر الحرب الأهلية الليبيرية الثانية عام 1999 عادت «الخوذ البيضاء» إلى منروفيا عام 2003، وساعدت على إنهاء العنف في العام نفسه.
لكن قبل أن تنتهي الحرب الليبيرية الأولى عام 1997، كانت لها تأثيراتها المباشرة على سيراليون المجاورة التي دخلت بداية من عام 1992 حرباً أهلية وحشيةً دامت عشر سنوات سيطرت خلالها «الجبهة الثورية المتحدة» المدعومة من قبل تايلور في ليبيريا على المناطق الشرقية من البلاد الغنية بالألماس، كما عرفت سيراليون خلال تلك السنوات ثلاثة انقلابات عسكرية كان آخرها عقب انتخابات عام 1996 التي فاز بها السياسي أحمد تيجان كبه، لكن سرعان ما أطاحه انقلاب عسكري تمخض عن قيام «المجلس الثوري للقوات المسلحة»، فتدخلت قوات الإيكواس وأعادت الرئيس كبة لسدة الحكم في فبراير 1998.
وواصلت الإيكواس تدخلاتها في الدول الأعضاء، ومنها كوت ديفوار التي شهدت حرباً أهليةً في خريف 2002، حيث سيطر المتمردون على النصف الشمالي من البلاد بينما بقي الجنوب تحت سيطرة الرئيس لوران غباغبو (انتُخب وسط ظروف مضطربة عام 2000)، فقامت فرنسا في أكتوبر 2002 بنشر قوات عسكرية قوامها 3000 رجل على أراضي كوت ديفوار، ثم قامت إيكواس، في مارس 2003، بنشر قوة عسكرية سمّتها «بعثة الإيكواس في كوت ديفوار».
أزمة ثلاثية الأبعاد
وتدخلت الإيكواس في مالي خلال أزمتها التي اندلعت عام 2012، وهي أزمة مركبة من ثلاثة أبعاد: التمرد الانفصالي في أزواد، والتمدد الإرهابي الذي شكلته جماعات «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و«أنصار الدين» و«حركة الجهاد والتوحيد»، بالإضافة إلى الانقلاب عسكري هز البلاد في خضم المواجهة العسكرية ضد جماعات التمرد والإرهاب في إقليم أزواد الذي يشكل ثلثي مساحة البلاد. ففي 22 مارس من ذلك العام أطاح بعض صغار الضباط بالرئيس توماني توري متهمين إياه بخذلان الجيش في حربه ضد الجماعات الأزوادية التي هزمته في الشمال. وقد دأب الأزواديون، من طوارق وعرب، منذ استقلال مالي عن مستعمرها الفرنسي عام 1960 على الشكوى مما يرونها سياسات تمييزية بحقهم، مطالبين بالاستقلال والانفصال، فكانت الحكومة المركزية ترد بتجريد حملة عسكرية يتبعها اتفاقٌ سياسي سرعان ما يبدأ الأزواديون الشكوى من عدم وفاء الحكومة بتنفيذه. ومع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة كانت «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» قد رسخت وجودَها في مناطق أزواد الشاسعة وغير الخاضعة لمراقبة السلطة، غير أن التحول المفصلي كان سقوط النظام الليبي بقيادة العقيد معمر القذافي عام 2011، حيث تدفقت على الإقليم أسلحةُ الجيش الليبي ورجال الطوارق ممن كانوا في صفوفه، فتشكلت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» (MNLA)، لتتحالف مع جماعة «أنصار الدين»، ولتبدأ الجماعتان مهاجمةَ القواعد والثكنات العسكرية المالية في الإقليم وإسقاطها تباعاً.
في ذلك السياق المضطرب علّقت الإيكواس عضويةَ مالي في المجموعة، وفرضت عقوبات اقتصادية بحق السلطة العسكرية المنقلبة، وقامت بنشر قوة عسكرية لمنع تقدم المسلحين ولتعزيز قدرات الجيش المالي على مواجهتهم.
