لم يكثر الحديث عن حل الدولتين كما هو الحال منذ طوفان الأقصى، وخصوصا بعد أن أعجزت المقاومة الباسلة وصمود أهل غزة قادة الاحتلال وجيشهم وحلفاءهم عن تحقيق أي هدف أعلنوا عنه منذ بداية العدوان.

لم ينفع نهج المفاوضات ولا مسيرة الاستسلام للإرادة الصهيونية الأمريكية الغربية في فرض حل الدولتين الذي حلم به مشروع أوسلو ودعا إليه الإجماع العربي في دورة 2002 للجامعة العربية، بل تخلت عنه حتى الدول العربية التي اصطفت في طابور التطبيع دون اشتراط هذا الحل.



ولكن ما إن فعلت المقاومة فعلتها في طوفان الأقصى بلغة الرصاص والجهاد والاستشهاد حتى أصبح العالم كله يلهث وراء هذا الحل ويخطط له بإجماع دولي غير مسبوق لما بعد الحرب القائمة.

فلم تكن الحجة بأنه لا حل مع الاحتلال سوى خيار السلاح قائمة كما هي اليوم على إثر نتائج طوفان الأقصى العظيمة.

فلست أدري ما الذي يقوله محمود عباس وحكام العرب والمنكرون للحل العسكري في الكفاح ضد الاحتلال الصهيوني؟ ما الذي يقوله هؤلاء، في أنفسهم وفي الحديث بينهم، وقد توجه إليهم العالم بأسره يطمئنهم بأن لا حل للقضية الفلسطينية سوى حل الدوليتين بعد طوفان الأقصى؟ ما الذي يقوله هؤلاء والذي جاءهم بهذه النتيجة حركة حماس وكتائبها القسامية وإخوانهم في الجهاد وليست السلطة الفلسطينية وتنسيقها الأمني؟

إن النتائج التي تحققت عظيمة تاريخية من اليوم الأول للطوفان، وهي تتعاظم قبل أن تنتهي الحرب، وحين تنتهي الحرب سيكون النصر أعظم بإذن الله، ومن تلك النتائج الانقلاب في الرأي العام العالمي لصالح فلسطين وضد الكيان بما لو أُنفِقت في العلاقات الدولية من أجلها ملايير الدولارات وعبر سنوات لما تحقق ذلك، ومنه الصمود الأسطوري لأهلنا في غزة رغم البلاء العظيم الذي لا تطيقه الجبال الذي أفشل مخطط التهجير، ومنه إنجازات المقاومة التي أعطت صورة بيّنة كيف يمكن أن يُهزم الجيشُ الصهيوني رغم الفارق الشاسع في المقدرات العسكرية، وتلك حجة تاريخية على عساكر الدول العربية، ومنه تفكك المجتمع الإسرائيلي وتشقق بنيته السياسية والاجتماعية والعسكرية والمؤسسية وتهتك سمعته في العالم بأسره، ومنه رجوع القضية الفلسطينية في رأس سلم أولويات الشعوب العربية والإسلامية بعد أن شغلتها عنها قضاياها الداخلية ومسار خيبات الأمل الطويلة.

إن فلسطين ليست للعرب والمسلمين وحدهم بل يكون فيها غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ولكن القيادة لهم كما كانت لنبيهم بختمه الرسالات وبصلاته بالأنبياء في المسجد والأقصى، وكذلك لأنهم هم أكثر الناس فيها منذ قرون طويلة،ومن تلك النتائج ما نحن بصدده وهو رجوع العالم بأسره إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته ضمن خيار حل الدولتين. ولكن هل يمكن لحل الدولتين أن يتحقق؟ إن الجواب على السؤال بشكل واضح وبين: "لا!" .

