المذكرات الشخصية وكتابة التاريخ
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
كتابة المذكرات الشخصية لكبار الساسة والمفكرين والقادة من العسكريين وصولا إلى المثقفين والعامة جميعها أصبحت ظاهرة ثقافية منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، بعد أن انخرط الكثيرون في هذا النوع من الكتابة وقد استهوتهم هذه الظاهرة الجديدة التي وجدت رواجًا كبيرًا لدى القراء، وبقدر ما تتسم المذكرات بالصراحة أو التلفيق فإن جمهور القراء يُقدم عليها بما في ذلك مذكرات العوام من قبيل ما نشر في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، من كتابات كانت لافتة (مذكرات حلاق) و(مذكرات بلطجي) و(مذكرات فتوة) وغيرها من المذكرات التي تلقاها جمهور القراء بقدر من العناية، وقد حظيت أيضا باهتمام الصحافة التي راحت تنشر الكثير منها، سواء بشكل يومي أو أسبوعي.
ظاهرة كتابة المذكرات الشخصية شاعت في أوروبا منذ بداية التاريخ الحديث، خلال القرن السادس عشر، وأصبحت خلال القرون التي تلته من بين الموضوعات المهمة في الثقافة الأوروبية، وخصوصًا حينما اعتبرها المؤرخون من بين المصادر المهمة للكتابة التاريخية، ظهر ذلك خلال عصر النهضة الأوروبية المبكرة حيث نُشرت في إيطاليا مذكرات وكتابات شكلت تجارب حياتية لرواد عصر النهضة الأوروبية، من قبيل ما كتبه دانتي وميكاڤيلي وتوماس مور وغيرهم من رواد عصر النهضة، وقد جاء اكتشاف الطباعة التي اخترعها الألمان وتلقفها الإيطاليون الذين نشروا من خلالها تجارب عظيمة لرواد كبار في كل مناحي الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية.
مع انتشار مظاهر النهضة التي عمت أوروبا راح العلماء والفنانون والمفكرون والساسة يوثقون تجاربهم لكي تكون في متناول القراء، اعتقادًا منهم بأن هذا النوع من الكتابة يعد مسؤولية اجتماعية وسياسية تستوجب إتاحة قراءتها لعوام الناس ومتخذي القرار السياسي، وهو ما حفز دور النشر في معظم الدول الأوروبية على نشر هذه الأعمال باعتبارها محصلة هائلة من الخبرات الإنسانية، التي يتعطش الجمهور إلى قراءتها.
لم تعرف مجتمعاتنا العربية مثل هذا النوع من الكتابة إلا خلال القرن التاسع عشر، حينما سافر بعض الدارسين إلى أوروبا للمرة الأولى، وكانت إقامتهم في العواصم الأوروبية سببًا كافيًا لتأثرهم بنمط الحياة في تلك البلاد وبطريقة تفكير الأوروبيين والوقوف على نمط حياتهم، كما كانت الجهات التي تبتعثهم غالبا ما تطالبهم بكتابة تقارير سنوية عن حياتهم ونمط معيشتهم وطبيعة الدراسة التي يتلقونها، فضلاً عن المصاعب التي يواجهونها، وقد راح الكثيرون منهم يكتبون في تقاريرهم عن أشياء تمجد ثقافة هذه البلاد، وخصوصًا طريقة تفكيرهم وعنايتهم بالتعليم والبحث العلمي، فضلاً عن الحياة الاجتماعية التي انبهر بها البعض، لدرجة أنهم تمنوا لو أن ذلك كان نموذجًا يحتذى به في بلادهم.