وأدت ضغوط الإيكواس إلى دفع العسكريين نحو قبول التوقيع على اتفاق يتضمن إنهاء العقوبات الاقتصادية، ويمنح العفو عن قادة الانقلاب، ويحدد فترةً انتقالية مدتها 12 شهراً تحت قيادة رئيس مدني انتقالي. أما على المسار العسكري فتكوّنت «بعثة الدعم الدولية بقيادة أفريقية» (AFISMA) كقوة عسكرية تابعة للإيكواس بناءً على تفويض دولي بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2085، الصادر في 20 ديسمبر 2012. وهكذا تكونت بعثة الإيكواس في مالي، وقد بدأ نشرها في يناير 2013 وكان قوامها 1400 جندي.
مالي.. مجدداً
إلى غاية أغسطس 2020 كانت عموم بلدان مجموعة الإيكواس تعيش حالةً من الاستقرار السياسي والأمني، إذا ما استثنينا منطقة المثلث الحدودي المشترك بين كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث تنشط الجماعات الإرهابية. وكانت الحكومات القائمة في دول المجموعة كلُّها مدنيةٌ منتخبة يقودها رؤساء مدنيون منتخبون مع برلمانات منتخبة. لكن الانقلابات أخذت تعصف بالمنطقة، فشهدت في الفترة بين أغسطس 2020 ويوليو 2023 ستة انقلابات عسكرية في أربع دول، كان منها انقلابان في مالي وانقلابان في بوركينافاسو وانقلاب في غينيا وانقلاب في النيجر.
وكانت بداية التحول عن المسار التعددي المدني من مالي، حيث انقلب مجموعة من ضباط الجيش بقيادة النقيب عاصمي غويتا، في 19 أغسطس 2020، على الرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كيتا ورئيس حكومته. وتحت ضغوط الإيكواس، استجابت اللجنة العسكرية الحاكمة بقيادة غويتا لمطالب المجموعة، فأدى وزير الدفاع السابق باه نداوي قسَمَ اليمين رئيساً مدنياً انتقالياً في 5 سبتمبر 2020، ومعه نائبه لشؤون الأمن عاصمي غويتا نفسه. لكن بعد تسعة أشهر فقط، وتحديداً في يوم 24 مايو 2021 قام غويتا بانقلاب عسكري آخر أطاح فيه بالرئيس الانتقالي، لينصّب نفسَه رئيساً انتقالياً للبلاد، ولتُعيد الإيكواس عقوباتِها ضد مالي.
مرحلة انتقالية عسيرة
شهدت غينيا انقلاباً عسكرياً، يوم 5 سبتمبر 2021، أطاح بالرئيس ألفا كوندي، على يد العقيد مامادي دومبوي الذي أعلن حلَّ الحكومة والبرلمان وإلغاء الدستور، مع وعد بفترة انتقالية مدتها 36 شهراً.. فردت الإيكواس بتجميد عضوية غينيا وفرضَ عقوبات تدريجية ضدها.
وعرفت بوركينا فاسو منذ عام 2014 «انتقالا ديمقراطياً» مرتبكاً، لكنه توقف يوم 23 يناير 2022 حين أطاح انقلاب عسكري بالرئيس المنتخب «روش مارك كابوري». ثم عرفت انقلاباً آخر في 30 سبتمبر 2022، نُصِّب بمقتضاه النقيب إبراهيم تراوري رئيساً للمجلس العسكري الحاكم، بعد ثلاثة أشهر على قبول الإيكواس قرارَ المجلس إعادةَ النظام الدستوري في غضون 24 شهراً. أما بعد انقلاب سبتمبر 2022 فجرت استعادة خطاب النقيب الثوري توما سانكارا الذي حكم البلاد في الثمانينيات بشعارات اشتراكية مناهضة للإمبريالية العالمية وأدواتها الاقتصادية (الرأسمالية ونظام السوق) والسياسية (التعددية الحزبية والآلية الانتخابية).
تهديد النيجر
كانت أزمة النيجر بمثابة القشة التي أوشكت أن تقصم ظهر بعير الإيكواس، فقد شهدت هي أيضاً انقلاباً عسكرياً مفاجئاً بعد حوالي عشرين عاماً من الأخذ بالنظام المدني الانتخابي التعددي، ففي 26 يوليو 2023، قام قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تياني بإطاحة الرئيس محمد بازوم وأعلن نفسَه قائداً للمجلس العسكري كسلطة حاكمة، بعد حل الحكومة والبرلمان وتعليق الدستور.