ولا ننفي ذلك لأسباب عقدية وأيديولوجية فحسب ولكن لأن ذلك غير ممكن من عدة أوجه منها:

1 ـ لن يكون حل الدولتين الذي تريده أمريكا وجزء من الشارع السياسي الإسرائيلي حاليا وبعض الدول العربية هو حل الدولتين الذي جاء في القرار العربي الذي بادرت إليه المملكة العربية السعودية عن طريق الملك عبد الله والذي صار قرارا عربيا بالإجماع في دورة الجامعة العربية بلبنان عام 2002.

لن يقبل الحلُّ الذي تسوّق له أمريكا بأن يكون للفلسطينيين السيادة على القدس الشرقية وعلى المسجد الأقصى، ولن يقبلوا بحق العودة وسيحاولون قضم الأراضي الفلسطينية ضمن حدود 67 في الضفة الغربية، وسيعملون على أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح. وعليه سيكون القرار فاقدا للشرعية على المستوى الرسمي العربي وسيبقى الجدال والنقاش مستمرا بما لا يجعل شيئا جديدا يتحقق يضمن دوام الأمن لإسرائيل ـ كما يحلمون ـ سوى بعض الاختراقات التطبيعية التي ستبقى ـ إن وقعت ـ ممجوجة مرفوضة من قبل الشعوب كما هي الآن.

2 ـ حتى هذا السيناريو لحل الدولتين لن تقبل به الأغلبية في الشارع الصهيوني ومؤسساته، فإرادة هؤلاء باتت واضحة وغير مخفية فهم يريدون تهجير الشعب الفلسطيني خارج فلسطين، من غزة ومن الضفة. هم كلهم أو أغلبهم يريدون ذلك في الضفة، ولكن قطاع غزة كان يمثل جزء من الحل بالنسبة إليهم ضمن مشروع صفقة القرن بأن تضاف للقطاع سيناء ويكون ذلك هو الوطن البديل، ولكن بعد الطوفان صارت أغلبية من الإسرائيليين يريدون إخراج أهل غزة من أرضهم لكي لا يجاوروهم مستقبلا أبدا. ولو حاولت الولايات الأمريكية المتحدة فرض هذا الحل، ولو مطورا بالشكل الذي ذكرناه أعلاه، ستجد مقاومة شديدة من اليمين واليمين المتطرف، وقد تقع فوضى كبيرة في الكيان أو ما يشبه الحرب الأهلية لو سار مع أمريكا الدولة العميقة العلمانية الإسرائيلية، فيخربون بيوتهم بأيديهم.

3 ـ لن تقبل المقاومة الفلسطينية هذا الحل، وحتى وإن قبلت جزء من حل الدولتين، كما تعاملت مع انسحاب الكيان من غزة عام 2005 وما بعده، كجزء من فلسطين تحرر على إثر طوفان الأقصى، فإنها لن تسلم سلاحها، ولن تعترف بإسرائيل، وهذا الذي لن تقبله السلطة الفلسطينية ولا الدول العربية، ولا بطبيعة الحال الكيان والولايات الأمريكية المتحدة، فلن يكون المجتمع الفلسطيني أبدا بلا سلاح، حتى وإن كان سلاحا بسيطا، خصوصا بعد ما اتضحت جدوى الجهاد والاستشهاد، ولن يٌقبل قول قائل بأن الضريبة على المدنيين كانت عالية، فذلك هو مصير الشعوب التوّاقة للاستقلال، وفي تاريخ هذه الشعوب عبر وعظات، وستتحول آلام التضحيات إلى سعادة وسرور بعد النصر والاستقلال. فإذا كان حل الدولتين غير ممكن فما هو الحل؟ إن الحل نسوقه من زاوية دينية شرعية بمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج، ثم من زاوية سياسية بعد ذلك، دون أن نتناول الزاوية التاريخية التي تؤكد أحقية الفلسطينيين في أرضهم منذ غابر الزمن.