كان من بين من اعتنوا بكتابة تجربتهم في باريس رفاعة رافع الطهطاوي، الذي ابتعثه محمد علي مرشدًا دينيًا واجتماعيًا للدارسين المصريين في فرنسا، فإذا بالرجل يتأثر بالحياة العلمية والاجتماعية أكثر من المبتعثين للدراسة الأكاديمية، وقد انبهر بالحياة الفرنسية وراح يكتب تجربته بكل وعي ومعرفة، وخصوصًا في المجال العلمي والاجتماعي، وقد عُني كثيرًا بتعليم الفتاة الفرنسية، لهذا أحدثت كتابات الطهطاوي ردود فعل كبيرة في الأوساط الاجتماعية والسياسية، سواء في مصر أو في غيرها من الأقطار العربية، أعقب ذلك كتابات أخرى كثيرة لرواد من الشام والمغرب العربي، وفي دار الوثائق المصرية توجد ملفات ضخمة لتقارير كتبها المبتعثون إلى أوروبا، وهي مادة خصبة وغنية للمؤرخين، ومن بينها بشكل خاص ما كتبه حسن أفندي توفيق العدل، الذي استعانت به جامعة برلين في ثمانينات القرن التاسع عشر مدرسًا للأدب العربي لمدة خمس سنوات، انتقل بعدها إلى جامعة كمبردج في نهايات القرن التاسع عشر للقيام بذات المهمة، وقد كتب عن تجربته خمسة كتب نُشر بعضها في حياته، من قبيل (رحلة حسن أفندي توفيق العدل إلى ألمانيا وسويسرا) وله كتاب عن تعليم البنات في ألمانيا وبريطانيا، وآخر عن تاريخ الأدب العربي، لعله الكتاب الأول في هذا المجال.
أعتقد أن كتابات المبعوثين إلى أوروبا سواء للدراسة أو لأي عمل آخر تستحق العناية من المؤرخين والباحثين في العلوم السياسية والاجتماعية، جميعها تستحق الدراسة، وفي حياتنا المعاصرة زادت بشكل لافت ظاهرة كتابة المذكرات الشخصية للساسة وقادة الرأي، وكل من شغل وظيفة عامة، حتى بعض المثقفين والشعراء قد كتبوا تجربتهم، سواء في الثقافة أو في الحياة العامة، وقد اعتقد البعض أن هذا النوع من الكتابة يعد تاريخا بالمعنى العلمي، يستوي في ذلك ما كتبه الوزراء وكبار الساسة أو المثقفون والعامة، كل هذا لا يندرج تحت تصنيف الكتابة التاريخية، وإنما هو مادة يمكن أن يعتمد عليها مؤرخو الأدب والسياسة والحياة الاجتماعية، ولا يجوز أن ترقى أبدا إلى مستوى الوثيقة، فالوثائق بحكم صدورها من الجهات الرسمية، قرارات، اتفاقات، توجيهات، برامج تنمية.. إلخ، كل هذه وثائق ولا يجوز أن نعتمد عليها إلا في سياق إخضاعها لمنهج البحث العلمي، ومقارنتها بغيرها من الوثائق الصادرة من جهات أخرى.
هناك فرق كبير بين كتابة المذكرات وبين كتابة التاريخ، فالمذكرات يكتبها أصحابها (من وجهة نظرهم) باعتبارهم جزءا من الحدث أو شهودًا عليه، وغالبًا ما تُكتب مثل هذه المذكرات كتبرير لأخطاء وقع فيها كاتبوها، أو تضخيما لأدوار قاموا بها، أو إدانة لعصر أو نظام، ومثل هذه المذكرات تمثل وجهة نظر كاتبها، بينما المؤرخ لا يُعتد بمثل هذه الكتابات، رغم أنه يعتمد عليها، كما يعتمد على غيرها من الوثائق، مفسرًا ومحللاً وناقدًا، منتهيًا إلى رأي علمي، ورغم ذلك فهو لا يملك الحقيقة كاملة مهما توفرت لديه المعلومات، ومهما كانت درجة مصداقيتها.
كلما اجتهد المؤرخ وكانت لديه القدرة على النقد والتحليل والانفتاح على معارف فلسفية واجتماعية متنوعة، ومهما استخدم الوثائق بطريقة علمية، كلما كان لديه نصيب من الحقيقة وليس الحقيقة كاملة، بعكس كاتب المذكرات الذي لا يرى الحقيقة إلا من وجهة نظره فقط، ولهذا فالفرق هائل بين ما يكتبه المؤرخ وما يُكتب في المذكرات الشخصية.