ورداً على ذلك طالبت الإيكواس، في قمة طارئة عقدتها بأبوجا يوم 30 يوليو 2023، باستعادة النظام الدستوري، وبالإفراج الفوري عن الرئيس بازوم وإعادته للسلطة، وأعلنت عن فرض عقوبات ولوحت باستخدامَ القوة العسكرية ضد الانقلابيين. وأرسلت الإيكواس وفوداً تفاوضية إلى نيامي، فرد الجنرال تياني بالإعلان عن فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، ردت عليها الإيكواس، في 10 أغسطس، بأوامر بنشر «قوة احتياطية» للتوجه نحو النيجر. بيد أنه سرعان ما اتضح بأن الإيكواس غير قادرة على التدخل عسكرياً في النيجر، وأن الأمر لم يكن قابلاً للتطبيق عملياً.
متغيرات وحقائق
كان لتدخلات الإيكواس العسكرية دور مهم في إنهاء عدة حروب أهلية، وفي إنقاذ الديمقراطية أيضاً كما هو شأن تدخلاتها في كل من سيراليون وكوت ديفوار وغينيا بيسا وغامبيا، لكن تهديدَها بتدخل عسكري مماثل لم يكن كافياً لإرغام عسكريي النيجر على التراجع عن انقلابهم.
وربما فاتت على صناعي سياسات الإيكواس بعضُ متغيرات المنطقة وحقائقها المستجدة، من قبيل أن شعوبها التي علَّقت في السابق آمالا على «الانتقال الديمقراطي» باعتباره مقدمةً لدخول عصر التنمية والازدهار والرفاه، زال عنها الآن «سحر الديمقراطية»، ولم تعد ترى فرقاً بين نظام عسكري وآخر مدني منتخب، بعد سنوات من الفشل التنموي المزمن.
كما فات على صانعي قرارات الإيكواس أن الأمر يتعلق بأربعة انقلابات عسكرية في المنطقة، إلى جانب انقلاب خامس في الغابون المجاورة، في ما يشبه موجةَ تغييرات على أيدي الجيوش، وهي تغييرات حظيت بتأييد شعبي بمجرد أن عارضتها فرنسا التي أصبحت موضعاً لمشاعر سلبية متزايدة في المنطقة، خاصة أن تَفهُّمها لانقلابيْ غينيا والغابون أظهرها بمظهر الطرف غير المكترث بالديمقراطية بل بمصالحه في المقام الأول. وغاب أيضاً عن مراكز صنع القرارات والسياسات في الإيكواس دخولُ منافس دولي جديد منطقةَ الغرب الأفريقي، ألا وهو روسيا التي شكلت حليفاً بديلا عن فرنسا بالنسبة لكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر. وفي هذا الخضم خسرت فرنسا بعض ساحات نفوذها في المنطقة أمام الروس، كما خسرت الإيكواس معركة اختبار الصبر مع سلطات الحكم العسكري الجديدة في أربعة بلدان أعضاء.
استدارة الإيكواس
وفي ما يبدو استدارة ذكية للإيكواس في تعاطيها مع دول الانقلابات، أعلنت المجموعة في قمتها بأبوجا يوم 24 فبراير 2024 تخفيف العقوبات الاقتصادية على كل من مالي وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر، مع الاحتفاظ بالعقوبات الشخصية.
وتعكس تلك الاستدارة إدراكاً من دول الإيكواس المؤثرة بأن سياسة العقاب والعزل لم تفد في إعادة النظم المطاح بها عسكرياً، وأن الحكم العسكري في هذه الدول أصبح أمراً واقعاً يتعين التعامل معه، وأن كل الإجراءات المتخذة ضده لم تحقق الردعَ المطلوب منها، أي لم تمنع عسكريين آخرين من تنفيذ انقلابات لاحقة.. بل جاءت بنتائج عكسية كان منها قيام اتحاد ثلاثي بين كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، أعلن في يناير الماضي انسحاب بلدانه الثلاثة معاً من إيكواس. وهو ما يضع المجموعة أمام خطر التفكك، وقد يزيد من احتمالية تصاعد الانقلابات العسكرية، في ظل السخط الشعبي على حكومات لم تفلح في تحقيق التنمية والعيش الكريم لمواطنيها.