أما الخلفية الدينية فإنه يرمز إليها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ببيت المقدس وفق ما ثبت في الأحاديث الصحيحة التي روت حوادث الإسراء والمعراج. فإن صلاته عليه الصلاة والسلام بالأنبياء تدل بأن القيادة في هذه الأرض إنما هي للإسلام فهو من يؤم الناس من مختلف الملل والنحل في هذه الأرض المباركة، فقد صح أن إبراهيم الخليل، وموسى الكليم وعيسى المسيح وغيرهم من الأنبياء تشرفوا بأن يؤمهم المصطفى الحبيب عليه وعليهم أفضل الصلاة وازكى التسليم.

إن فلسطين ليست للعرب والمسلمين وحدهم بل يكون فيها غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ولكن القيادة لهم كما كانت لنبيهم بختمه الرسالات وبصلاته بالأنبياء في المسجد والأقصى، وكذلك لأنهم هم أكثر الناس فيها منذ قرون طويلة، إذ شعوب فلسطين دخل أغلبهم الإسلام وصاروا جزء من أمة محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. علاوة على أن أكثر من جاء من اليهود لإنشاء دولة الكيان وإدامتها جاؤوا من مختلف أنحاء العالم من أعراق مختلفة ولا ينتمي لسلالات بني إسرائيل إلا أقلية منهم، وكثير من قادتهم علمانيون ملاحدة، فلا حجة دينية لهم.

أما من الناحية السياسية فإن البديل العادل والمنطقي هو الحل الذي طبق في جنوب إفريقيا بعد هزيمة البيض وإنهاء نظام الأبرتايد، فقد قامت دولة واحدة للبيض وللسود، ومن حيث أن السود هم أهل الأرض وهم الأغلبية استقرت قيادة الدولة فيهم، وصار حال البيض إلى حياة رغيدة، في ظل نظام ديمقراطي ضَمن حقوق الجميع، أفضل من حالة الصراع الدائمة التي كانوا عليها.

وعلى هذا المنوال يمكن أن تقوم دولة واحدة في فلسطين يعيش فيها المسلمون واليهود والنصارى ضمن نظام ديمقراطي يؤمّن الجميع ويعطي حقوق الجميع ويكون للمسلمين مسجدهم الأقصى ويكون للنصارى كنيسة القيامة ولليهود معابدهم (ليس لهم معبد مشهور)، ويضمن حق العودة للفلسطينيين المهجرين وحق من أراد من اليهود أن يعود إلى بلده الأصلي الذي جاءت عائلته منه، والحق في أن تهيأ لهم ظروف الاستقبال للعيش الكريم في بلدانهم الأصلية تلك، في أمريكا وأوروبا.

إن البديل العادل والمنطقي هو الحل الذي طبق في جنوب إفريقيا بعد هزيمة البيض وإنهاء نظام الأبرتايد، فقد قامت دولة واحدة للبيض وللسود، ومن حيث أن السود هم أهل الأرض وهم الأغلبية استقرت قيادة الدولة فيهم، وصار حال البيض إلى حياة رغيدة، في ظل نظام ديمقراطي ضَمن حقوق الجميع، أفضل من حالة الصراع الدائمة التي كانوا عليها.والمرجح أن هذا الحل سيتحول من الحل "الجنوب ـ إفريقي" إلى الحل "الجزائري"، وذلك أن اتفاقيات إيفيان التي على إثرها استقلت الجزائر ضمنت للمستوطنين الذين جاءت عائلاتهم من فرنسا ومن مختلف الدول الأوربية، وكذلك لليهود الذي كانوا في الجزائر قبل الاحتلال وصاروا فرنسيين بعد أن أعطتهم فرنسا الجنسية، أن يبقوا جميعا في الجزائر كمواطنين كاملي المواطنة، تماما كما كان الحل في جنوب إفريقيا، ولكن بسبب الجرائم الفظيعة التي اقترفوها في السنوات الأخيرة من الاحتلال خافوا من البقاء وخرجوا عن بكرة أبيهم من الجزائر. فكذلك يُرجح أن في زمن التحرير في فلسطين سيخرج الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين من فلسطين بسبب الجرائم الفظيعة التي يقترفونها وسيذهبون إلى حيث يملكون جوازات سفر ثانية وثالثة وإلى بلدان أخرى بدؤوا من الآن يعدّون فيها مساكن لهم كقبرص مثلا وإسبانيا والبرتغال.

