قهوة بنكهة القلق.. البن يدخل مطحنة المناخ والسياسة
تاريخ النشر: 6th, March 2024 GMT
يستيقظ شريف، المقيم في العاصمة البريطانية لندن، ليحتسي كعادته فنجانا صباحيا من القهوة وهو يتابع نشرة الأخبار، وفي عناوينها الرئيسية "تواصل العدوان الإسرائيلي على غزة والحوثي في اليمن يستهدف سفنا تجارية في البحر الأحمر".
يرتشف شريف ما تبقى من قهوته بينما تختتم النشرة عناوينها بتعرض البلاد لموجة طقس سيئ لم تشهده البلاد من قبل، ليغلق بعدها التلفاز وقد شعر بالقلق على الرغم من أن الضربات بعيدة عنه مئات الكيلومترات.
لم يكن يدرك شريف أن فنجان قهوته المصاحب له كل صباح أمام نشرات الأخبار ربما يتسرب إليه هو الآخر "القلق" بفعل ما يجري في العالم من أزمات سياسية وأخرى بيئية متعلقة بتغير المناخ.
وتتعرض صناعة القهوة من حبوب البن بأنواعه إلى مخاطر عديدة بفعل الأزمات العالمية، حيث كشفت عدة دراسات علمية في السنوات الأخيرة عن خطر انقراض أنواع من البن بفعل تغير المناخ الذي يؤدي إلى تغير طبيعة الأرض الزراعية التي يزرع فيها البن بفعل التصحر والجفاف وزيادة هطول الأمطار واختلاف درجات الحرارة.
وتغير المناخ وحده لم يكن الشبح الوحيد الذي تصارعه صناعة القهوة، فالحرب الدائرة في غزة وصداها في الشرق الأوسط حلت نتائجها السلبية أيضا على صناعة "المزاج الصباحي" بعد اضطراب حركة الملاحة البحرية للسفن التجارية التي تنقل البن من فيتنام؛ المصدر الأول في العالم لحبوب القهوة الروبوستا، وصعوبة في العبور عبر البحر الأحمر للوصول إلى أوروبا وأميركا بسبب استهداف جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) في اليمن للسفن التجارية للدول الداعمة لإسرائيل في حربها على قطاع غزة، وهو الأمر الذي يؤثر في سوق صناعة القهوة ويزيد من كلفة الإنتاج وبالتالي ارتفاع أسعار البن حول العالم.
يؤثر التغير المناخي في المحاصيل الزراعية بفعل ظاهرة "النينو" (التذبذب الجنوبي)، والتي تُحدث تغيرات في درجات الحرارة مما يؤثر في هطول الأمطار وأماكن الجفاف وتؤثر بالتالي في المحاصيل الزراعية وجودتها.
وكشفت دراسة نشرتها مجلة "ساينس أدفانس" في 2019 وأجراها فريق من الباحثين قادهم رئيس أبحاث القهوة في الحدائق النباتية الملكية في كيو بالمملكة المتحدة آرون ديفيس، تحت عنوان "ارتفاع خطر انقراض أنواع من البن البري يهدد صناعة القهوة حول العالم"، أن 60% من أنواع البن البري مهددة بالانقراض خلال العشرين سنة القادمة بفعل الجفاف وتغير التربة.
وتوصلت الدراسة إلى أن هناك 124 نوعا معروفا في جنس القهوة، لكن معظمنا يشرب نسخا مستأنسة من نوعين فقط هما: قهوة أرابيكا التي تمثل ثلثي السوق العالمية، وقهوة روبوستا.
وأرابيكا معرضة بشكل خاص للأمراض مثل فطر صدأ أوراق القهوة المدمر، كما أن هجين أرابيكا وروبوستا الذي كان مقاوما للفطر في السابق؛ بدأ في الاستسلام أيضا.
ويقول آرون ديفيس في بيانه عن الدراسة: "كنا نعلم أن هناك أنواعا من البن البري مهددة بالانقراض، لكننا لم نكن نتوقع أن تصل إلى 60% من الأنواع البرية، وبعضها انقرض بالفعل".