وربما أصبح هناك الآن لدى الإيكواس إدراك بأنه بات عليها إيجاد استراتيجية جديدة في التعامل مع دول الانقلابات العسكرية، والملْمح الأولُ لهذه الاستراتيجية كان قرار قمتها الأخيرة بتخفيف العقوبات الاقتصادية بحق هذه الدول.
ومن ذلك يمكن القول إن أكبر ورطة للإيكواس كانت «البروتوكول التكميلي حول الديمقراطية والحكم الرشيد»، والذي أريد به أن يكون أداةً لتعزيز التكامل الاقتصادي وتعميقه بين الدول الأعضاء، لكن محاولات تطبيقه أصبحت الآن فوق طاقة المجموعة وخارج ممكناتها، وربما تسببت في تمزيق العلائق الاقتصادية وتعطيل التبادلات التجارية داخل فضاء الإيكواس الذي يحتاج أكثر من أي شيء آخر إلى التركيز على التنمية الاقتصادية والتبادل التجاري والتعاون الأمني، بدلا من السعي وراء أهداف سياسية أضرت بمسيرة المجموعة، وبإمكاناتها التنموية التكاملية، ولم تخدمها كثيراً! أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا غرب أفريقيا الإيكواس وبورکینا فاسو والنیجر الانقلابات العسکریة مالی وبورکینا فاسو التکامل الاقتصادی الاقتصادیة لدول النظام الدستوری الدول الأعضاء انقلاب عسکری الإیکواس فی غرب أفریقیا فی المنطقة کوت دیفوار إیکواس فی فی عام من عام
إقرأ أيضاً:
ثمن الفوضى.. عندما تصبح السياسة الخارجية رهينة المزاج
ترجمة - نهى مصطفى
لعقود، قامت السياسة الخارجية الأمريكية على مفهوم المصداقية: أي الإيمان بأن واشنطن تفي بالتزاماتها، وأن سلوكها السابق مؤشر على سلوكها المستقبلي. فعلى سبيل المثال، نجحت الولايات المتحدة في بناء شبكة واسعة من الحلفاء لأن شركاءها كانوا واثقين من أنها ستدافع عنهم إذا تعرضوا لهجوم. كما تمكنت من إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع دول عدة حول العالم، والتفاوض على اتفاقيات سلام، لأنها كانت تُعتبر، في المجمل، وسيطًا نزيهًا. ولا يعني ذلك أن الولايات المتحدة لم تُفاجئ أحدًا يومًا، أو أنها لم تتراجع عن وعودها مطلقًا، لكنها، على مدار معظم تاريخها الحديث، كانت طرفًا فاعلًا يُعتد بثقته.
على النقيض من ذلك، تخلى دونالد ترامب، بخلاف أي رئيس أمريكي قبله، عن كل الجهود التي سعت إلى ترسيخ موثوقية واشنطن واتساق مواقفها. صحيح أن أسلافه اتخذوا أحيانًا قرارات أضعفت مصداقية أمريكا، لكن افتقار ترامب للاتساق اتخذ بُعدًا مختلفًا تمامًا، إذ بدا جزءًا من استراتيجية مقصودة: فهو يقترح الصفقات ثم يتراجع عنها، ويَعِد بإنهاء الحروب قبل أن يوسع نطاقها، ويوبخ حلفاء بلاده بينما يقرب خصومها.
ومع ترامب، بات النمط الوحيد هو غياب النمط ذاته.
تقوم نظرية ترامب في هذه القضية على منطق بسيط: فبإبقاء الأصدقاء والخصوم في حالة من عدم التوازن، يعتقد الرئيس أنه قادر على تحقيق مكاسب سريعة، مثل الزيادات المحدودة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي. كما يرى أن عنصر المفاجأة يمنحه هامشًا أوسع للمناورة في الشؤون الدولية، لأنه يجعل الحلفاء والخصوم على حد سواء في حالة دائمة من الشك تجاه خطوته التالية.