وسيرث الفلسطينيون الذين سيتمتعون بحق العودة مساكنهم، كما تمتع كثير من الجزائريين بالمساكن الفرنسية التي تركها المعمرون كاملة البنيان والأثاث. إن هذا السيناريو بات موضوع دراسة منذ سنوات عند عدد من علماء التاريخ وعلماء الاجتماع والساسة الإسرائيليين كالمؤرخ بيني موريس الذي يجزم بأن: "هذا المكان سيتحول إلى بلد شرق أوسطي ذي أغلبية عربية .. وكل من يستطيع من اليهود سيهرب إلى أمريكا وأوربا" والسياسي المخضرم رئيس الكنيست السابق أفراهام بورغ الذي يؤكد بأن أكثر من 50% من الإسرائيليين لا يعتقدون أن أبناءهم سيعيشون في إسرائيل" ويدعو كل إسرائيلي أن يحرص أن يكون له جواز سفر ثاني، وإن كان الأول يرى أن الأمور ستنقلب ضد الإسرائيليين بفعل أعدائهم كما هو تاريخهم، حسبه، فإن الثاني يرى أن إسرائيل ستنهي نفسها بنفسها بسبب ظلمها للفلسطينيين وانقلابها على القيم الديمقراطية، حسب قوله، والمرجح أن السببين سيتظافران.

وحين يخرج أكثر اليهود من فلسطين، تماما كما يريدون إلحاقه بالفسلطينيين اليوم بمحاولة تهجيرهم إلى سيناء ودول أخرى في العالم العربي والأوروبي والأمريكي، سيعيش من بقي منهم في فلسطين في أمن وأمان يتمتعون بكل حقوقهم، التي لم يضمنها لهم عبر التاريخ مثلما ضمنها لهم المسلمون استنادا إلى أسس عقيدتهم وتعاليم دينهم. هذا هو الحل الواقعي، الذي يحمل شرعية تاريخية ودينية، والذي سيفرضه الواقع السياسي، والذي سيعين على تحقيقه تطرف الإسرائيليين أنفسهم، وفق القاعدة التي أطلقها الجنرال الفيتنامي جياب حين قال: "إن الاحتلال تلميذ غبي يكرر نفس الأخطاء" وهو الحل الذي سيفصل في أمره في الأخير المقاومة الفلسطينية.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الاحتلال الحرب الفلسطينية الرأي احتلال فلسطين رأي حرب مآلات سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدول العربیة طوفان الأقصى جنوب إفریقیا حل الدولتین هذا الحل هو الحل

إقرأ أيضاً:

الخطيب: الحلّ لن يكون الا لبنانيا

أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة في مسجد لبايا، بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها: "قال أمير المؤمنين: "فالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ. مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ، ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، ولَوْلَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِمْ، لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"

أضاف: "هذه إحدى التوجيهات التربوية التي اهتم بها أمير المؤمنين وحرص أهل البيت ع على تربية المسلمين عليها لبناء المجتمع الصالح المنسجم مع أهداف الإسلام الذي جعل من الإنسان مدارا لاحكامه وتعاليمه وارشاداته بعد تكريمه وتسخير  كل ما في هذا الكون - على ما فيه من دقة الصنع وعظمة الخلق - من أجله.  وإذا كان وجود الإنسان قد استدعى كل هذا الوجود مع ما فيه من دقة الصنع وعظمة الخلق فلا بد أن تكون الغاية من وجوده كبيرة وعظيمة ولغاية سامية إظهارا لصفاته اللامحدودة والمطلقة من العلم والقدرة والكرم الخ..، من الصفات إذ لا بد أن تظهر آثار هذه الصفات وتتجلى".