وفي دراسة أخرى منفصلة، تعاون ديفيس مع باحثين آخرين من منتدى كيو والبيئة وتغير المناخ وغابات القهوة في أديس أبابا لإلقاء نظرة متعمقة على أرابيكا البرية التي كانت معرضة لخطر منخفض في التحليل العالمي، ووجد الباحثون أنه مع الأخذ في الاعتبار تغير المناخ، وباستخدام بيانات الاستشعار عن بعد، يمكن أن ينخفض عدد سكان أرابيكا البرية إلى النصف بحلول عام 2080، وهي النتائج التي نشرت في مجلة غلوبال تشينج بيولوجي.
ويوضح آرون ديفيس أن النتائج تشير إلى أن أنواع القهوة البرية التي كانت تعتبر منخفضة المخاطر، "يمكن أن تكون في الواقع معرضة لخطر أكبر بفعل تغير المناخ".
ويقول رئيس مركز معلومات المناخ بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي المصرية الدكتور محمد علي فهيم: إن تغير المناخ أثر بشكل واضح خلال السنوات الماضية في زراعة البن خاصة الأنواع البرية التي يتم زراعتها في المناطق ذات المناخ الاستوائي مثل البرازيل وكينيا وإندونيسيا وبنغلاديش، وهو ما أثر سلبا في الإنتاج بهذه المناطق.
ويضيف فهيم أن تغير المناخ أثر إيجابيا في زراعة البن في مناطق تغير المناخ فيها إلى مناخ يشبه المناخ المناسب لزراعة البن، كبعض المناطق في جنوب السعودية واليمن وعُمان، وبالتالي -حسب وصفه- "فليس كل تغير مضر، وعلينا الاستفادة من زراعة هذه المناطق الجديدة لتعويض المحصول الذي تأثر في مناطق زراعته الأساسية"، وهو ما يجب أن تركز عليه الأبحاث العلمية في الفترات القادمة على حسب تعبيره.
وأوضح مدير مركز تغير المناخ أن وجه الاختلاف في هذه المحاصيل التي تُزرع في ظروف بيئية جديدة؛ أنها لن تعطي نفس تأثير المحاصيل المزروعة في مناطقها المعتادة ولن تكون بنفس الجودة.
المناخ وتذبذب الإنتاجتعتبر البرازيل وفيتنام أكبر مركزين لإنتاج حبوب البن حول العالم، إذ يمثل إنتاج البرازيل من البن ما يقرب من 40% من حجم الإنتاج العالمي، إلا أن تعرض البلاد خلال فترات متقاربة في الأعوام الثلاثة الماضية لموجات صقيع أثرت في معدلات الإنتاج وانخفاض المحصول.
وطبقا للمنظمة الدولية للقهوة في تقريرها عن سوق القهوة في ديسمبر/كانون الأول 2023، وصلت أسعار الروبوستا إلى أعلى مستوى لها منذ 25 عاما، بمتوسط 135 سنتا أميركيا لكل رطل، وبذلك يحقق سعر الروبوستا أكبر نمو بنسبة 10.5%، وهو أعلى مستوى منذ مايو/أيار 1995.
وبحسب التقرير فإنه من المتوقع أن تؤدي ظاهرة النينو إلى إضعاف التوقعات للإنتاج في آسيا، وخاصة بالنسبة للبلدان ذات الأصول مثل إندونيسيا، حيث انخفضت صادرات القهوة بجميع أشكالها من آسيا من 18.0% إلى 3.12 مليون كيس في نوفمبر/تشرين الثاني 2023. ويُعزى التراجع بشكل أساسي إلى إندونيسيا، حيث انخفضت صادراتها بنسبة 45.2% بسبب انخفاض الحصاد في عام القهوة 2023/24، على خلفية الأمطار الغزيرة التي ألحقت أضرارا بالمحصول.
وانخفضت صادرات القهوة بجميع أشكالها من أفريقيا بنسبة 13.5% إلى 1.01 مليون كيس في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، مقابل 1.16 مليون كيس في نوفمبر 2022، فقد تأثرت أوغندا -أكبر منتِج ومصدر لبن روبوستا في أفريقيا- بسبب تأخر موسم الحصاد، مما أثر سلًبا في توافر الإمدادات.