وأخيرًا، يؤمن ترامب بأنه يستطيع ردع أعدائه عبر تخويفهم من خلال الظهور بمظهر غير متزن - وهي الفكرة التي يصفها علماء السياسة بـ«نظرية الرجل المجنون». وكما تفاخر هو نفسه ذات مرة، فإن الرئيس الصيني شي جين بينج «لن يُخاطر أبدًا بحصار تايوان أثناء ولايتي، لأنه يعلم أنني مجنون تمامًا».
صحيح أن نهج ترامب هذا حقق بعض المكاسب الدولية المؤقتة، كما يشير بعض المحللين، لكنه على المدى الطويل يبدو غير مرشح لتعزيز موقع بلاده في النظام العالمي. فالدول الأخرى قد تسعى في البداية إلى استرضاء واشنطن لتجنب العقوبات الأمريكية، لكنها ستعمل في نهاية المطاف على حماية مصالحها عبر التحالف مع قوى أخرى.
وهكذا ستزداد قائمة خصوم الولايات المتحدة، وتضعف تحالفاتها، وقد تجد واشنطن نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى.
دائمًا ما رأى رؤساء الولايات المتحدة أن حماية قوتها تستلزم التزامات موثوقة. فقد تدخل ترومان في كوريا لردع التوسع السوفييتي، بينما صعد جونسون حرب فيتنام خشية أن يُفهم التراجع كضعف. وبرر جورج بوش الابن زيادة القوات في العراق عام 2007 بأن الانسحاب سيقوض مصداقية بلاده، وأبقى أوباما على القوات للسبب ذاته. لكنه تعرض لاحقًا لانتقادات حادة حين تراجع عن تنفيذ «الخط الأحمر» في سوريا، مؤكدًا أن «إلقاء القنابل لإثبات الاستعداد لإلقائها ليس سببًا وجيهًا لاستخدام القوة». بينما توصي الدراسات بترسيخ المصداقية عبر الثبات والالتزام، يفعل ترامب العكس تمامًا. فقد شكك علنًا في أهم ضمانات الدفاع الأمريكية -التزام حلف الناتو بالدفاع الجماعي وفق المادة الخامسة- معلنًا أن الحلفاء الذين لا «يدفعون ما عليهم» لا يمكنهم توقع الحماية. كما انسحبت الولايات المتحدة في عهده من اتفاقيات متعددة الأطراف، مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، من دون اكتراث بتأثير ذلك على سمعتها، بل تراجعت حتى عن اتفاقية التجارة مع المكسيك وكندا التي تفاوض عليها ترامب ووقعها بنفسه.
وفي علاقاته مع الخصوم، تذبذب ترامب بين انتقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين - والإشادة به بلا مبرر واضح. وكان لقاؤهما الأخير في ألاسكا مثالًا صارخًا على ذلك؛ إذ عُقد على عجل لتحسين صورة ترامب كـ«صانع صفقات»، لكنه خرج منه بلا أي مكاسب ملموسة، فيما رأى معظم المراقبين أنه كان الطرف الأضعف في اللقاء.
قد يكون ترامب مدركًا لتأثير سلوكه أو غافلًا عنه، لكن الواضح أن مصداقية بلاده لا تهمه. فهو لا يسعى إلى أن يُوثق به بقدر ما يريد انتصارات سريعة تعزز إحساسه بالتفوق، حتى لو تطلب ذلك التنصل من التزامات أمريكا الثابتة.
يبدو أن عدم قابلية ترامب للتنبؤ متعمدة، فهو يستمتع بالفوضى ويستغلها لتحقيق مكاسب، خصوصًا في الصفقات التجارية. لكن هذا لا يعني أن سلوكه محسوب دائمًا؛ فكثيرًا ما يصدر عن تقلبات مزاجية، في ما يسميه الباحث تود هول «الدبلوماسية العاطفية»، حيث باتت الانفعالات -كالخوف والغضب والرغبة في الانتقام- من أبرز سمات سياسة ترامب الخارجية. فمثلًا، امتدح ترامب رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو خلال ولايته الأولى وأبرم اتفاقًا تجاريًا مع أوتاوا، ثم عاد لاحقًا ليتهم كندا بالتقاعس عن مكافحة تهريب المخدرات وفرض عليها رسومًا جديدة. وبالطريقة نفسها، تباهى بعلاقته القوية مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ثم انقلب على نيودلهي بعد أن نفت دور واشنطن في تهدئة صراعها مع باكستان.