وتابع: "وليس هذا الخلق وعظيم هذا الصنع الا تجلياً لهذه الصفات الإلهية فالكريم لا يظهر كرمه الإ بما يظهره من أفعال الجود والعطاء والقدرة  وعبر ما يظهره من أعمال تنبئ عن الاقتدار والفرق بين صفات العباد هذه وبين صفات الله تعالى أن صفاته سبحانه هي غير مكتسبة وهي ليست شيئا غير ذاته، أما غيره فهو بذاته مفتقر في وجوده إلى غيره وهو الله تعالى فضلا عن أن صفاته ليست عين ذاته فهي صفات مكتسبة لامكان سلخها عنه فيكون ضعيفا بل مفتقرا إلى كل شيء بما فيها وجوده ، وما اوجد الله فيه من الاستعدادات [ تخرجون من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا ]، ثم يمتلك القدرة بشكل متدرج ثم يبدأ بافتقادها شيئا فشيئا حتى يعود كالعرجون القديم كما في التعبير القرآني، اما الله سبحانه وتعالى فهو الغني الذي لم يفتقر ولا يفتقر فالوجود كما ذكرنا هو مظهر من مظاهر غناه الذاتي بكل ما يعني الغنى من معنى مطلق غير محدود".

وقال: "وحينما نتحدث عن الهدف من الخلق لا نعني انه حاجة لله نعوذ بالله، وإنما هي حاجة للانسان لبلوغ الكمال، فمن كرمه وقدرته وغناه أن جعله خليفة له وخلافة الإنسان لله تستدعي أن يكون له قدرة الاختيار لان الخلافة تستدعي المسؤولية، والمسؤولية تستدعي المحاسبة ولا معنى للمحاسبة من دون القدرة على الاختيار، والاختيار يستدعي أن يكون الخير والشر والمعرفة والقدرة على التمييز بينهما، وهي مهمة العقل [ وهديناه النجدين إما شاكرا وإما كفورا ] وان تكون لديه النوازع لكل منهما  فنوازع الشر - الذي يقبحه العقل - من الهوى والغرائز ، ونوازع الخير الذي يحسنه العقل، ولكن هل تكفي المعرفة ليلتزم الانسان طريق الخير ؟".

واردف: "في الواقع ان الصراع الناشئ بين هذه النوازع داخل الإنسان لا يجعل الانتصار على نوازع الشر سهلا لأن النفس تستعجل النتائج [ وتحبون العاجلة ] ولا تحتاج الى المزيد من بذل الجهد، بينما نتائج الخير ليست سريعة الظهور، كما انها بحاجة إلى مقاومة هوى النفس. وهذه المقاومة بحاجة الى بذل الجهد والى تربية وتزكية وتذكير، ومن هنا حث القرآن الكريم على التذكر والتزكية وتهذيب النفس التي تستثقلها، لان فيها مواجهة مع المغريات التي تستسهلها وتغريها السرعة في الحصول على ما تريد، فبين ما يحتاج إلى بذل الجهد وبين ما لا يحتاج اليه تختار النفس الأيسر عليها وتتكاسل عن القيام بتهذيبها، ولهذا احتاج الامر إلى التذكير الدائم بخطورة إهمال التزكية والرياضة النفسية وهذا ما دأب القرآن الكريم وتعاليم أئمة أهل البيت على الحث عليه والتذكير بالآخرة وبأهمية التزام الفضائل التي هي من صفات المتقين ،قال تعالى [ قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها ]، والتزكية هي من تمنيتها بالفضائل، و " دساها " أصله : دسسها من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء، والمعنى هاهنا : أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية اي أهمل تزكيتها بالفضائل فأودى به ذلك إلى الكفر والمعصية وهو أعظم الشر لان نتيجته الهلاك في الدنيا والآخرة [ وقد خاب من دساها ] اي حصد الخيبة، والخيبة هي الحالة النفسية التي تصيب الإنسان عند الخسران بعد توقع النجاح وحصول ما كان يرغب به، وقد ضرب الله تعالى مثلا لذلك قوم ثمود الذين استجابوا لغرائزهم فدعتهم قوتهم إلى تكذيب نبيهم صالح ع والى الطغيان وعصيان امر الله تعالى فاقدموا على قتل الناقة علوا في الأرض وفساداً تحدياً لله ورسوله ولوعده لهم بالعقاب  إن هم تعدوا حدوده وتجرؤا عليها،  يقول تعالى:[ فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها ]".