وبحسب المنظمة الدولية للقهوة فإن انخفاض الإنتاج في آسيا وأفريقيا يعود إلى الظروف الجوية المعاكسة التي أثرت في المنتجين الرئيسيين ولاسيما فيتنام وكوت ديفوار وأوغندا.
ويضيف التقرير أن الأميركتين خففتا من حجم الإنتاج بفعل الظروف الجوية المعاكسة التي أثرت سلبا في المحاصيل الخضراء للبن.
الحرب في غزةلم ينج فنجان القهوة من أثر القذائف الصاروخية التي تطلقها جماعة الحوثيين في اليمن لاستهداف السفن التابعة للدول التي تساند إسرائيل في حربها على غزة والمستمرة منذ أكثر من أربعة أشهر، فقد شهدت حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر اضطرابا شديدا نتيجة هذا الاستهداف مما عطل نقل محصول البن عبر الشرق والغرب والشمال والجنوب.
وأرجع تقرير منظمة القهوة الدولية ارتفاع نمو مؤشر سوق القهوة في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023 إلى أعلى مستوى له منذ 9 أشهر إلى "التوترات في البحر الأحمر على بعض خطوط الشحن وإعادة توجيه سفنها التي تحمل القهوة، وخاصة في نقل البن من جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا في طريقه إلى أوروبا، وهي من العواقب غير المقصودة التي أدت إلى ارتفاع تكاليف الشحن، حيث قامت بعض شركات الشحن بإدخال رسوم إضافية لتأمين السفن ولمراعاة فترات العبور الممتدة".
ويشرح الدكتور محمد علي فهيم أثر اضطراب حركة الملاحة البحرية في صناعة القهوة بشكل عام قائلا: إن "أي اضطراب في الملاحة يؤدي إلى زيادة التكلفة، وبالتالي ارتفاع سعر المنتج، وبالتالي انخفاض التنافسية". وأضاف أن البن محصول جاف يمكن أن يظل شهورا طويلة دون أن يتأثر أو يتلف. لكن مع ارتفاع كلفة النقل من الشرق والجنوب الأفريقي لن يستطيع منافسة الأسعار للبن من أميركا والبرازيل بسبب اختلاف الأسعار لنفس المنتج.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات صناعة القهوة البحر الأحمر تغیر المناخ القهوة فی من البن
إقرأ أيضاً:
تحدّثت السمراء.. حين سألها أحدهم: كيف حالكِ يا قهوة؟
طوال قرونٍ خلت… كانوا هم من يتحدثون عني، يُشيدون بي، يشربونني في حزنهم وفرحهم…
لكن، هل خطر ببال أحدهم… أن يسألني: كيف حالكِ يا قهوة؟
أنا لستُ مجرد مشروب يُرتشف وينسى…
أنا حكاية تُسكب في كل فنجان،
وصمتٌ ثقيل أثقلته الأسرار.
أنا لستُ سكونًا يُحتسى،
ولا رفيقة تُستأنس بها عند الحاجة.
أنا التي تحترق كي تبعث فيكم دفئًا،
أنا التي ما نطقت يومًا… لكني كنتُ أُصغي إليكم جميعًا.
كنتُ هناك…
في أول اعترافٍ مرتجف،
وفي آخر وداعٍ لم يُقال.
سمعتكم تنادون الغائبين باسمي،
وترتقون شقوق قلوبكم برشفتي.
لم أكن يومًا “قهوة” فقط،
كنتُ الصمت الذي يحتمل،
والرائحة التي تعود كلما فرّ منكم الحنين.
وكلّما اقترب الليل من نوافذكم،
وهمست الوحدة بأسمائكم…
هرعتم إليّ، لا حبًا بي، بل خوفًا منكم.
تشربونني مرّة…
ثم تلومون مرارتي!
أنسيتم أنني ثمرة احتراق؟
وأن في كل رشفةٍ مني،
شيئًا من تعب الحصّادين،
وكثيرًا من لامبالاة الجالسين؟
“تغنّى بي الشعراء… فهل سمعني أحد؟”
كم شاعرٍ جرّ قلمه إليّ،
وقال إنني “سُكر الليالي” و”دفء المنازل”،
كتبوا عني كأنني عشيقة،
وأنا، في الحقيقة… كنتُ أرملة الكلمات،
لا يذكرني أحد إلا حين تفقد الحروف لونها.