وفي المقابل، شهدت علاقته بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تطورًا معاكسًا. ففي البداية أغضبه زيلينسكي بتصحيحه خلال اجتماع في البيت الأبيض، مما دفع واشنطن إلى تعليق مساعداتها لكييف مؤقتًا. لكن زيلينسكي سرعان ما اتخذ موقفًا أكثر ودًا، ليعلن ترامب الشهر الماضي دعمه الكامل لمساعي أوكرانيا لاستعادة جميع أراضيها من روسيا، وهو الموقف الذي سبق أن وصفه بنفسه بالمستحيل.
بالنسبة للقادة الأجانب، من شبه المستحيل التنبؤ بتقلبات ترامب، لكنهم تعلموا استخدام بعض الأساليب لكسب رضاه أو تجنب غضبه. أبرزها الإطراء، إذ أصبح وسيلة مفضلة لدى حلفاء واشنطن. فإلى جانب زيلينسكي، وصف الأمين العام لحلف الناتو مارك روته ترامب بأنه «صانع سلام براجماتي» بعد لقائه في البيت الأبيض، في محاولة للحفاظ على علاقة التحالف. وبالمثل، لم يتردد نتنياهو في الإشادة بـ«قيادة ترامب الحاسمة» بينما يحثه سرًا على دعم الغارات الإسرائيلية على إيران. حتى من حاولوا البقاء على الحياد لجأوا إلى النهج نفسه.
لكن الإطراء يفقد تأثيره سريعًا حين يبالغ الجميع في استخدامه، إذ لا يعود يمنح أي نفوذ. أما من ضاقوا ذرعًا بتنمر ترامب، فاختار بعضهم المواجهة بدل التملق. فقد رد الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا بتحدٍ على الرسوم الجمركية والعقوبات الأمريكية، بينما تبنى مودي لهجة أكثر صدامًا معه. غير أن هذه المواقف، رغم شعبيتها داخليًا، نادرًا ما تجبر ترامب على التراجع وقد ترتد سياسيًا على أصحابها، كما حدث مع الرئيسة السويسرية كارين كيلر سوتر التي واجهته هاتفيًا ثم تعرضت لانتقادات حادة في بلادها بعد فشلها في ثنيه عن فرض التعريفات.
الخيار الثالث هو التحوط، أي الموازنة بين القوى الكبرى بدل الانحياز التام لأي طرف. فبعد فوز ترامب، وسعت دول في أمريكا اللاتينية تعاونها مع آسيا وأوروبا مع الحفاظ على علاقاتها بواشنطن، فيما أبدت دول الخليج دعمها العلني له، لكنها عمقت شراكاتها مع الصين سرًا. أما ماكرون فدعا إلى «استقلال استراتيجي» أوروبي يقلل الاعتماد على واشنطن وبكين. هذه الأساليب ليست متناقضة، بل محاولات للتكيف مع واقع مضطرب؛ إذ تتأرجح الدول بين التملق والتحدي وفق تقلبات ترامب، الذي لا تحكم قراراته اعتبارات استراتيجية بقدر ما تمليها تقلبات مزاجه.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذا التقلب حقق له أحيانًا نتائج ملموسة. فحين قصف إيران، أبطأ بالفعل مسار برنامجها النووي. وعندما سُئل إن كان سيواصل الضربات بعد بدء إسرائيل عملياتها الجوية، أجاب ببرود متعمد: «قد أفعل، وقد لا أفعل. لا أحد يعلم ما سأفعله». خلق هذا الغموض ارتباكًا في كلٍ من طهران وتل أبيب، قبل أن يتخذ قراره بالتدخل العسكري في نهاية المطاف. لم يكن القرار نابعًا من حسابات دقيقة بقدر ما كان رد فعل على شعورٍ بالضعف ورغبةٍ في استعراض القوة.