وتابع: "لقد كذَّبت ثمود نبيها ببلوغها الغاية في العصيان، إذ نهض أكثر القبيلة شقاوة لعقر الناقة، فقال لهم رسول الله صالح ع: احذروا أن تمسوا الناقة بسوء؛ فإنها آية أرسلها الله إليكم، تدل على صدق نبيكم، واحذروا أن تعتدوا على سقيها، فإن لها شِرْب يوم ولكم شِرْب يوم معلوم. فشق عليهم ذلك، فكذبوه فيما توعَّدهم به فنحروها، فأطبق عليهم ربهم العقوبة بجرمهم، فجعلها عليهم على السواء فلم يُفْلِت منهم أحد. ولا يخاف- جلت قدرته- تبعة ما أنزله بهم من شديد العقاب. وهذه قصة من القصص القرآنية الكثيرة التي ذكرها القرآن الكريم عن أحوال الاقوام السابقين للاعتبار حتى لا نحذو حذوهم، فنكون من الذين لم يتعظوا ولم يعملوا على تزكية أنفسهم،  وكانت نهايتهم التكبر والتجبر والتحدي لله تعالى مصداقاً:[ ... فاتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ]. ولذلك أخذنا هذا المقطع من خطبة المتقين لامير المؤمنين في نهج البلاغة لنتعرف على صفاتهم ولنقتدي بهم ونتقي النتائج الدنيوية والاخروية التي اودت بهلاك الامم السابقة التي تخلت عنها ، فما هي الفضائل التي اتصف بها المتقون في كلامه ع قال: فالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ. مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ، ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، ولَوْلَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِمْ، لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ".

وقال: "اذا الفضائل هي :أولا ً، التزام منطق الصدق مع أنفسهم ومع غيرهم وهو مبدأ سلوكي في الحياة لا يتغير بتغير المصالح.

ثانياً:الاقتصاد في الملبس وهو نهج في التواضع وعدم الخضوع  للمظاهر الخادعة كما هو حال المترفين.

ثالثا :عدم التكبر الذي يعبّر عنه المشي على هيئة  معروفة تعبّر عن العجرفة والترفع على الآخرين من الفقراء وأصحاب الدخل المتواضع، وهو يعبّر عن النقص في الشخص الذي يحاول ان يسده عبر هذا السلوك الذي يفتقد الشخصية المتوازنة ويرى ان الكمال الانساني بما يمتلكه من معرفة وقيم واخلاق فيزداد تواضعا كلما استزاد منها.

رابعاً: غض البصر عما حرم الله النظر اليه، لان ارتكاب الحرام يبدأ بالاغراء الذي اول ما يكون بالاعجاب به عن طريق البصر، فالاغضاء عن الحرام صد للشيطان.

خامساً : السيطرة على السمع لانه الباب الذي يدخل منه الشيطان فلا يسمح له بالاشتغال في غير ما فيه خيره ، وهو العلم النافع الذي يرفع من معرفته ويجعل منه عنصرا يفيد المجتمع اما الاستماع إلى الدعوات الباطلة أو يجعل منه عنصرا يضيع وقته ويتلفه فيما لا ينفع .

يقول تعالى : [ ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ]، فالسمع والبصر طريق الفؤاد ، و طريق  لنقل الحق والباطل من عقيدة حقة او باطلة، فلا تجعله طريقا للباطل وأدّه حقه وان من حقه ان تستخدمه فيما يؤدي الى الله تعالى.

سادساً: ان لا يؤثر عليه تقلب الأحوال ان لا تبطره نعمة ولا تيأسه نقمة، لا يشغلهم شيء عن رضا الله سبحانه فهم في شوق إلى الحياة الحقيقية كما هم على وجل وخوف من عقابه، لأنهم على يقين به وبوعده لذلك فهم بين الخوف والرجاء".