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کتابة التاریخ من بین
إقرأ أيضاً:
الدكتور محمد ورداني: الشخصية السوية لا تقوم على مظاهر سطحية
اختتم مجمع البحوث الإسلامية فعاليات «أسبوع الدعوة الإسلاميَّة الخامس عشر» الذي تنظمه الأمانة العليا للدعوة بالمجمع بالتعاون مع جامعة عين شمس، تحت شعار «الشباب بين مقاصد الدين ومحاولات التغريب»، وذلك برعاية فضيلة الإمام الأكبر أ.د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وإشراف فضيلة وكيل الأزهر أ.د. محمد الضويني، وفضيلة الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية أ.د. محمد الجندي؛ حيث عُقد اليوم اللقاء الختامي بكلية الآداب بجامعة عين شمس، تحت عنوان: «الشخصية السوية ومواجهة التغريب»، بحضور قيادات وأعضاء هيئة التدريس بالكلية والعاملين والطلاب.
أكدت أ.د. حنان كامل، عميد كلية الآداب، في كلمتها على الأهمية القصوى للتعاون المشترك بين الكلية والأزهر الشريف، مشيرة إلى أن هذا التعاون يمثل ضمانة حقيقية لبناء وعي سليم لدى الطلاب، لأن الأزهر بما يمتلكه من مرجعية دينية وتاريخية، لديه القدرة على تعزيز الهوية الوطنية والانتماء، وترسيخ الفهم الصحيح لجوهر الدين والقيم، كما أن هذه اللقاءات تسهم بشكل مباشر في صقل الجوانب المتعلقة بـالأخلاق والتربية والجانب الإيماني لدى الشباب، لذلك لدينا في كلية الآداب رغبة جادة في زيادة عدد لقاءات وندوات علماء الأزهر بالطلاب، لما سيكون له من أثر إيجابي في معالجة القضايا التي تشغل عقول الشباب، بما يسهم في تحصين العقول ضد الأفكار المتطرفة وبناء جيل واع ومسؤول.
وفي كلمته أوضح أ.د. محمد ورداني، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، أن الشخصية السوية هي تلك التي تتسم بالتوازن الداخلي والانسجام الخارجي، وهي لا تقتصر على المظاهر والسلوكيات السطحية، بل تعتمد في جوهرها على بنية نفسية وفكرية متينة، ومن أبرز مقوماتها الأساسية هو القدرة على التحليل والتمييز، وامتلاك بوصلة قيمية ثابتة مستمدة من مرجعية راسخة، تمكن الفرد من مقاومة تيارات التغيير السطحية، التي يتعرض له في الحياة، نتيجة التغيرات المتسارعة، مع ضرورة أن يتجاوز الإنسان النظر إلى الأمور الشكلية أو ما يسمى بـ "القشور"، بل يجب عليه أن يدقق في الأمور ويحاول فهم الأبعاد الحقيقية للقضايا، مما يساعده على بناء قناعات ذاتية صلبة بدلاً من مجرد التبعية المجتمعية أو الإعلامية، لكل ما هو شكلي فقط.
كما أكد الدكتور محمد ورداني أن تحقيق الشخصية السوية، تتطلب أن يبدأ المسار من الفرد ذاته، حيث يجب على الإنسان أن ينظر في نفسه بعمق وصدق ويجري لها مراجعة دورية ومحاسبة ذاتية مستمرة لتقييم سلوكه وأفكاره، وهو المنهج الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم، والهدف من هذه المراجعة هو ضبط المسار وتصحيح الانحرافات قبل استفحالها، وأن يمتلك الفرد شخصية نقدية؛ أي شخصية لا تقبل المعلومة أو السلوك على كما هي، بل تمحص في كل ما تتعرض له وتتعامل معه بأسلوب نقدي، من خلال إعمال العقل والمنطق والقيم، وهذا النقد الدائم والموضوعي هو الضمانة الحقيقية لبقاء الشخصية على استقامتها السوية بعيدًا عن التقليد الأعمى أو التأثر السلبي بالتغيرات المتسارعة في محيطه.