قال أحدهم ذات مساء:
“قهوتي أنتِ… وسرّ التنهيدة،
وفجري الذي لا تملّه عيوني.”
تبسّمتُ حينها، لا لأنني فرحت،
بل لأنني عرفت أنني مجرد فاصلٍ بينه وبين وحدته…
ونغمةٌ عابرة في لحظة حنين.
وقال آخر:
“وفي فنجانها المسكوب ظلّي،
وكلّ مواجعي في قاعها.”
فهل رآني؟
هل شعر بمرارة الأعماق فيّ؟
أم فقط أسقطني في قاع بيته…
كما أسقط روحه في الحياة؟
أنا لا أغضب من الشعراء،
هم أصدق من غيرهم،
لكنهم لا يسألونني أيضًا:
“هل تتعبين من كونك مرآةً لا تُرى؟”
قالت لي بصوتٍ يشبه هدأة الفجر:
– إلى متى سأظلّ أحتملك؟
كل مساءٍ تأتي مثقلًا، وتُفرغ قلبك في جوفي،
كأنني حفرة اعتراف، لا يفصل بينك وبينها سوى البخار.
تتنفّسني شوقًا،
وتسقيني كلماتٍ متعبة،
ثم تتركني وحيدةً على الطاولة،
باردة ككلماتك الأخيرة.
أتعلم؟
أنا لا أحبّ الحزن،
لكنكم علّقتم اسمي به،
كأنني خُلقتُ لأُحتسى حين تنكسرون فقط.
فقلتُ لها، وأنا أضمّ الكوب براحة كفّي كمن يحتضن صديقًا يعرف كل شيء:
– بل أنتِ السرّ الذي لا يُقال،
والظلّ الذي لا يغيب،
أنتِ الرفيقة التي لم تخذلني،
والصوت الوحيد الذي بقي حين خفتت الأصوات.
أتدرين لماذا أعود إليكِ؟
لأنكِ لا تسألينني عمّا يؤلمني،
ولا تفضحين ما أخفيه.
كنتِ دائمًا كأنكِ تقولين:
“أفرغ ما شئتَ من الحزن…
فأنا لا أشي، ولا أعاتب، ولا أهرب.”
ولهذا، يا سمراء المساء…
أنتِ لستِ مرّة كما يزعمون،
بل فقط… تتشبّهين بنكهة الصدق.
قالت القهوة، وقد أمالت رأسها على حافة الفنجان:
– لا أحد يعلم أنني أحمل في جوفي أكثر من نكهة…
أحمل سرّ من ندم ولم يستطع الاعتذار،
وأحمل نظرة ذلك العاشق الذي انتظر طويلًا على قارعة الذكرى.
سُكبت فيّ دموعٌ لم يُعترف بها،
وغَرِقَت فيّ كلماتٌ كان ينبغي أن تُقال… لكنها اختنقت بين القلب والفم.
أنا التي شهدت على:
– رسائل حُب لم تُرسل،
– وقرارات طلاق لم تُعلن،
– وأحاديث مع الله في ساعة ضيق،
– ووجع أمٍّ ترتجف على غياب ابنها…
كلّ هذا في رشفاتٍ مرتجفةٍ مرت بين أنامل الوجع.
وأنا صامتة…
لا أحتج، لا أُعاتب،
أُطفأ، وتُترك فتاتي في فناجينكم…
ثم يُكتب عني: “قهوة مرّة.”
وفي نهاية الحديث…
عادت القهوة إلى صمتها الأبدي،
لكنها لم تنسَ أن تهمس، ولو مرة أخيرة:
“لا بأس… سأظلّ المرآة التي لا تُكسر،
والرائحة التي تُبعث من الرماد،
والرفيقة التي تحفظ أكثر مما يُقال.”
ثم سكنت برهة…
كأنها تعود إلى ذاتها، وتقول بصوتٍ لا يسمعه أحد:
“أنا القهوة… سمراءُ القلب لا الوجه،
عميقةٌ حدّ الوجع،
مريرةٌ بقدر ما تداوي.
وفي كل فنجانٍ يُسكب مني…
تُلقى قطعةٌ من قلبي… دون أن يشعر أحد.