بهذا السلوك، عزز ترامب صورة الردع الأمريكية من خلال إظهار استعداده للانقلاب على الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء. ويمكن اعتبار تعامله مع إنفاق الحلفاء الدفاعي مثالًا آخر على نجاح تكتيكه. فبعد عقود من المحاولات الأمريكية الفاترة لإقناع دول الناتو بزيادة موازناتها العسكرية، جاء ترامب ليكسر المحظور: شكك علنًا في مبدأ الدفاع الجماعي المنصوص عليه في المادة الخامسة. وبدافع الخوف من فقدان المظلة الأمريكية، تعهد الحلفاء في قمة لاهاي عام 2025 بزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي - وهو رقم لم يكن مطروحًا من قبل.
وسارت المواجهة الجمركية بين واشنطن وبروكسل على المنوال ذاته. فبعد تهديدات متكررة من ترامب بتصعيد الرسوم، رضخت أوروبا وقدمت تنازلات تجارية غير مسبوقة، منها اتفاقية لشراء طاقة أمريكية بقيمة 750 مليار دولار. وكعادته، أعلن ترامب النصر، بينما لم تجد رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين غضاضة في الثناء على «قيادته الحاسمة».
لكن من غير المؤكد أن هذه الانتصارات ستصمد طويلًا. فصحيح أن ترامب نجح في دفع أوروبا إلى زيادة إنفاقها الدفاعي، لكن ذلك جاء على حساب تماسك حلف الناتو نفسه. فالقوة الحقيقية للتحالف لا تُقاس بحجم ميزانياته العسكرية، بل بصلابة التزامه بالدفاع الجماعي، وهو التزام أضعفه ترامب بتصريحاته المتكررة المشككة فيه. فإذا ما تعرض أحد أعضاء الناتو لهجوم ولم تتحرك الولايات المتحدة للدفاع عنه، فسيصبح التحالف أضعف، مهما ارتفعت أرقامه الدفاعية على الورق.
والأمر نفسه ينطبق على الرسوم الجمركية. فقد نجحت واشنطن في انتزاع تنازلات اقتصادية من أوروبا، لكنها دفعت القارة في المقابل إلى السعي نحو استقلال اقتصادي وسياسي أكبر. ومع مرور الوقت، سيتراجع النفوذ الأمريكي في أوروبا، وربما في العالم بأسره. فمع كل خطوة تُقوض مصداقية الولايات المتحدة، تصبح قدرتها على التوسط في اتفاقيات سلام أو الحفاظ على الاستقرار الدولي أقل، ما ينذر بنظام عالمي أكثر اضطرابًا.
حذر سياسيون أمريكيون، بينهم جمهوريون، من الآثار البعيدة لسياسة ترامب الخارجية المضطربة. فحتى إن جاء رئيس أكثر اتزانًا، فلن يكون ترميم المصداقية الأمريكية أمرًا يسيرًا؛ إذ تبنى السمعة على مدى طويل وتعتمد على المؤسسات بقدر ما تعتمد على القادة. وعندما ينقض ترامب وعوده أو يبدل مواقفه، لا تتضرر صورته وحده بل صورة الولايات المتحدة نفسها. واستعادة الثقة بعد فقدانها صعبة، فالرئيس المقبل سيواجه حلفاء حذرين وخصومًا مترقبين وعالمًا لم تعد كلمة واشنطن فيه بالثقل السابق نفسه.
بساطة، ستخسر واشنطن أصدقاءها وتواجه مزيدًا من الأعداء. فمع تراجع تأثير الإطراء وارتفاع كلفة المواجهة، ستلجأ دول كثيرة إلى التحوط أو إلى التحالف مع خصوم أمريكا. وسيتطلب الحفاظ على الردع وطمأنة الحلفاء موارد أكبر، في وقتٍ يتجه فيه النظام الدولي نحو تعدد الأقطاب. وربما يرى ترامب أن عدم توقعه منحه قوة وحرية، لكن التاريخ سيحكم بأنه استبدل الثقة بالتقلب، ترك وراءه أمريكا أقل مصداقية.
كيرين يارحي- ميلو عميدة كلية الشؤون الدولية والعامة، وأستاذة كرسي أرنولد أ. سالتزمان لدراسات الحرب والسلام في جامعة كولومبيا.
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»