وأكد انه "بهذه المواصفات أراد أهل البيت وعلى رأسهم أمير المؤمنين صناعة الانسان المؤمن والمتوازن والمستقر نفسياً، فلا يعيش الانحطاط النفسي والقلق من تقلبات الدهر لان همه الفوز الاخروي الذي يكون عبر استغلال الحياة بما يوصله الى الفلاح في الدنيا والاخرة ، الامر الذي يفتقده أولئك الذين لايمتلكون هذه الرؤية أو يمتلكونها ولكنهم لا يعيشونها سلوكاً وعملا ً، وهو ما ابتلى به الإنسان في المجتمعات المعاصرة حيث افتقد هذه العناصر من الفضائل واقتصر همه على إشباع غرائزه وتحقيق اطماعه،  فافتقد الأمان والاستقرار واستبد به القلق والخوف وتملكه اليأس".

وقال: "هذا هو نتاج ما يسمى بالحضارة المادية المعاصرة التي استبعدت القيم المعنوية من اجندتها وتعاملت مع البشر على أنها مجرد أرقام يسهل عليها حذفها بشحطة قلم دون أن يرف لها جفن، وتبيّن ان كل ما وضعته من مواثيق وقوانين ليست الا حبراً على ورق حين اقتضت مصالحها ذلك وعلى رأسها الولايات المتحدة والأنظمة الغربية التي تتعاطى اليوم مع شعوبنا بالقهر والغلبة  وبالاخص مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة الذي يتعرض للابادة الجماعية بحماية ودعم كاملين منها، وعلى الرغم من اقرار المنظمات الدولية وادانتها للكيان الصهيوني الغاصب ولكن منطق الحق على الرغم من كل ذلك سينتصر، وان اصرار الشعب الفلسطيني على انتزاع حقه بصبره وتضحياته وشجاعة المقاومة رغم اختلال موازين القوى وطبيعة الظروف القاسية والحصار المفروض عليه سيجبر العالم على الانصياع لارادته الصلبة في التحرر وبناء دولته على ارضه، ولن تنكسر". 

ورأى "ان رهن بعض القوى الداخلية الحل للمشكلة اللبنانية بما ستؤول اليه المعركة في غزة رهان خاسر، فلن يفلح  المشروع الغربي بإلابقاء على دولة الفصل العنصري في فلسطين ليتحقق حلم الساعين إلى دويلات مذهبية وطائفية في لبنان والمنطقة، فالحل لن يكون الا لبنانيا وبالاستجابة العاقلة للدعوة الى الحوار وإنتاج الحل وفقا لمصلحة لبنان ومقتضيات حمايته من العدوان الاسرائيلي العاجز عن حماية نفسه أمام المقاومة التي ستجبره على القبول بشروطها طال الزمن أو قصر".

مقالات مشابهة

  • انتخابات جنوب أفريقيا: آمال الناخبين لأول مرة
  • الخطيب: الحلّ لن يكون الا لبنانيا
  • مراسل «القاهرة الإخبارية»: موقف اليونان يتحول تدريجيا لدعم فلسطين وحل الدولتين
  • "الخارجية الفلسطينية" ترحب بقرار سلوفينيا الاعتراف بدولة فلسطين
  • لافروف: تزايد عدد الدول التي تعترف بفلسطين يدل على الرغبة في إيجاد حل للقضية الفلسطينية
  • الرئاسة الفلسطينية ترحب بقرار حكومة سلوفينيا
  • أبو الغيط: نواصل العمل من أجل حصول فلسطين على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة
  • وزير الصحة الفلسطيني: اعتراف 3 دول أوروبية بدولة فلسطين يعطي "دفعا سياسيا مهما" للقضية
  • العاهل الأردني: لا سلام ولا استقرار بالمنطقة دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية
  • الاعتراف بدولة فلسطين.. السياقات والدلالات والمكاسب المحتملة