من جانبه حذر الدكتور حسام شاكر، أستاذ الإعلام بجامعة الأزهر، من ظاهرة التغريب، لأنها ليست مجرد تأثر ثقافي عابر، بل هي مخطط ممنهج يشكل خطورة قصوى على المجتمع العربي والمسلم، ومن يقف خلف هذا التغريب لا يهدف فقط إلى تغيير الأنماط السلوكية، بل يسعى بالأساس إلى إعاقة أمتنا عن تحقيق الإنجازات والنهوض الحضاري، وذلك من خلال إحداث ضياع متعمد للهوية الأصيلة وتقويض المقومات الثقافية والدينية، التي تميز هويتنا الإسلامية والعربية، ولذا فإننا نأسف لظهور بعض مظاهر التغريب في أمتنا مثل: اندثار بعض ألفاظنا العربية الفصحى وتغلغل استخدام الألفاظ غير العربية، وكما أن الخطورة الأكبر تكمن في التباهي بهذا التمسك اللغوي المستورد، في حين أن هويتنا وتراثنا العربي الإسلامي مليء بكل مقومات القوة والابتكار والاكتفاء الذاتي الحضاري.
كما أكد الدكتور حسام شاكر أن التغريب يستهدف بشكل خاص الشباب الذي أصبح يواجه خطورة حقيقية تتمثل في التشتت الفكري والتبعية الثقافية، لثقافات لا تمثل ثقافتنا ولا تناسب أمتنا، وهذا الأمر ليس جديدًا، حيث كتب العديد من العلماء والمفكرين في هذا الشأن منذ عقود، داعين إلى ضرورة تحصين المجتمع من ضياع هويته، لكن التنبه الآن أصبح واجبًا قوميِا يتطلب تضافر جهود المؤسسات التعليمية والدينية والإعلامية، ليس فقط للتحذير، بل لتقديم البديل الحضاري المتمثل في الاعتزاز باللغة العربية، والتراث، والقيم الدينية الأصيلة، مع ضرورة بناء الجسور بين الشباب ومرجعيتهم الحضارية لضمان بقاء الأمة قادرة على الإنتاج والإسهام الحضاري الفاعل بعيدًا عن ذوبان الهوية في ثقافات الآخرين.
من جانبه، أشار أ.د. محمد إبراهيم، وكيل الكلية، إلى مفهوم "الشخصية السوية"، مؤكدًا أنها تحتاج بالضرورة إلى بوصلة توجهها نحو الطريق الصحيح، وهذه البوصلة، بدورها، تستلزم ضبطًا مستمرًا لضمان دقة توجيهها، وهذه اللقاءات التي تجمع الطلاب بعلماء الأزهر هي آلية مثلى لتحقيق هذا الضبط، خاصة وأنها تنبع من مرجعية دينية وتاريخية كبيرة وموثوقة مثل الأزهر الشريف، وهذا الدعم أصبح ضرورة في ظل ما يواجه الشباب من أزمات وتحديات فكرية وقيمية، حيث أصبح الكثير منهم ينجرف نحو البحث عن الترفيه السريع على حساب القيمة والمعنى الحقيقي للحياة، نتيجة التغيرات المتسارعة في عالمنا المعاصر.
من جانبه، أشار الأستاذ محمود حبيب، عضو المركز الإعلامي للأزهر، أن الشخصية السوية لا تعني الخلاء من العيوب، بل هي في جوهرها القدرة على الاتزان والتحلي بالحكمة عند مواجهة الأزمات، والبحث الفعال عن الحلول، مشددًا على أن تحقيق الصحوة للنفس والنهضة الذاتية، يبدأ بسؤال جوهري ومستمر هو: "من أنا؟"، معتبرًا أن هذا التساؤل العميق هو المفتاح لتحقيق التطور الذاتي المستمر.
يذكر أن «أسبوع الدعوة الإسلامية خامس عشر» والذي يحمل شعار «الشباب بين مقاصد الدين ومحاولات التغريب»، استمر خلال على مدار خمسة أيام بدأت من الأحد ٧ ديسمبر وحتى الخميس ١١ ديسمبر، بخطة دعوية شاملة في مختلف كليات جامعة عين شمس، بمجموعة من المحاول تشمل: «التغريب مظاهره ومخاطرة وسبل مواجهته»، و«محاولات تغريب المرأة وسبل ومواجهتها»، و«أزمة الشباب بين التطرف والانحلال»، «الحفاظ على الوطن في ظل موجات التعريب»، و«بناء الشخصية السوية ودوها في مواجهة التغريب».